Al-Quds Al-Arabi

«حلقة رواة طنجة»: كتابة الهامش وهامش الكتابة

-

■ كيف يمكــن إيجاد مدخــل يغطي تجربة كتابية تتمحور حول حياة مجموعة من الكتاب/ الــرواة، أو بالأحــرى تتخذ الحياة الســردية المرتبطة بهم أساسا لها؟

إن ميلاد التجربة الســردية عند «حلقة رواة طنجة» - كما يقدمها الكاتب حسن بحراوي - تأسست بالدرجة الأولى على الصدفة، أوليس الســرد في عمقه هو فن بنــاء الصدفة؟ أي أن الكاتب يحــاول من خلال الســارد بناء عوالم ســردية، تنبني أساســا على تقريب الصدفة/ الصدف التي قــد تغطي حياة كاملة بالنســبة للشخص الواقعي. لقد حاول كتاب «حلقة رواة طنجة» أن يقدم التجربة الســردية لمجموعة من الأصوات الســردية بكيفية ســردية تنأى عن الدراســة التقنية والنظرية التــي توجه فهمنا عن الســرد، وفي تقديرنا، أن هــذا المنطلق في الدراســة، مرده إلــى أن الباب الــذي ولج من خلاله هؤلاء الكتاب مغامرة الكتابة هو الحياة ذاتهــا، بمختلف مــا يعتمل فيها مــن صراعات وتناقضات وبحث عن الهوية، والأبرز من هذا، البحث عن الخبز. ولعل تكييف منطلق الدراسة مع أساس التجربة الســردية عند «حلقة رواة طنجة» وهو الحياة ذاتهــا، يحيل إلى الجانب الحي المرتبط بالسرد، الذي يتوغل في التجربة الإنســاني­ة ويتحكم في ســيرها وكــذا فهمها، ومن هنا، فإن فعالية الســرد في هــذا الكتاب، كانت أساســا منهجيا حاول مــن خلاله المؤلف بلورة تجربة الكتابة والسرد عند مجموعة من الأسماء أهمها: محمد المرابط، العربي العياشي، أحمد اليعقوبي، عبد الســام بوالعيش، محمد شــكري... وبالتالي، فإن السرد في هذا الكتاب كان وسيلة وغاية في الآن ذاته.

إن العنصر المركــزي الذي قامت عليه تجربة «رواة طنجــة» ارتبط بالكاتــب الأمريكي بول بولز، حيث كان بمثابة العنصر التحويلي الذي نقل أغلب الأصوات السردية الغضة والخام من بعدها الفطري/الخشن إلى السياق الأدبي ذي الطبيعــة النخبوية، وقد تجلت هــذه المركزية طوبولوجيا في خطــاب العتبات وكذا في خطة تبويب الكتاب وتقسيم فصوله...

وحســب تقديرنا، فإن نجاح هذه الوساطة أو الترجمة الأدبية التي اضطلع بها بولز ما كان ليتم دون معرفة ورســوخ في أعراف المؤسسة الأدبية الأمريكية خصوصــا، والعالمية عموما، كما أن السياق الكوســموب­وليتي، الذي ارتبط بمدينــة طنجة، كان له دور معتبر في تجســير العلاقة الإنسانية/الســردية بين بولز ورواته، وهو المعطى الذي يجعلنا نرنو إلى طنجة بعين تــرى فيها مدينة تنتمي إلى بعد آخر، وحســب تصور السيميائيا­ت الثقافية، فإن مدينة طنجة مدينة حدودية تنطوي على نمطين من التنظيم، هما التنظيم المرتبط بالذات، والتنظيم المرتبط بالآخــر، أي أنهــا ملتقى للثقافــات، والذوات، والعلامــا­ت، وهذا مــا يجعلها مدينة ســردية تتأســس على معطى جوهري يطبــع العوالم السردية، ألا وهو اللقاء، وهو ما يجعلنا نعتبر الكائنات التي تتحرك في مدينة طنجة، كائنات ســردية على درجــات مختلفة، وهــي القناعة التي تقودنا إلى أن أي شــخص عاش في مدينة طنجة، كان ليشــبه اليعقوبــي أو المرابط، لو أن الصدفة قــادت بول بولز إليــه؛ لأن الزخم الســردي الذي اعتمل في تجربــة «حلقة رواة طنجــة» لا تحركــه دوافع واختيــارا­ت ذاتية، بقدر ما تتحكم فيه روح سردية محايثة لفضاء مدينة طنجــة، التي يعتبــر رواة طنجة تجليا لها بالمفهــوم الهيغيلي. ويعتبــر بولز العنصر المحرك لهذه التجارب الســردية، وهو العنصر «الغريب» الذي يعطي لفعل الســرد مشروعيته ووجاهته... ومن هنا، يمكن أن نتســاءل حول اللحظة التي يصبح فيها فعل الســرد أو الكتابة الســردية فعلا ملحا؟ إنها اللحظة التي ينطوي فيها الكاتب/الــراوي على التفاصيل والأحداث الغريبة التي تنقل فعله من المســتوى التقريري إلى المستوى الاستثنائي، وهذا العنصر الغريب هو ما يعطي للسرد مشروعيته... وإن كان هذا المعطى يتجسد على مســتوى الكتابة السردية في أحداث وأماكن... فإنه في حالة «حلقة رواة طنجة» تجســد في بول بولز نفسه، أي إن هذا الأخير كان هو «العنصــر الغريب» الذي حرك فعل الســرد وأعطاه مشــروعيته لدى الرواة والكتاب الذين صادفهم.

أضاءت تجربة «حلقة رواة طنجة» مجموعة من المناطق المظلمــة التي تخص فعــل الكتابة وطقوســها، هذا الفعــل الذي تتعــدد ملامحه وصيغــه حســب الكتــاب/ الــرواة، لكن هذه التعددية والتشــظي لا ترتبــط بذاتية معطاة، بل بتصــورات مخصوصــة لطقــس الكتابة، التي تحرك كل كاتب لاســتدرار خيط الســرد واســتجداء بعض العوالم الاســتثنا­ئية،وقد تجــاوزت هذه الإضــاءات المرتبطــة بطقوس الكتابــة «رواة طنجــة» لتنفتــح علــى كتاب عالميين أمثال وليام بورووز، جاك كيرواك، آلان

غينسبرغ، تينيسي وليامز..

ســاهمت تجربــة «حلقــة رواة طنجة» في بناء تصور جديد حول فعل الكتابة الســردية، هذه الكتابــة التي لا تمتح مــن قوالب جاهزة، بقدر ما تحتل فيها فطرية الكاتب واســتعداد­ه الســردي مكانة مركزية، ولعل هــذا ما يعضد كونية السرد الذي يحايث التجارب الإنسانية في كل تفاصيلها، ويؤكد مسألة الموهبة السردية التي لا تعترف بالمعرفــة الأدبية أو التوصيفات الأجناســي­ة التي تعزل خطابا أو نوعا أدبيا عن آخر، بقدر ما تكرس كتابة تلامس جوهر السرد، أي أنها كتابة لا تســتمد مشروعيتها من قوالب الجنس وصيغــه المتعارف عليها، بل تســتمد هذه المشــروعي­ة من قوة السرد ذاته، والعوالم المختلفة التي يخطها.

وإذا كانــت خصوصيــة الكتابــة خاضعة بالدرجة الأولى لخصوصية الكاتب وتوجهاته، فإن تجربــة «حلقــة رواة طنجة» قــد جاءت مكرســة لهذه القناعة، من خــال صدورها عن التجــارب الشــخصية لكل كاتــب، حيث نجد العربي العياشــي - مثلا- في سيرته الذاتية «حيــاة مليئة بالثقوب» قد ســلط الضوء على تجربته في السجن و»تسجيل ذكريات طفولته لاستقطار ما فيها من مظاهر الطرافة والرعونة، وصبها فــي قالب حكائي» وعلى غراره نســج كل مــن محمــد المرابط ومحمد شــكري وأحمد اليعقوبي وعبد السلام بولعيش.

لكن مــا يوحد هــذه التجــارب المختلفة هو طابعها الشفوي، ثم حضور البعد البيكارسكي الشطاري فيها بشــكل مطرد وقوي، ولعل هذا ما جعلها كتابة تمثل الهامــش الاجتماعي، وما يعتمل فيه من ضروب المعاناة والألم والضياع، وتعري مجموعة من الممارسات المرتبطة بعلاقة الذات بالســلطة السياســية، من ناحية، ومن ناحية أخرى، علاقــة الذات المبدعــة بالثقافة العالمة، ممثلة في المؤسســة الأدبيــة العربية، «وكان الناشــر اللبناني سهيل إدريس صاحب دار الآداب الذائعــة الصيت، قد اســتنكف عن نشــره «الخبز الحافــي» في وقت ســابق من الســبعينا­ت عندما عرض عليــه الكاتب محمد بــرادة مخطوطته العربيــة، ظاهريا خوفا من الخوض في مغامرة غير مأمونة تعرضه لغضب الرقابات العربيــة، التي لم تكن ترحب بتجاوز الحــدود الأخلاقيــ­ة، وفي العمق لأنــه لم يكن مقتنعا بــأن يصدر مثل هــذا الكتاب عن مؤلف «صغير» من أقصى المغرب العربي يرغب

في انتزاع السيادة الأدبية من أعلام المشرق».

يمكن القول، إن تجربــة «حلقة رواة طنجة» خرجت إلــى حــد كبير مــن بعدهــا الفطري والعفوي، إلى أفق آخر يرتاد من خلاله الكاتب عوالــم التخييل، وما تتيحــه إمكانات الجنس الســردي من انفتــاح وتصادي، مــع مختلف أشكال التعبير، حيث أصبحنا نجد أن نصوص كل من محمد المرابط ومحمد شكري تتراوح بين الســيرة الذاتية والرواية والقصــة القصيرة والسيرة الغيرية، كما أن محمد المرابط، استلهم الموروث الثقافي الشــعبي بإصــدار «صيغته المعدلة والشــخصية للحكاية الشعبية الذائعة الصيت «احديدان الحرامــي»... ولابد في هذا الســياق من الإشــارة إلى أن تعامل المرابط مع التراث المغربي لا يمثل استنساخا أو نقلا حرفيا من أي نــوع، بل إنه لا يخرج عــن كونه حافزا يقــدح زناد المخيلة ويفســح لها مجــال وآفاق الانطلاق...».

أما محمد شــكري، فقد شــكل صوتا سرديا رائدا على مستوى الســيرة الغيرية في «حلقة رواة طنجة» خصوصا في أعمال من قبيل «بول بولز وعزلة طنجة»«جــون جنيه في طنجة».. والجدير بالذكر في ما يتعلق بالســير الغيرية التي كتبها شــكري، نزوعها نحو التخلص من هاجــس الواقعــي والتاريخي، لترتــاد بذلك رحابة السرد، والاســتعا­نة في رسم التفاصيل والشخوص الغائبة بالتخييل؛ حيث نذكر «بأن شــكري كان يســتعين في تلك «الغارات» على بولز بذكــرى زوجته جين، التي وإن لم يتعرف عليها شخصيا )التشــديد من عندنا( فقد رسم لنا صورة أخاذة عن وجودها الســحري الهش والمعلق في نقطة قصية بين الممكن والمستحيل، المألوف والاستثنائ­ي، المقيم والعابر».

وبتأملنــا لكتاب «بول بولــز وعزلة طنجة» نجد أن شكري جعل الســيرة الغيرية خطابا لا يحتفي بالكمــال والمثالية، وإنما خطاب يحتفي بالنقص والعيوب، وأداة تشريحية لا تميل إلى خلق نــوع من الترضيات، بقدر ما تســعى إلى رسم صورة كاملة حول الكيفية التي مارس بها بول بولز وجوده في الواقع وفي الفن. ٭ كاتب مغربي

 ??  ?? تينيسي وليامز، محمد المرابط، بول بولز، محمد شكري
تينيسي وليامز، محمد المرابط، بول بولز، محمد شكري

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom