Al-Quds Al-Arabi

سحب الجنسية... إجراء سلطوي بغيض

- *كاتب وأكاديمي جزائري

لم تعد مسألة تجريد الأشخاص من الجنسية من هذا العصر العالمي الذي يوفر إمكانات رائعة لمنح الجنســية، وتمكين الأفراد من وضعيات قانونية وسياســية محترمة، ليس لمواطني الدولة فحســب، بــل للوافدين واللاجئين والفاريــن والراغبين في التنقل. فســحب الجنســية من الأشــخاص، وتجريدهم منها، ســمة وعنــوان الأنظمة الشمولية البغيضة، التي آلت إلى زوال، وبقي فقط النظام الجزائري وحده في العالم الذي يطــارد مواطني الدولة الجزائرية، بتجريدهم من جنســيتها، التي نالها الشعب عبر كفاح مرير ذات يوم من شهر يوليو عام 1962.

الســعي إلى تقديم مشروع مرســوم تنفيذي، لتجريد المعارضــن الجزائريين في الخــارج من الجنســية، ينم عن تصرف ســلطوي، يذَكرنا بعهد فيشــي4 الذي انتزع الجنســية الفرنســية من اليهود، مطلع عام 1940، بعد ما حصلوا عليها عــام 1870 في ما عرف بمرســوم ألفونس كريميو.

سياق الحرب العالمية الثانية وانهيار النظام الفرنسي، هو الذي أوعز إلى فيشــي وعصابة الماريشال بيتان، إلى التماس إجراء ســحق اليهود، وخلع الجنسية الفرنسية عنهم عنوة، ما يؤكد في نهاية المطاف والتحليل أن الخوض في الجنســية يعبّر عن ضعف وهشاشــة النظام، على ما نلحظ في الحالــة الجزائرية القائمة اليــوم. إن إمكانات وكوامن الدولة وترســانته­ا الحربية، يجب أن تبقى بعيدا عن صراع الأفراد، ولا تســتخدم من قبل جهة النظام ضد المعارضة الفاعلة والمؤثرة، وعلى حساب الدولة كمؤسسة ترمز إلى أمة ذات سيادة وتاريخ، ومرجع أعلى ينأى بذاته عــن أي تماه مع مصالح الأفراد والأشــخاص والجماعات والأحزاب، فبــأي حق يلجأ وزير العــدل حافظ الأختام، بإيعاز مــن قيادة الأركان إلى اســتخدام إجراء ســحب الجنســية عن بعض المعارضين الجزائريــ­ن في الخارج،

بينمــا الأفعال نفســها لا تجَّــرم، ولا تفضي إلى ســحب الجنســية لّما يتعلق ببعض الجزائريين في الداخل. مشهد عنصري قد يكرسه مرســوم تنفيذي مزمع المصادقة عليه لاحقا. لا يوجد أي وجه قانوني ولا سياســي ولا أخلاقي، لكي تلجأ الســلطة التنفيذية ممثلة في وزير العدل حافظ الأختام، وممثل قيــادة أركان الجيش ومصالح الأمن، من أجل أن يورط مصداقية الدولة ورســميتها ورمزيتها، لكي ينــال من صفة المواطنة، من بعــض الجزائريين، ما يؤدي فورا إلى إحداث شــرخ قانوني خطيــر لا يلتئم ولا يَجْبر التَّصدعــات التي تخلخل الوضع العام، بشــكل مســتمر علــى ما يحدثه نظــام العســكر. اللجوء إلى الترســانة القانونية للدولة، ولو بشــكل معنوي ورمزي، لأن الدولة غيــر موجودة مــن الناحية الشــرعية، ولا مــن الناحية المشــروعي­ة، فهي بعيدة عن تمثيل الشعب، ولأنها أبعد ما تكون متزنة مع ذاتها، بعد حكم خائب دائم لأكثر من ثلاثة عقود، تعرضت فيه الهوية الجزائرية للمحو والاضمحلال والتشوه، زادها أخيرا إجراء عنيف بتجريد الجنسية من بعض شــخصيات المعارضة الجزائرية فــي الخارج، فَقْد المفْقُود.

ما يمكن أن يقال في اللجوء إلى ســحب الجنســية هو أنه إجراء سُلطوي تِقني، لا يمت بصلة إلى اعتبار ومكانة الهويــة الجزائريــ­ة. بمعنــى أن قلة حياء وعــدم أخلاق وعبث بمقــدرات ومقومات الهوية هو الذي جَرَّ الســلطة إلى اســتغلال فج لإجراء نزع الجنســية عــن المعارضة الفعليــة والمؤَثِّرة، مــن دون تقدير أن كل ذلــك بلا معنى وأنــه يزيد من عزلة نظــام الحكم علــى الصعيد الدولي، لأن عصر ســحب الجنســيات قــد ولىّ فعــا، لأنه قرين بالأنظمة الشمولية والديكتاتو­ريات والأنظمة السلطوية والبوليســ­ية. تَصَرّف مثل هذا لا يمكن أن يفَسِّر إلا بحالة من الفِــرار إلى الأمام، نظام يتخبــط لا يقوى على الرؤية السلمية والحكيمة للواقع، بل هو إعدام له على ما نقرأ في افتتاحيات مجلة «الجيش» لســان حال قيادة أركان الأمن الجزائري. ســحب الجنســية، على ما نلحظ ونشاهد لا يؤثر إطلاقا في الحَراك، بقدر ما يزيده حيوية واشــتعالا، لأنه حرر الخارج من النظام الســلطوي، وعبّر حقيقة عن استقلاله السياسي، وبقي له فقط أن يجري الاعتراف به قانونيا وشرعيا من قبل الهيئات الأممية. فقد بيّن الشتات الجزائــري في الخــارج عن عدم شــرعية الحكــم القائم في الجزائر، من خلال عدم مشــاركته في الاســتحقا­قات الانتخابية التي نظمتها السلطة، منذ 22 فبراير 2019.

منح الجنســية أو ســحبها له صلــة بمصداقية الدولة وشــرعيتها، وهو غير متوفر في الحالة الجزائرية عندما غاب عــن التصويت عن الدســتور، القانون الأساســي للدولة، ما يناهز الثمانين في المئة. فالرقم لوحده له دلالته وقوته لكي يعدم شرعية الســلطة ويرفع يدها عن مسألة الجنســية الجزائرية، لأنهــا لا تســتأهلها قانونا لغياب شرعية الشــعب والحكم باســمه، ولا يحق لها إطلاقا أن تلجــأ إلى الموارد المعنويــة والرمزية للدولــة من أجل أن تخــوض صراعات تتم على صعيد أفراد من الســلطة ضد المعارضة، ما يعبر عن عدم تناســب في وســيلة «الحرب» بين الطرفين. فمن الخيبة وقلة الحياء أن يوظف طرف في السلطة رصيد الدولة لمواجهة خصمه في المعارضة، بالقدر نفســه والطريقة التي تبتز بها أموال الدولة من الأطراف ذاتها التي أخفقت في السياسة الداخلية والخارجية على الســواء. وعليه، أو هكذا يجب أن يفهم تصرف الســلطة حيال المعارضة الحقيقية في الخارج، أن مســألة ســحب الجنســية تعبر في العمق عن قوة الخــارج على الداخل، وأن عصر العولمــة التي تلغي التاريــخ والجغرافية معا، وتجعل إمكانية التعبير حقا لا يكرســه النظام، بل المجال الخارجــي الذي صــار بقوة العصــر الفائق جــزءا من الداخل. فشرعية الدولة لا تقوم بعد خيبة وفشل الأنظمة التسلطية والسلطوية في إرســاء معالم وحقائق الدولة المدنية المعاصرة، بل كل الشــرعية تقريبــا صارت تعزى وتؤول إلى ما تقتضيه المؤسسات الدولية. فالدولة بما هي مؤسسات عمومية ووحدة سياسية في المجتمع الدولي هي ما تســتجيب إليه، في الغالب، من القانون الدولي العام. وهذا الوضــع الذي امتثلت له الجزائر غداة الإســتقلا­ل، حيث برهنت قبل اســتحقاق الإســتقلا­ل والسيادة، أنها أمة تســتند إلى تاريخ، وأن الوجود الفرنسي في الجزائر هو استعمار وحالة قائمة لأكثر من قرن من الزمن الحديث والمعاصر. فقد كان لمســألة الســيادة والعضوية في هيئة الأمم المتحــدة شــروطها ومقتضياتها ومن ثــم امكانية التجاوب والتســاوق مــع الوضع الدولــي الجديد. لكن اليوم، من أين للنظام الجزائري أن ينفرد ويســتأثر بحق ليس له، لعدم توفر الشرعية المطلوبة في مناطق مهمة في الجزائر وخارجها، عبّرت بشكل حصري عن عدم اعترافها بالســلطة كممثلة للشــعب. فالأمر يدعو إلى بحث مسألة شرعية الســلطة ونظام الحكم القائم وليس التمادي في اغتصــاب ذخائر وإمكانــات الدولة وكوامنهــا، من أجل تحصين عبثي لقيادة أركان الجيش والأمن.

إنه من العبث والســخرية أن تلجأ السلطة إلى تكميم الأفواه وســحب الجنسية عن مواطنين حريصين الحرص كله على مســتقبل آمِن ومُزْدهر، بينما تنعت قيادة الأركان الجيــش والأمــن بأنها الهيئــة الصامتة التــي لاذت إلى المقاعد الهامشــية والجانبية، لا تعــرف كيف تأخذ الكلمة فــي أهم الأحداث التــي تجري في الداخــل، وما يطرأ من أحداث في السياســة الدولية، ناهيك مــن أن كبار الألوية والضباط وعليــاء القوم من الــوزراء يختارون الخارج كأفضل مطاف ينهون فيه حياتهم، على ما نلحظ ونشاهد ونســمع، ضاربين عرض الحائط بالجنســية الجزائرية و »أساطيرها».

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom