Al-Quds Al-Arabi

الانهيار المعيشي يدفع الأطفال اللبنانيين إلى سوق العمل الشاق

- عبد معروف

انعكس الانهيار العام وتعقيدات الأزمـة اللبنانية على مفاصل الحياة العامة في لبنان وخـاصـة الاجتماعية، وأكـثـر مـا تأثر بهذا الانهيار هم الأطفال الذين دفعهم الفقر والعوز وتـردي الأوضــاع المعيشية إلى سوق العمل الشاق من أجل مساعدة ذوويهم على تأمين ثمن الـــدواء للمرضى، ولقمة العيش، أمام ارتفاع أسعار المواد الغذائية والأدوية والسلع الاستهلاكي­ة.

تعد ظاهرة عمل الأطفال من أخطر المشاكل الاجتماعية الـتـي تـؤَثـر سلبا على الطفل والمجتمع في آن واحد. فهي تحرم الطفل من حقوقه الأساسية وتقضي على حلمه بالتعلم والحصول على مستقبل أفضل. وإن كانت العناية بأطفال اليوم وهم في الواقعِ شباب الغد مـن أهــم مقومات بناء مجتمع سليم وحــضــاري، فــإن إهمالهم سيمنع الارتـقـاء الاجتماعي.

الحـديـث عـن ظـاهـرة عمالة الأطــفــا­ل في لبنان، لا يمكن أن يتم بمعزل عن الظروف السياسية والاقتصادي­ة التي تُرخي بظلالها على الوضع المعيشي في هذا البلد. ولا يمكن حصر مسؤولية مكافحة هذه الظاهرة بجهة معّينة دون سواها، فالتدخل في هذا الإطار ليس حكرا على جهة معينة. ويجب معالجة هذه الظاهرة بشكل جذري، نظرا للانعكاسات السلبية والتداعيات السيئة والمفاعيل غير محمودة العواقب التي تنتج عنها.

فالمشكلة لا تتمثل في عمل الأطفال بحد ذاته فحسب، بل أيضا في التوجه إلى أسوأ أشكال العمل في ظروف تنعدم فيها شروط الصحة والسلامة المهنية. وهذا يجعل هؤلاء الأطفال يتعرضون لمخاطر شديدة تؤثر على صحتهم وقد تُعرض حياتهم للخطر الشديد في كثير

من الأحيان. وهو ما حصل مع العديدين منهم، وفي أكثر من منطقة لبنانية كما علمت «القدس العربي».

ونقلت خطة العمل الوطنيّة التي أعدتها اللجنة الوطنية لمكافحة عمل الأطفال ومنظمة العمل الدولية تقارير تفيد بأن أكثر من 150 ألف طفل يَقعون ضحايا عمل الأطفال والإتجار بهم في لبنان. كما أن لبنان قد يكون من الدّوَل التي تسجل النسبة الأعلى في العالم للأطفال العاملين بين 10 و 17 عاما.

تقول الخطة أن عمل الأطـفـال قد تفاقم أخيرا على الأرجح مع نزوح أعداد كبيرة من السوريين إلى لبنان بسبب الأوضـاع الأمنية في بلدهم. وتشير الدراسات إلى أن الأطفال الـسـوريـن وأطــفــال الــشــوار­ع فــي لبنان، معرضون بصفة خاصة لممارسات العمل الاستغلالي­ة. ففي دراسـة أجريت أخيرا في المخيمات الفلسطينية جنوب لبنان، تبين أن الأطفال الفلسطينيي­ن يتعرضون للاستغلال من أصحاب العمل، ما يضاعف مخاطر العقاب الجـسـدي والإســـاء­ة النفسية. ويعد الفقر وسوء الأوضاع الاقتصادية من أبرز العوامِل المؤدية لعمل الأطفال حيث يقوم بَعض الأهل بزج أولادهم في أعمال مختلفة دون الالتفات للمخاطر التي تحيط بها. في هذه الحالة، يعتمد الأهل على الطفل من أجل المساهمة في جزء مِن نفقات الأسرة وَلكن المشكلة تتفاقم في حال انفصال الوالدين وخصوصا في حال مرض أو عجز أو موت أحدهما إذ يصبح الطفل هو المصدر الرئيسي لدخل الأسرة.

عباس دهيني طفل لبناني، يبلغ من العمر 12 عاما، ترك المدرسة هذا العام، ويعمل في ورشة حـدادة في مدينة صور جنوب لبنان،

يحمل مطرقة من الوزن الثقيل، يساعد صاحب الورشة في أعمال صناعة الأبواب والشابيك الحديدية، قال لـ«القدس العربي» وهو يرتجف من البرد «توفي والــدي العام الماضي بعد إصابته بفيروس كورونا، تركني يتيما مع أمي، طلبت مني أمي أن أشتغل في ورشة الحدادة مع أحد أبناء قريتنا، كان هذا منذ عام بعد أن أقفلت المدارس أبوابها بسبب الاجراءات التي اتخذتها وزارة الصحة للوقاية من فيروس كورونا، وبعد قرار وزارة التربية تلقي الدروس التعليمية عن بعد، لم أتسجل بالمدرسة هذا العام حرصا مني على تأمين الــدواء ولقمة العيش لأمي».

وردا على ســؤال حـول مساعدات الأهل والأقارب لهم، أجاب كل المساعدات لا تكفي، والأقارب والأهل يعيشون بحالة صعبة.

وختم قائلا، لذلك فأنا مضطر لترك الدراسة والعمل ولو كان شاقا، ربما أتعرض للأذى والضرر، لكن ليس هناك حل آخر.

الحياة في مدينة صيدا جنوب بيروت، ليست أفضل حـالا، فعمالة الأطفال تشكل ظاهرة عادية، ولا تستفز المشاعر، ولا تثير الغضب، وليس من إجـراءات رسمية لبنانية تلاحق المخالفين، الأطفال يعملون منذ الصباح في ورش الحـدادة والنجارة ومسح الأحذية وبيع أوراق اليانصيب ودكاكين البيع، بل وفي مدينة صيدا كما في المدن اللبنانية يجد الأطفال فرصا للعمل أكثر من الشباب والرجال، لأنهم يتقاضون مرتبات أقل ويعملون دون حقوق أو رقابة نقابية .

تـتـجـول «الــقــدس الــعــربـ­ـي» فــي المدينة الصناعية قــرب مدينة صـيـدا حيث ورش الحــــداد­ة والــنــجـ­ـارة وتصليح الـسـيـارا­ت ومـسـتـودع­ـات الخـشـب. عــدد مـن أصحاب الورش طلب منا عدم التصوير. أحمد الميسي، طفل لم يتجاوز عمره 15 عاما يعمل في ورشة لإصـاح السيارات المعطلة، بـدا على وجهه التعب والارهاق، اتشح وجهه بسواد شحوم وزيوت السيارات، يمسحه بين الحين والآخر بيده، يعمل المستحيل من أجـل إرضــاء رب العمل، ليتقاضى مبلغا بسيطا من المال يحمل نهاية كل نهار خبزا وطعاما لأهله.

ردا على ســؤال، أجــاب: «اشتغل هنا مع

صاحب الورشة مقابل 20 ألف ليرة كل يوم عمل )حوالي دولارين)» وتابع «لم يعد بقدرة والدي تأمين مصاريف البيت، نحن عائلة مؤلفة من 5 أبناء بالإضافة إلى والدتي ووالدي، ارتفعت أسعار المواد الغذائية وحليب الأطفال والأدوية بشكل جنوني، ومرتب والدي الشهري لا يكفي لشراء الخبز والأدوية لوالدتي».

وختم قائلا: «مـا يؤلمني، أنني لا أذهب إلى المدرسة ولا أرافق أصحابي إلى الملاهي والسباحة فـي أيــام الصيف، هـم يذهبون ويفرحون، وأنا أعمل عملا شاقا لتأمين ثمن الطعام لأهلي».

في المدينة الصناعية قرب صيدا، أطفال يتوزعون على ورش العمل الشاق، وجوههم تتشح بالسواء وتعمل بجهد كبير لتأمين لقمة العيش، طفولة ابتعدت عن المدرسة والملاعب وملاهي الأطفال لتعيش قسوة الحياة.

وفي مدينة طربلس شمال لبنان، يزداد وضع الأطفال سـوءا، وتعتبر من أكثر المدن اللبنانية فقرا، بل تؤكد التقارير الدولية ووزارة الشؤون الاجتماعية اللبنانية بأنها الأكثر فقرا على ساحل البحر المتوسط، وهذا ما ينعكس بشكل مـأسـاوي على أوضـــاع الأطـفـال في المدينة وجوارها، ما دفعهم للانخراط بسوق العمل الأكثر قسوة وشقاء.

وعلى رصيف مستديرة النور مدخل المدينة التي كانت ميدانا للمحتجين والمتظاهري­ن اللبنانيين، خلال الأشهر الماضية، طفل ضعيف الجسد لا يتجاوز 15 عاما من عمره، ماسح أحذية يجلس على مقعد خشبي يرفع صوته )بويا .. بويا ( يطلب من المارة تنظيف أحذيتهم، يكرر النداء بأعلى صوته يصطاد الزبائن بين فترة وأخرى، يمسح أحذيتهم مقابل فتات من الليرات اللبنانية.

الحزن يستوطن معالم وجهه، ويديه ملوثة بلون الأحذية، قال بصوت خافت: «أنا يتيم الأب والأم، أعيش مع جدتي في منطقة باب التبانة في طرابلس، لم أذهب يوما إلى المدرسة ولا أعرف القراءة والكتابة ، لجأت إلى العمل )مـاسـح أحـذيـة ( لتأمين ثمن لقمة العيش والدواء لي ولجدتي» .

لم يجمع الكثير من المـال في ذلـك واستمر بتنظيف الأحذية إلى ما بعد اليوم، الظهر

بانتظار أن يجمع مـالا يكفي لشراء والطعام، قال»ربنا كريم وبيرزق».

رغم أن انخراط الأطفال بسوق العمل مناف للأعراف والقوانين والمواثيق الدولية المعنية بحقوق الطفل، إلا أن هـذا الانـخـراط الذي شكل ظاهرة خطيرة في الآونة الأخيرة، يؤذي أجسادهم ومشاعرهم ويهدد مستقبلهم، ويؤثر سلبا على النمو والتطور الجسدي للطفل، لأنــه غالبا مـا يعمل فـي أشـغـال لا تتناسب مع قدرته البدنية وطاقته الجسدية. بعض الأطفال يعملون في بيئة غير صحية وفي أعمال مضنية ويُعانون من سوء التغذية والإرهاق الشديد.

يرى الناشط اللبناني أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية حنا حــداد، أن عمالة الأطـفـال فـي لبنان أصبحت ظـاهـرة تشكل خطرا على حياة الأطفال ونموهم ومشاعرهم ومستقبلهم.

وأكـد حـداد لـ«القدس العربي» أن خروج الطّفل إلى سوق العمل يجعله عرضة للتعامل مع أصناف مختلفة من البشر، وقد يعاني من سوء المعاملة والعنف ويصبح عرضة لتعلم سلوكيّات غير حميدة كالتدخين وتعاطي المخدرات واستخدام الألفاظ النابية، مشددا على أن ترك الأطفال لمدارسهم والانخراط في سوق العمل يؤَثر سلبا على إمكانية الطفل على تطوير قدراته المعرفية ولاسيما في مجالات القراءة والكتابة والحساب والإبداع.

كما أن عمل الأطفال يؤثر سلبا على نموهم العاطفي حيث يعانون من القلق خوفًا من مستقبل مظلم، والكآبة والحـزن والانطواء نتيجة الإحساس بالظلم والقهر.

وحذر حنا حداد من تصاعد ظاهرة عمالة الأطفال في لبنان، بعد أن أصبحت الأوضاع المعيشية صعبة، والتفكك المجتمعي وارتفاع نسبة الفقر تدفع الفقراء لإرسال أطفالهم إلى العمل الشاق رغم المخاطر الجسدية والنفسية التي يتعرضون لها.

عمالة الأطفال مشكلة اجتماعية وأخلاقية وظاهرة خطيرة في المجتمع اللبناني، ويبدو أن مجمل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعي­ة والانهيار العام في لبنان، شكلت دافعا رئيسيا لعمالة الأطفال. الخبز

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom