Al-Quds Al-Arabi

ماوراء النص: ثقافية التلقي

- عبد الحفيظ بن جلولي* ٭ كاتب جزائري

 تتســع المبادئ لتشــمل الأفكار، لذلك كانت الأســماء البدئية كما يبين القرآن الكريم حين علم آدم الأســماء كلها، وذلك للوقوف عند معانيها، وبما أن الإنسان كائن عاقل، فقد ترك له الله اشتقاق الدلالات المعرفية والفكرية، تحفيزا لمعاينة المفهوم، ففهم الأشــياء بمسمياتها، يضع العقل أمام مهمته الجوهرية في تشــكيل بانوراما اللغة العارفة، التــي تترجم العالم بما يحتويه من إنســان وأشياء وأفكار في دائرة النص، وبالتالي يصبح النسق الوجودي تفاعليا فعالا يصنع الإطار العام لمضمون فعل القــراءة المنتجة عبر تبادل وتداول المعنى في جزئياته الاختلافية والاتفاقية، وتلك المسافة الغائبة بين النص والفكر.

هامش القراءة

يتجــاوز العقل المعطى المعرفــي الممنهج ليلج دوائر الســؤال، تلك الوظيفة الأزلية للعقل، فيصطدم بالهامش التفســيري الذي يتجــاوزه بالطبيعة الأفق التســاؤلي، فتتأكد الحركية الإنســاني­ة في أبعادها السياســية والاقتصادي­ة والاجتماعي­ة والثقافية، ضمن هذا الإطار الخاضع في جملته للسؤال، باعتباره يقع في حقيقة الواقع الجدلية، التي تعتبر في مجملها مجموعة تناقضات تسند الظواهر وتؤســس لأبعادها الفلســفية، فيبدو الهامش التفســيري مسطحا مغرقا في المباشرة. تعتبر الحياة مسرح الإنتاجية الانسانية، بما هي مجموعة تناقضات جدلية، تتمثل سلوكيا في السعي الدؤوب للإنسان من أجل استغلال الطبيعة، وامتلاك ناصية أســرارها ثم تحويلها إلــى مادة لخلق الثروة التي لا تُنتج بمعزل عن طبيعة الإنسان الأنانية، وحب التملك والسيطرة، لهذا جاءت نظرية العقد الاجتماعي لجون جاك روســو تفسر الانتقال من المجتمع الطبيعي إلى المجتمع المدني، على أســاس تناقــض المصالح وطغيــان الأنانيات، فكان الســبيل الوحيد لتنظيم السلوك والعلاقات داخل المجتمع، اللجوء إلى سلطان القانون )النص( كآلية لتنظيم الحركية المجتمعية، وترشــيد الرغبات المادية، فحوّل الإطار التنظيمي الواقع من مجرد واقع منظور إلى فضاء فكري أساســه النص وانفتاحه المعلن واللامعلن على الما بعد، والماوراء.

المبدأ سابق الفكرة/ ماوراء النص

المبدأ ســابق الفكرة، فمبدأ العدالــة تكرس وعيا، ثم ترتبــت الأفكار بعديا لتنظمه وفق ما تســتدعيه الحاجة إلى تكافؤ الفرص فــي المعيش والعدالة في توزيع الثروة، وكذلك مبدأ الحرية، ســبق وجوده في الوعي ثم ترتبت الأفكار لتنظيم المبدأ، وفق ما يقتضيه الوقوف عنــد بداية حريات الآخرين، والقانون ذاته ســبق الأفكار، التي جاءت في ما بعد لتنتظمه في قواعد نصية، تستوجب الأمر والنهي والردع، كالتزامات لتوجيه العلاقات الإنسانية، والحد من طغيان تجاوزاتهــ­ا، فالنص القانوني )القاعــدة القانونية( تنبثــق حقيقته في المبدأ الماورائي، الــذي حدد معانيه وليس في القاعــدة العلمية التي حددت مفهومه الذي لا يتعدى نطاق الحرفية وحصرية المعنى.

إن تجــاوز النص إلى ما وراء النص يتيح للعقــل قراءة الفحوى والمضمون بطرق تخترق وتؤهل النظــر إلى امتلاك أدوات يُحــاوَر عبرها العلمي المؤطر بالفكري المطلــق، فالعلم قولبــة نظرية، أي انغلاق ليس فــي مضمون النص المتعلق بمجال معين، لكن في علاقــة الرؤية بالمفهوم المؤطر )المصطلح(، ولذلك يتعذر الوصول إلــى عمق الخطاب ومســتويات­ه الفكريــة، إذا تحصن العقل بمستوى الحرفية، الذي يشتغل عليه «إنســان القلة» الذي يواجه به مالك بن نبي «إنسان الفطرة .»

مونتسكيو وروح النص/ ثقافية التلقي

إن المجتمع الذي يقف عند حرفية النص، مجتمع منغلق بطبيعته، لأنه سوف يواجه إشــكالية المصطلح، فيتحدد مفهومه للقانون مثلا وفق منظور شــكلي يتميز باســتعصاء النفاذ إلى المعنــى أو الروح، ولهذا كانــت «روح القوانين» لمونتســكي­و، حيث هناك «ســبب أولي، وتُمثل القوانين العلاقات الموجودة بين الســبب الأولي ومختلف الأفراد، وعلاقات مختلف الأفراد هؤلاء في ما بينهم» كما يؤكد، فالســبب الأول هو الذي ينفي به فكرة «الحتمية التي توجِد كائنات ذكية» وهو مــا يجعل العلاقات بين المفاهيم في النــص لا تقف عند الظاهر، بل تتعداه إلى الغوص في جذور ما يسميه مونتسكيو «السبب الأول» أو «الله».

إن عنــوان «روح القوانين» وبمقابلة الصور اللغوية نســتطيع أن ندرك أن ما يتداوله الواقع هو شــكل القوانين، فالقاضي فــي كثير من الأحيان يقف عند حرفية النص، في مواجهة قضايا يتداخل فيها اقتناعه الشخصي ووجهة نظره الفكرية مع ما يطرح أمامه من قضايا قد تكــون دعواها رُفعت بمنطق يتضارب مــع حيثياتها، وهو ما يثير قضية اقتناع القاضــي، فيعمد إما إلى قمع اجتهاده القضائي، وبذلك يحرم القانون من أحــد مصادره الحيوية وهو الفقه، الذي لا يلجأ إليه إلا على ســبيل الاستئناس، أو يبادر إلى تطبيق النص معارضا بذلك اقتناعه الشخصي.

انطلاقا مــن «روح القوانين» تتأكد ضرورة الاشــتغال على روح النصوص أيضا التــي تجعل من الحرفية أو الشــكل بابا إلى فضاءات واســعة من الفهم للقانون كنص، ما يجعل النص )القانونــي( متداولا ثقافيا في المجتمع، فعندما يتخلى النص عن هيمنته ليس كإلزام أو إجبار، وإنما كبنية )نســق نهائي( لا تقبل الاختزال إلى معطى معرفي/ثقافــي، يتجاوب )النص القانوني( مع رغبة الأشــخاص في الاطلاع والفهم، وبالتالي ســريان الثقافة القانونية ببساطة تجعل النص فاصلا فــي تحديد الواجبات والحقوق، هــذا من جهة، ومن جهة أخرى تفادي الصدام مع تجريد النص، فالمجتمــع العارف الذي يقبل على هذه الثقافة البســيطة في إدراكها والمركبة في مظاهر اكتسابها، يسهل فيه السلوك القانوني كما تتكرس فيه العلاقة بين المواطن والمؤسسة لتداول روح القانون، ويكــون نتيجة ذلــك الوقوف عند الحقــوق والواجبــا­ت ببراغماتية تخضع لعقلانية المعرفي وصرامته المنجَزَة في وعاء الثقافي والتربوي والإعلامي.

المجتمع وبناء سيرورة التوافق

يُكْسِبُ التعامل الثقافي مع الواقع المجتمعَ صفة المعرفية الشفافة التي تتعلق بإرساء مفهوم «التقاليد» حيث تتحول الأشــياء في مسار الممارسة الوجودية إلى رمزيات مدرَكة بوعــي الإقران، بين تاريخ الذات وأثر كينونتها في الواقع،، فتتحول التقاليد بفضل العراقة إلى مؤسســة للوعي بأهمية الفعل، فنقول مثلا تقاليد عريقة في القراءة، هذه التقاليد تساهم بشكل تجهله المجتمعات المتخلفة في تبسيط المعرفة المتخصصة، عن طريق تحويلها إلى ثقافة في مستوى شعبي تشتمل على عنصر التشويق.

إن الإعــام بما له من دور في صناعة الوعي، يشــكل الوتيــرة المتناغمة مع حركة العقل في نســج منوال مجتمع يتوافق وأبجديات رغبة الناس في رؤية أثر حركتهم على شاشة إدراكهم، ولعل الواقع يضرب مثلا بــ CNN التي تعتبر واحدة من بين عشــرٍ أخريات تقوم بتحديد «جدول أولويــات العالم» وأيضا «واشــنطن بوست» كما يذكر محمد حسنين هيكل، وهو دور خطير استراتيجيا على الدول التي تقع في دائرة الجدولة، لكنه يكشــف عن أهمية الإعلام كسلطة ذات تأثير، والكلام عن تثقيف الإعلام وإعــام التثقيف، إنما يصب في جوهر إشــكالية معرفية النص وتداوله كســلطة للمعنى )الــروح( لتحرير الفكر من جمود الشكل.

تؤدي الماورائية أو المعنى الخفي إلى تشكيل الوعي بالأشياء والأفكار، لأنها تختزن نسقا من الروح التي تسكن الذات، وما تلحقه بها من رغبة في استكناه الغامــض وخوض غمــار المجهول، فعلى مســتوى النص يظهــر الاختصاص الأكاديمي وأدواته التي تســتعصي على العامي، لكن عالم الأشــخاص، وفي ســياق تطور المجتمعات، يجد نفســه ملزما بالإحاطة بأساسيات تشكل روح الأكاديمية، فالعلم كقولبة ينغلق على اللامعلن، وتمثل مساحة الانغلاق فسحة الفكر، فباسكال أو برتراند رسل أو ابن سينا، جميعهم تعمقوا في الاختصاص، وعن طريق عنصري النظر والتفكير، نفذا إلى روح العلم أو فلسفته، متجاوزين انغلاق البنية العلمية التي تقف عند حدود الكيف إلى انفتاح اللامعلن المبثوث فــي لماذا، ولعل قصــة ابن طفيل «حي بــن يقظان» تبين كيف يصل الإنســان «بفطرته إلى الحقيقــة الكامنة في أعماقه، وهي الديــن» كما يقول عبد الحليم عويس، تلك الحقيقة التي ليســت في النهاية ســوى رغبة الإنســان في هدم أسوار الانغلاق، في مظاهر الأشياء، وبناء العلاقة معها على أساس فهم عناصر حقيقتهــا الجوهرية الغامضة، التــي تتوافق وبنيته الروحيــة، والتوافق مع النص لا يكون ســوى بالحفر في طبقاته، بحثا عــن «جوهر فرد» يصل بالعقل إلى إمكاناته العملية في تفجير كون الأسئلة اللامحدود.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom