Al-Quds Al-Arabi

فيوليت خوري: قصة أول صيدلانية مثال لنضال وعطاء الأم الفلسطينية

-

فيوليت خوري من مدينة البشــارة، الناصرة داخل أراضي 48، سيدة وأم لثلاثة أبناء، مثال على السيدة الفلسطينية التي تســتحق التحية والتقدير والمحبة على مدار العام وليس فقط يومي المرأة والأم في آذار من كل عام، بفضل دورها في مسيرة النجاح في العلم والعمل والبقاء وصيانة الهوية الفلسطينية لدى فلسطينيي الداخل رغم كل الظروف المستحيلة غداة نكبة .1948

وتعتبــر فيوليت خــوري )83( الصيدلانية الفلســطين­ية الأولى في البلاد بعد النكبة، وقد ولدت في الناصرة عام 1938 ومقيمة فيها حتى اليوم.

ويســتدل من لقاء « القدس العربي» بهــا أنها لطالما جمعت بين الحروف والأرقام، فهي مختصة في الصيدلية لكنها مثقفة. تعلمت فــي الصفوف الأولى فــي المدرســة الابتدائية في مار يوسف في الناصرة ثم انتقلت إلى مدرسة راهبات مار يوسف في يافا حيــث أكملت المرحلة الثانوية ضمن القســم الداخلي بسبب البعد الجغرافي وصعوبة المواصلات.

وتســتذكر ذلك بالقــول إن أوضاع المــدارس الثانوية في الناصرة كانت وقتها ليســت على ما يــرام وكان أهلها على ما يبدو معنيين بمنحها فرصة للتعلــم وحيازة ثقافة مرموقة في مدرسة ممتازة وهي من مدارس يافا الفلسطينية العالية التي بقيت تحت رعاية الســفارة الفرنســية، وهي مدرسة داخلية وأقيمت عــام 1870 وعاصرت يافا العريقــة طيلة عقود. وبعد النكبة بقيت هذه المدرســة العريقة اليافاوية التي تعلمت فيها في المرحلــة الثانوية فيوليت خوري بفضــل تصميم الرهبان على بقائهــا وقد اســتقطبت أبناء الأجانب كالدبلوماس­ــيين والعاملين الأجانب كموظفي شركات الطيران وبعض القادمين الجدد من اليهود من دول العالم خاصة الفرنكوفون­ية، وكانت تمتاز بثقافتهــا العالية وطابعهــا الارســتوق­راطي. وتعرب فيوليت خوري عــن اعتزازها بما وفره ذووهــا لها من فرص للتعلم وتشــيد بدور والدها الحاج أبو شحادة ووالدتها هناء سروجي وتكرر قولها: « أنا فخورة بعائلتي النصراوية «.

خمس لغات

كمــا تســتذكر خــوري أن صديقة واحــدة مــن مدينتها الناصرة قد رافقتها في رحلة العلم إلى يافا وهي بنت الدكتور ســكومبيرد­يس الطبيب اليوناني المقيم فــي الناصرة. وعن تلك الفترة الحاســمة في صيغة شــخصيتها تقــول: «حينما وصلت ليافا كنت في الثالثة عشــرة مــن عمري. كانت تجربة صعبة جدا وفيها تحــد وانطلاقة ولغة التدريس الأساســية كلغة أم في المدرســة الفرنســية وقد تداولناهــ­ا خلال الدوام وقدمت الامتحانات بالفرنســي­ة وفق منهــاج ومعايير وزارة التعليم الفرنســية، وكان الممتحنون يأتون من مدينة بواتييه الفرنســية. ولاحقــا صــرت أجيــد الفرنســية والإنكليزي­ة والإيطالية والعربية والعبرية .«

وأوضحت أنها كانت تعود للبيت في الأعياد، مرة كل فصل، أي ثلاثة شــهور، تعود للبيت لأســبوعين والذهاب من وإلى الناصرة إلى حيفا، وبالنســبة لها هذه مشقة كبيرة، إذ كانت وصديقتها تســتقل حافلة من تل أبيب إلى حيفا وكان أهلها أو أهل صديقتهــا ينتظرون هناك لنقلهما للبيــت. وتنوه أن أمها ووالدهــا أو أهل صديقتهــا كانوا يتناوبون علــى ذلك وهكذا عند العودة ليافــا: البعد عن البيت صعــب وكذلك هناك بعد اجتماعي وفكري لا بعدا جغرافيا فحســب بين الناصرة وبين يافا التي وصلت لها عام 1953.

مشاهد مدينة يافا

وبعد النكبة بســنوات تستذكر مشــاهد يافا وتقول إنه لا يمكن نســيانها: «هذه تجربة أثرّت علي كثيرا. بعمر 14 ســنة انتقــل من الناصــرة التي كانــت تعجّ باللاجئــن من طبرية والمجيدل وقــرى الجليل وحيفــا وغيرها، خاصــة أنه مقابل بيتنا في منطقة ســوق الإثنين أو المدرسة الابتدائية كان هناك مخيم للاجئين الوافدين يســمونه «الأري أي». عشت وكبرت بين اللاجئين في الناصرة وشــهدت عطــف وتعاطف أهلها مع اللاجئــن وعلاقاتهم الإنســاني­ة القوية وكنا نشــعر أن هذا واجب علينا. من الناصرة مع كل مآســيها وزحمتها باللاجئين انتقلت ليافا ووجدتها مدينة عامرة في بيوتها فارغة من أهلها وأصحابها وكانت تبدو كأنها أم حزينة تبكي أبنائها «. كما أنها تستذكر اللاجئين في الناصرة فقد شاهدت بيوتا فارغة في يافا القديمة مقابل مدرســة «مار يوسف » مع بيوت مهدمة كثيرة مع الناس وأمتعتها والبحر خلفها وعن ذلك تقول «أتخيل في هذه البيوت الفارغة وجوه اللاجئين في الناصرة وأتساءل اين هم الآن يا تــرى اليوم ولا أحد يحس فيهم؟ هذا المشــهد قد هزّني من أعماقي. كذلك حينما تجولت شــاهدت البيارات فارغة في يافا، والبيوت الكبيرة الفارغة، ومقابل المدرســة وعلى جدار معســكر جيش كتب «ملاعب كرة القــدم لفريق يافا» واطلعت على عظمة عروس فلســطين مدينة يافا وعلــى حجم كارثتنا. شــارع الحلوة كان في اتجاه الســاعة مليئا بأربع من مطابع الصحف الفلســطين­ية وكلما مررت هناك كنت أهتز، وذات مرة دخلت مطبعة صحيفة «فلســطين» وشاهدت ماكينات ضخمة تجول بينها الفئــران فخرجت منها وأنا أبكــي، لكن زميلاتي الطالبات اليهوديات لــم يكترثن وعندما أخبرتهن بما كان هنا لم يصدقن طبعا. شاهدت دور السينما والنوادي الثقافية التي تؤكد أن المدينة كانت عاصمــة الثقافة. يافا علمتني الكثير عدا التعلــم الثانوي وغرس حب التعليم من قبل راهبات غرســن حبه في شــراييننا وأثرت فيّ مشــاهدها وأدركت هول النكبة الفلسطينية .«

الجامعة العبرية

فــي عــام 1958 أنهت الســنة الأولــى فــي الصيدلية في الجامعــة العبرية في القــدس، واصطدمت بجــو غير منفتح ويمتاز بالضغط بخــاف أجواء يافا كما تؤكد وتضيف: «كنت اتحرك بتصاريح. وفي إحدى المرات وضع الحاكم العســكري الإسرائيلي علي شرطا سياســيا ينطوي على محاولة ابتزاز غير مقبــول مقابل الحصول على تصريح ســفر لأســبوعين فرفضت ألا أخضع ولذا قررت الانتقــال لروما بنصيحة خالي الدكتور الراحل أنيس سروجي ». وتؤكد أنها حازت على فرصة بفضل الذي أمّن له فرصة للدراســة في روما وهي لا تزال تذكر تلك البداية المثيرة: «أمنّوا لي سكنا لدى الراهبات في العاصمة الإيطالية. ذهبت لهناك في الباخرة طيلة خمسة أيام وما زلت أذكر كيف ابتعــدت للمرة الأولى من البــاد وما زالت صورة حيفا المســتندة للكرمل العالي من قلب البحر في مخيلتي وأنا بعرض البحر حتى نابولي ومنها سافرت بقطار لروما. وصلت ليلة عيد الميلاد وشعرت كأنني دخلت جوا مختلفا تماما وكانت صديقة وعائلة ســاعدتني وأقمت لدى راهبــات كن يقمن في مدرســة الزبرة في حيفا وعشت عندهم». ونوهت أنها وصلت إلى روما بالعشــرين من عمرها وكانت الحيــاة هناك غريبة جدا عليها ولم تتقن بعد الإيطالية لكن الفرنســية ســاعدتها جدا، وتقول إنها لم تشــعر بالغربة لكنها شــعرت بالاغتراب لأنها وجدت بيئة مختلفة وعندها حاولت فهم هذا الشــعور: « شعرت للمرة الأولى معنى أن يعيش الناس بسلام ولم أختبر ذلك من قبل، فهنا عشــنا من حرب إلى حرب. كما شاهدت كيف أن الســام هو الحياة الطبيعية وهو كالصحة لا يعرف الناس قيمتها إلا عندما يمرضون. وهناك ولد التزامي بالعمل من أجل السلام. هناك أدركت معنى حرية الشعور والفكر وأكون كما أنا تماما وكذلك استمتعت بالجو المسيحي ولكن بعد فترة افتقدت البعد الإسلامي واليهود في حياتنا.»

وردا على ســؤال توضــح أن التواصل مع أهلهــا كان يتّم بالرســائل الأســبوعي­ة وبالتفصيل: «كنت أقرأ الرسالة التي تصلني كل يوم. للأسف لم احتفظ سوى ببعض الرسائل هذه لأنني عندما استعديت للعودة، تنازلت عن كثير من الأغراض لكنني أحفظهــا عن ظهر قلب وأذكر خط والدي الجميل. رحلت

إلى إيطاليا وعدت للمرة الأولى بعدما أنهيت الســنة الرابعة. بنيت هناك صداقات مع طالبات من جنسيات مختلفة وحافظت على علاقات مع بعضهن ومنهــن صديقتي ميري الأمريكية من منطقــة ديترويت وعندمــا زرت أمريكا مرة قبــل عقود كثيرة استعنت بابني وبحثنا عنها ووجدتها ولما هاتفتها عرفتني من أول كلمة والتقينا واســتذكرن­ا ذكرياتنا الحلوة. كذلك عندي صديقــة مصرية تدعى عناية صبري فــي صقلية. كان الطعام في الديــر معروفا ومحدودا، وفي رمضــان كانت تصوم وفي أحد الأيــام أغمي عليها نتيجة العطــش فرافقتها أنا وزميلات إيطاليات وسهرنا معها وأعطيناها التحلاية لأنها كانت تصوم وتحتاج للسحور .»

قصة ودرس

فيوليت خوري التي ما زالت ناشطة ونشيطة في فعالياتها الخاصــة والاجتماعي­ة تســتذكر أنه عندما ذهبت للســفارة الإسرائيلي­ة في روما للتصديق على الشهادة الجامعية رفضوا التوقيع لأنها تضمنت: «ولدت في الناصرة في فلســطين عام 1938» وطلبوا منها أن تغيّرها لإسرائيل « لكن رئيس الجامعة الإيطالي أدخلني لمكتبه رغم أنه لم يعتد استقبال طلاب رفض موقف السفارة الإسرائيلي­ة ودعاني للتمسك بالحقيقة وبحقي وموقفي، وقال إن أحدا لا يســتطيع أن يملي علينا ونحن نعمل بشكل صحيح والكتابة في الشــهادة مستندة لحقيقة، وطلب مني العودة للســفارة والإصرار على الحق وما أغيره كرمال أي إنسان لأن الجامعة تربي على المبادئ لا علوما فقط. فعدت للســفير وقلت له: أنــا والجامعة مصممتان علــى الاحتفاظ بفلســطين في الشــهادة كونها حقيقة، وعندها وقعها السفير الإســرائي­لي بعدما أخبرته بأنني مصممة جدا على ما جاء في الشهادة وهكذا موقف الجامعة. وكانت هذه عبرة ودرسا .«

يشار أن والدها لطفي الحاج أبو شحادة من حيفا كان مثقفا يعمل لغويا وعاشــقا للغات وعمل مترجما في فترة الانتداب، ولاحقــا افتتح «الصيدليــة الأهلية» في الناصــرة عام 1949 بعد ســقوط حيفا وعملت فيها هي وشــقيقتها مــاري. وقبل ذلك كانت فــي الناصرة صيدليتان: صيدلية موســى الخازن في الناصــرة، وكانت صيدلية ثانية )لطفي شــراب وتّحولت لاحقا ليد أديب حاج(. وكانت هذه الصيدليات تخدم الناصرة والجليــل، فالقرى لم تكــن فيها صيدليات. وعــن تلك الفترة تســتذكر «أحيانــا كان مرضــى يزوروننــا ودون قدرة على تسديد ثمن الدواء فكنا نحتســبه بسعر التكلفة أو بالتقسيط فعاد بعضهم بعد تلقيهم مخصصات التأمين الوطني للأولاد أو الشــيخوخة ومنهم عجز عن الدفع. بالنسبة لنا هؤلاء مرضى علينا خدمتهم وليســوا زبائن. كان أحد الرهبان في الناصرة يدفــع مســبقا للصيدلية كي يؤمــن الدواء لمرضــى عاجزين عن تســديد ثمن الــدواء دون أن يعرفوا هويتــه وكان هناك أشــخاص آخرون أيضا على هذا المنوال الإنساني الشهم ». في 1978 أدارت فيوليــت خوري صيدلية فــرح في الناصرة حتى عــام 2011 وهي تعتز بعملهــا فيها لأنها قدمــت خدمات لعدد كبير من النــاس وتعرفت على كثيرين وكانت ملتقى اجتماعيا للكثيرين، ولكنها تشعر بالأسف لأنها لم تخرج للتقاعد مبكرا أكثر قبل أن تتحول الصيدلانية لعمل تجاري. كما شــاركت مع صديق زوجها )الناشط السياسي ـ الاجتماعي حبيب خوري( القسيس نعيم عتيق في تأسيس مركز «السبيل» في الناصرة عــام 1992 بعد موت زوجها المفاجئ والصــادم. وبعد التقاعد أكملت نشــاطها فيه وكانت مديرته 28 سنة، وهي مؤسسة من أجل العدل والسلام ولاهوت التحرر الفلسطيني.

جمعية «نسيجنا»

وما تزال فيوليت خوري ناشطة جدا في الناحية الاجتماعية والثقافية خاصة من خلال جمعية «نســيجنا» التي أسســتها قبل ســنوات وتعتبرها «زبدة شــغل حياتي وفيها كرست كل خبرتي ومعرفتي.» وتقول إن أزمة شــهاب الدين والتوترات الطائفية الناجمة عن خلاف حول قطعة أرض بجانب كنيســة البشــارة كانت محاولة إسرائيلية لإشعال نار الفتنة وتسميم الأفــكار، وكان لا بد من مبادرة لاســتعادة التناغم الاجتماعي لأنه لا مجال أمامنا ســوى تعزيز نســيجنا الاجتماعي وبناء قاعدة اجتماعية. وتخلص للقول: «تنبهت للخطر على هويتنا وتراثنا. بادرنا لورشــات تراثية في مجال النســيج والإبرة، وهو مجال ملائم لكل النــاس بأعمارهم وفئاتهم، والهدف هو بناء نســيج اجتماعي سليم و في الوقت نفســه وفرنا إطارا للنساء، وهي منتدى للثقافة والفعاليات الثقافية.»

 ??  ?? فيوليت خوري
فيوليت خوري

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom