Al-Quds Al-Arabi

بروين حبيب * بالأبيض والأسود إلى أن نؤمن بالحب

- ٭ شاعرة وإعلامية من البحرين

■ لم أتوقع أن أرى فيلما بالأبيض والأســود، حين دعيت لحضور فيلم «ملح الدموع» لمخرجه الفرنســي فيليب غاريل، كما لم أتوقع هذا النمط من الأفلام، الذي ربما تتميز به الســينما الفرنسية عن غيرها، مثل الحوارات المبتورة، الصمت الزائد، ترك المشاهد أمام احتمالات كثيرة لقراءة الفيلم، وغيرها من أمــور جعلتني أغرق في بحث طويل عريــض ليس فقط لفهم الفيلــم، بل لخلق متممات له لاحتواء معانيــه الغريبة، وقد تفاجأت أن ما ذهبت إليه ليس غريبا ولا خارج المألــوف، فالمخرج فيليب غاريل يُحِب أن يجعل من متفرجه ناقدا في الوقت نفســه، كما يترك له خيارات بناء نهاية افتراضية، كلٌّ حسب قراءته الشخصية للفيلم.

من هذا المنطلق ونحن نناقش الفيلم في جلســة شبه حميمة في سينما عقيل، التي حدثتكم عنها ســابقا، وهي من المبادرات التي كســرت ظاهرة انطفــاء أضواء صالات الســينما، أدركت أن الفيلم مثير لعدّة تســاؤلات، تبدأ بهذا الأبيض والأسود، الذي فتن المخرج في حياته، وهو من المخرجين الكبار الذي لا يهمهم إن عاشــوا كل حياتهم على الهامش، شرط إخلاصهم لمبادئ معينة، والتزامهم بخط معين.

ينجرف الفيلم بمشــاهده البطيئة الإيقاع، انجرافا جماليا تأمليا نحو الحلم، ألسنا نرى الأحلام بالأبيض والأسود كما تقول الدراسات؟ لكن لماذا يبالغ غاريل في تكثيف الأسود في فيلمه؟ لماذا يعطي مساحة أكبر للظلال، والأضواء، للضجيج، والصمت، وثنائيات أخرى ندركها تباعا ونحن نتابع أحداث الفيلم؟

الاكتشاف الأول الذي حققته، أن غاريل عاشق للأبيض والأسود، و»ملح الدموع» ليس فيلمه الأول دون ألوان، وهو يختلف حتما عن فيلم «الفنان» لمواطنه ميشال هازانيفسيو­س، الذي نال خمس جوائز أوسكار عام 2011، كما يختلف عن فيلم «قائمة شــيندلر» الذي أخرجه ستيفن سبيلبيرغ عام 1993 الذي حصل على سبع جوائز أوســكار. لا مشاهد بالألوان نهائيا في «ملح الدموع» لا نقلــة زمنية إلى الماضي، إنه الحاضر العابث بالجســور العاطفية، التي يفشــل بطله في بنائها، اللااســتق­رار، حتى في الراوابط الجسدية بينه وبين نســائه، إذ يدخل بطله في علاقات غير مثقلة بأعباء الحب، رغم انغماسها تماما في اللذة الجســدية الآنية. لكنّه لا يتوقف عن البحث عن أجوبة متعلّقة بوجوده أو هذا ما نستخلصه.

يُطرح الســؤال مرارا عن الفرق بين الحب والنزوة، عبر مشاهد حارّة، تُرى كيف يعرف الإنســان متى يحب ومتى ينجرف في نزوة؟ باريس التي تشــكل الفضاء المكاني لغاريل في أفلامه، تجمع «لوك» بنســاء مختلفات، لكنه قبل ذلك يترك خلفه عشــيقة في الريف حملــت منه إثر علاقة عابرة، يعاملها بلامبالاة غاية في القســوة، حتى أنها حــن تلجأ لوالده لا تتلقى جوابا يحمســها على الاحتفاظ بالجنين، يقول لها إنه يتمنى أن يتزوجها لوك لكنه لا يتوقع أن يفعل ذلك. تترتب نساءه في ما بعد على الشّكل التالي : امرأة ترفض إقامة علاقة جسدية معه فيتركها، رغم إعجابه بها وإعجابها به، وامرأة يتعلّق بها عاطفيا وجســديا لكنها تصدمه بإدخال طرف ثالث في علاقتهما، زميل لها في العمل تفضــل أن تقيم علاقة معه من حين لآخر، وتخيّر لــوك بين قبول الأمر كما هو أو تركها. علينا أن نرى ترتيب الســلم العاطفي لدى لوك وفق نســائه كما يلي: حب وجنــس، حب دون جنس، جنس وجنس، لنســتنتج أنه يختصر بذلك أقســى العلاقات الجســدية والعاطفية، وأن عذابات النفس تنشــأ من هذه الثنائيات غير المنســجمة، وهي شــبيهة بتلك العلاقة المشــوهة بــن لوك ووالده، علاقــة تتمثل في الامتداد الجسدي -الجيني، لكن خلوها من رابط عاطفي - روحي )الحب الذي يقابله الحب( قدمها في أكثر صورها إيلاما.

يخــوض غاريل في موضوع قــديم متجدد، حول العلاقات الإنســاني­ة العميقــة بين الرجل والمــرأة، ويبدو أنه موضوعه المفضــل في كل أعماله، حســب قراءاتي، وهو يلجــأ لجعل بشــاعة الصورة الذكوريــة في هذا الانتقال الجنسي للرجل بين شــريكات متعددات، كما لو أنّها وخز حقيقي للمشاعر، رســالة متكرره في أعماله. يغيب الشرح اللغوي لكل ما يحدث من اســتخفاف بالأحاســي­س المرهفة ببلاغة الصــورة، وكأنّه يقول هكذا تكون الأمور، دون ثرثرة، ودون مناقشــات صريحة يخسر لوك نفسه في الأخير، حين تكتمل أمامه بشاعته الشخصية، وهو يتلقّى خبر موت والده، في خضمّ فوضى المتعة التي كان يعيشــها خلال علاقاته. يأتيه خبر الموت في لحظة إدراكه لمعنى الحب المرتبـِـط بمفهومٍ أخلاقيٍ لا مهرب منه. فيبكي بحــرارة غير متوقعة، لقــد عرف لحظتها، أن هوة الفقــدان لا يمكن ردمها بسهولة، لا نعرف بالضبط هل عرف معنى الحب الحقيقي، كخيط إنساني متين يربط الأشــخاص بعضهم ببعض، من خلال علاقته بوالده الذي رآه دوما «رجلا بروح شاعر» أم أنه خبِر ذلك الشعور السامي بعد رحلة طويلة كللتها العثرات؟

أعيد تشــكيل كل تلك المشــاهد كلٌّ وفق محمولاته، فأرى كثافة الصورة التي يقترحها غاريــل، ويتركنا معلّقين بها. إنّه يجلدنــا بلا هوادة، حتى نعتــرف بآثامنا. يخترقنا مثــل نصل حاد، ويلامس منبــع الألم في أعمق نقطة في أعماقنا. في قراءة مغايرة يعتبر الإخفاق ثيمة جيدة لرسم حدود الأشــياء الثمينة في حياتنــا. أمّا العواطف المتوقــدة داخل قلوب مجهزة بأنواع من المتفجرات الخطيــرة، فغير وارد، تتبعها حتى لحظة انفجارها، فالغيرة، والغضب، والألم، والنقمة، والانتقام وغيرها من المشاعر الشائكة والسامة، تنبعث من المتفرّج، وهو يتابع عمل غاريل الهادئ البارد أحيانا، قــد يبلغ متابع هــذا الفيلم وأفلام أخرى للمخرج نفســه درجــة الغليان والانشطار في تجربة ســينمائية فريدة، تجعلنا نختبر مشاعر تتماهي مع مشاهد في غاية البلادة أحيانا.

إنّها الســينما التي لا تكتفي بشاشة عرض واحدة، بل بشاشتين واحدة أمام أعيننا وأخرى أمام بصيرتنا في الأعماق.

المخرج البالغ من العمر اثنين وســبعين عاما، يقدم فــي هذا العمل وفي غيره من أعماله، نســاء ورجالا، يعيدون اكتشاف بعضهم بعضا، أزواجا، وعشاقا، وباحثين عن المتعة العابرة. يصفه أحد النقاد بأنه «يصنع ترياقا مذهلا للكآبة» فيما تصفه إيميلي بارنيت، بأنه يقدم أفلاما «نســوية مليئة بالعطاء والمحبة» وبأنه يرسم الشــخص المخدوع بعماه الذاتي... بتعبير آخر أكثر دقة، غاريل رجل تُعشــش في داخله ظــال امرأة، رؤيته للواقع تحمل هذه الثنائية إلى الأبد، وهــي توقيع خاص به على مدى كل أعماله، التــي تجاوزت 28 فيلما، إذا احتســبنا أفلامه القصيــرة، وبعض ما قدمه للتلفزيون. يشــعرنا دوما بضيقه من ســفالة الذكور، وينقل ذلك بطريقة تشــبه الصفعة القوية المفاجئة، عبر ممثلين يشبهون عامة الناس، يرفض النجومية التي تســوق لأفكاره وتسرق روح العمل، وهذه عبقرية من نوع آخر لم نألفها على الأقل في عالم الدراما عموما بكل أنواعها.

المؤكّد أننا لسنا أمام «هوليوود» بكل أضوائها التي تحرق العيون أحيانا، هذا عالم «غاريلي» بامتياز، يعج بجماليات غير مبالغ فيها، بأجساد تائهة، قلوب نسمع نبضها، لهاث حقيقي للتعاسة السوداء التي تملأ العالم اليوم. أمّا عن أنين النســاء فهو الموســيقى المنبعثة من صمت مشــاهده، مضاف إليها ذلك الحزن الأســود الذي يغمر كل شــيء، إلى أن يتعرّف هذا الكائن المتعجرف على الحب، فيتعامل مع نفسه وغيره بالحب، حتى تتزين روحه بالألوان، فينعكس ذلك على كل شــيء حوله. غاريل حالة اســتثنائي­ة، أو لنقل ظاهرة ســينمائية فريدة، أعماله مثل الثمرة النادرة المجهولة النوع، قلة من يعرف متى وكيف تؤكل، لكنّه النموذج الأنسب لنخبة لا تزال واقفة في صف المحاربين من أجل الحب، مرددا «أيها العالم الحب موجود».

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom