Al-Quds Al-Arabi

الربيع العربي بعد عقد قاس

- رياض معسعس ٭ كاتب سوري

عندما قام الرئيس الفرنســي الراحل شــارل ديغول بزيارة للشرق الأوسط قال: «إني أتوجه إلى الشرق المعقد بأفكار ساذجة» فالشرق المعقــد ازداد تعقيــدا منذ تلــك الزيــارة. وخاصة بعد انطلاقــة الربيع العربــي. فمــاذا يمكن للمــرء أن يســتنتج من فترة الســنوات العشــر الماضيــة التاريخية المريرة التي مر، ولايزال، بها العالم العربي بشــكل عــام، ودول «الربيــع العربي بشــكل خــاص». فهذه فترة إســتثنائي­ة بــكل المقاييــس، لا بــد وأن ننظر إليهــا مليا ونســتخلص كل العناصر التي ســاهمت في مجرياتها، وتحولاتها، وأسباب الانكفاء في بعض جوانبها، وماذا يمكن أن تتمخض عنه في المستوى المنظور والبعيد.

إنتفاضات شعوب... أم عمليات إرهابية؟

وصمت الأنظمة التي ثارت شــعوبها ضدها أنهــا حركات إرهابية، وغالــى البعــض بإضافــة أنهــا أذرع لمؤامــرات دولية اســتغلت هذه المجموعات بتنفيذ مخططاتها.

فــي واقع الأمر أن الثورات اندلعت بفعل هــذه الأنظمة ذاتها، وهي التي حرضــت عليها دون توقــع منها. فكيف لبائع خضــار على عربة متنقلــة أن يكون أداة لإشــعال ثورة في بلد خضــع لحكم حزب واحد لأكثر من نصف قرن )الحزب الدســتوري، الذي سمي بحزب التجمع فــي عهــد بن علــي(. بعد أن انتحــر حرقا مــن حرقة في كبده بســبب استهانة موظفة أمن منعته من بيع بضاعة له.

هذا الأمر ينســحب على كل الأنظمة التي ســرعان ما وصلت شرارة بائع الخضار المقهــور محمد البوعزيزي إليها، لأن كل المقهورين الذين عانوا من الحرمان، والتعســف، والتهميــش، والقمع، والتفقير، خلال عقــود طويلة وجدوا أنفســهم وحالهــم في حالة البوعزيزي نفســها فانتصروا له ولأنفسهم.

إذن فالثورات العربية بريئة من تهمة الإرهاب، لأنها كانت ولا تزال ثورات شــعوب ضد أنظمتها، والإرهاب جــاء أيضا بفعل هذه الأنظمة بشكل مباشر أو غير مباشر.

أسلمة الثورات

الثــورات العربيــة التي انطلقت فــي البدء كانت ثــورات عفوية غير منظمة: شباب غاضب يبحث عن تغيير، وعن حرية، وعن عيش كريم.

لــم يكن لهذا الحراك الثوري الشــعبي قيادة من حــزب، أو جماعة، أو مجموعة كانت تنظم وتنظر لها بأيديولوجي­ه معينة، ولأنها افتقرت لقيادة منظمة لها أصاب الساحة فراغ، سرعان ما حاولت قوى منظمة ملأه. والحركات أو الأحزاب الإســامية التي هي أكثر تنظيما )ســريا أو علانية( والتي تعرضت للحظر من قبل الأنظمة ) في ســوريا ومصر وتونس وليبيا بشــكل خاص( احتلت الســاحة ســريعا، ونجحت في الوصول إلى الســلطة ديمقراطيا في مصــر، وتونس دون الدخول في صراع مسلح. بينما أخذت في سوريا، وليبيا، واليمن منحى الوصول إلى الســلطة عبر العمل المســلح. فأخذت أشــكالا مختلفة وتســميات عديــدة مســتمدة مــن التاريــخ الإســامي، أو مــن الشــريعة، فقامت بمواجهــة النظام من جهة، ودخلت في مواجهات فيما بينها لأســباب عقائديــة، أو بســبب انتماءاتهـ­ـا لقــوى خارجيــة وأنظمــة متصارعة فيمــا بينها، من جهة أخرى، وباتت ســاحات ســوريا، وليبيا، واليمن ساحات تصفية حسابات وحروبا بالوكالة.

وبرزت حــركات إرهابية انبثقــت من رحم القاعــدة كانت مجهولة الهويــة اســتقطبت عناصــر محليــة وخارجيــة لا تهدف إلى إســقاط

أنظمــة بقدر مــا كانت تهدف إلــى احتــال مســاحات جغرافية تقيم عليهــا أمارات إســامية. وهذا ما وجه ضربة نجــاء لمفهوم الثورات، ومطالــب الشــعوب التي قامت بهــا، فأضرت بالثورات وبالشــعوب. وجعلت الدول الغربية أن تحول نظرها عنها، خشية من انشاء إمارات إسلامية أو أنظمة إســامية متطرفة تضيف تعقيدا آخر إلى تعقيدات الشرق الأوسط.

التدخل الخارجي

مما لا شــك فيــه أن القوى الدوليــة والإقليمية كان لهــا عين تراقب عــن كثب مســارات الثورات العربيــة المختلفة وتبحث عــن موطئ قدم فيهــا، منها أنظمة خشــيت مــن امتدادهــا، أو من تهديــد لأمنها فرأت ضرورة تدخلها عســكريا وخاصــة في اليمن، أو في ليبيا، وســوريا. أو في المســاعدا­ت المالية، ودفع قيادات في الجيش لاســتلام السطلة كمــا حصل فــي مصر لإســقاط حكم الإخــوان المســلمين، وكذلك في السودان، والمحاولة الفاشلة في ليبيا.

أما القــوى الدولية فــكان تدخلها لمصالح اســتراتيج­ية كروســيا، وأمريكا، وإيران، وتركيا في ســوريا، وكذلك الأمــر في ليبيا. والقوى الدولية بحكم مصالحها التي لا تلتقي بالضرورة مع مصالح الشعوب الثائرة آثرت الزج بنفسها في أتون الحرب كروسيا في سوريا، وليبيا فارتكبــت جرائــم حــرب، أو بالتواطؤ في هــذه الجرائم عبــر الصمت الرهيب إزاءها. كما حصل في اســتخدام الأســلحة الكيميائية من قبل النظام الســوري ضد المدنيين وصمت أدارة أوبامــا عنه، رغم وضعها خطوطا حمراء سرعان ما تخلت عنها.

إن ما نســتخلصه من عشــر ســنوات خلت هو أن الأنظمــة العربية هــي منظومة متشــابهة في سياســاتها الداخلية إزاء شــعوبها، وهي

مستعدة لأن تعيد الســيناري­و السوري إذا شعرت بخطر السقوط، ولا تتواني عن التدخل في شــؤون شــعب آخر لحفظ مصالــح لها أو درء خطــر عنها، وغير مســموح لهذه الشــعوب المقموعة أن ترفع رأســها، وأن هذه الأنظمة وإن ادعت الســيادة فلا ســيادة لهــا طالما أنها ومنذ الاســتقلا­ل لــم تفلح فــي بناء نظــام سياســي واقتصــادي ودفاعي لترســيخ سيادة الدولة، فما هي ســيادة الدولة في سوريا مثلا عندما تنتهك أجواؤها بشكل مستمر من قبل إسرائيل بقصف يطال منشآت لها ولإيران التي جاءت لتحمي النظام السوري من شعبه.

سياسة الثورات المضادة

واحتلال دول أجنبية مســاحات واسعة من أراضيها..وإن حاولت بعض الدول أن تنتهج سياســة الثورات المضــادة لوأد الربيع العربي، فهــذا الربيع لم ينته فصولا بعد، فانتفاضــة العراق ولبنان، والجزائر خير دليل على ذلك، وهذا يعني أن هناك إصرارا من الشــعوب العربية في إرادتها للتغيير، فالوضع الراهن لايمكن أن يســتمر، في ظل تدهور وضع أكثر من دولة اقتصاديا واجتماعيا وسياســيا، كما يحصل في لبنان وســوريا مع انخفاض جنوني لعملاتهما، أو بدرجة أقل كما في العراق والجزائر.

والــدول الغنية ليســت بمعــزل عن العــدوى لأســباب تتعلق بقمع الحريات، وانتهاج سياســات لا تتوافق ورغبات شعوبها، فالمستقبل القريب ربما لا يظهر النتائج المباشــرة للثورات العربية، لكن المســتقبل المتوسط والبعيد سوف تتبلور رؤى سياسة جديدة، وحراك اجتماعي أكثر تنظيما بحيث يصعب على نظام ما الوقوف في وجهه.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom