Al-Quds Al-Arabi

خفافيش الليل تتنمر وتخطف هدايا الأمهات!

- مها عودة ٭ ٭ كاتبة فلسطينية تقيم في لندن

تسطع الأضواء عليهم ثم تخفت بسرعة مجدداً خوفاً من لعنة عدو أوصدّ الأبواب والمنافذ كيّ لا تتســرب أحقاد سحره للعلن. أصدقاء، أقرباء أو ربما غرباء، عاندوا الطغيان وجمعتهم أحزان الوطــن، فاختصرهم العدو داخــل زنازين القهــر، التي لا تعرف للشمس نوراً، هم الأسرى، أطفال فلسطين وأبناء الأمهات.

أجنة الأرض هَمّوا إلى الدنيا مســرعين، وحملــوا الهمّ قبل أن يتعلمــوا حروفهــم الأولى، ويتقنوا اســتخدام القلــم، أطفال بلا أحلام تُحقق ولا حقوقٍ تُكتسب، زُجّوا بصمتٍ إلى زنازين العدو التــي اقتطفــت من أعمارهم عهــد البراءة، وأيُّ أطفــال هم أولئك الذين يتحدون العدو بكل فنون الشجاعة.

أحلام الصغار

يتنــاول الإعلام ســيرتهم حينــاً ويتناســاه­ا أحيانــاً أخرى، وكأنهــم أطفال بــا رصيد أو صدى، ســيُغلق التاريخ ســيرتهم يومــاً ما، ولن يعودوا إلا منخورين، منهكين. هم أطفالٌ لم يعرفوا الطفولة، ولم يتداولوا أيامها بعد، وهل يعرف الطفل الفلسطيني أياماً غيـــر يـوم الأرض ويوم النكبـة ويوم الأسير ويوم الشهيد؟ أيامــاً لا مكـــان للإحتـــفا­لات فيهــا، حـــفظها عن ظهــر قلب في مذكراتــه قليلة العهد، يُدونُها على هيئة هموم غلفته منذ الولادة، خالية من الألوان وحنان الأمومة، على جدران الزنازين المتقاربة، وتأسر فكره قضايا وطنٍ تكبره أبعاداً، ثـــاثية وربـــاعية وربما خـماسيـة.

في أراضي فلسطين المحتلة، لا مكان للنوم أو لأحلام الصغار، فهنــاك مــن يصهرهــا وأضغاثُها في لحظــة، لذا عليــك أن تبقى متيقظاً، لأي مؤرقٍ طارئ طارقٍ لبابك ليلاً، يصارع الوقت للخروج كخفاش ظلام. فعدوك يعرف جيــداً أنّ الهدف مضمون، واضح ومســتجاب وغارقاً في النوم، لا يحتاج لأدلة إدانة، طالما الأفواه صغيرة، مُكممة لا تُحســنَ الصراخ، ولن يكتــرث لذعرٍ صادرٍ من أســلحته المرصوصة حول وســطه حين يعتقل طفــاً ليِّناً غضّاً، لا يميز يمينه من يســاره، فالتهمة جاهزة كما الحصى، وأبســط طرق المواجهــة لديه هي الإعتقال، ولا مــكان للقوانين الدولية أو المحليــة، كلها واحدة تُضرب بعرض الحائط عند الضرورة، ومن يكتــرث لحقوق طفل تجرأ علــى رميِّ عــدوه الصهيوني بحصى أصابت كبرياءه الُممَجد بعنف وأذلّت نفسيته للحضيض.

منذ النكبة سُــجلت في ســجون الاحتلال نحــو 50 ألف حالة إعتقــال من الأطفال والقاصرين بتهــم مُلفقة، ويوجد حالياً نحو 190 طفلاً وطفلة حســب تقرير وزارة الأســرى الفلســطين­ية، هم دون 16 عاماً. ويزَّج هؤلاء الأطفال عادة في أحد سجون الدامون وعوفر ومجدو.

تقوم قــوات الاحتــال بحرمانهم مــن أقل الحقــوق، كحقهم بالتعليــم والتواصــل مــع العالم الخارجــي ومقابلــة ذويهم، أو حتــى الحصول علــى الرعايــة الصحيــة اللازمة، ومنــع الطعام عنهــم، ولم يردع صغر ســنهم العدو عن تعذيبهــم، فهم يعذبون كبالغين لا كأطفال، فالطفل الأســير يجب أن يُبطح أرضاً ويشبع ضرباً ويُنكّل جســمه الضئيل بأعقــاب البنادق قبل أن يزج وراء القضبــان، وتُلقــى عليــه التهم التعســفية مكره، ويتــم منعه من الحصول على محاكم خاصة تعنى بصغر سنه، بل تتم مواجهته

في محاكم عســكرية، وقد يصدر الحكم عليه بالسجن لمدة تفوق العشرة أعوام بتهمة رشقه حجراً على عسكري مدجـج بالـسلاح.

بطشٌ بربريّ

أسرٌ عبثيّ وبطشٌ بربريّ لأطفال فلسطين، أساليبٌ صهيونية همجيــة لا تتبدل، فلا مكان للرحمة أو الإستشــفا­ء في ســجون الاحتلال، ولا امتياز لمن يقبع خلف القضبان مع إخوة له ضمّتهم الهمــوم نفســها، وربما كانــت صفعة عهــد التميمــي على وجه الجندي الإســرائي­لي في قرية النبي صالــح بالضفة الغربية، إثر اقتحام جنود الإحتلال منزلها وســجنها لثمانية شهور في شهر آذار-مــارس 2018، بتهمة عرقلة عمل جنــدي، هي الصفعة التي أيقظت جوارحاً كانت على وشــك الإنصهــار، وحركت من جديد منظمات حقوق الإنسان لمتابعة قضية الأسرى المنسية.

عهــد الطفلة التي اعتادت الوقوف في وجــه العدو مع عائلتها منذ كانت في الرابعة من العمر، وماذا يُرتجى من طفلة تربت على الاستيقاظ على أصوات اقتحام قوات الإحتلال قريتها لمصادرة أراضيهــم لبنــاء المســتوطن­ات، وشــهدت قتل عمهــا وابن عمها وإعتقــال والدها وشــقيقها وأمها التي أصيبــت برجلها، فكيف لعهدٍ أن لا تصفع؟

ميــزان العــدل مثقــوبٌ فــي محاكــم الإحتــال ولا مســاواة للمكاييل، فحسب قانون الإحتلال فإن كل شخص في الأراضي المحتلــة دون 16 عاماً يعتبــر طفلاً، وهو ما يتعــارض مع اتفاقية حقوق الطفل )يونيسف( أما بالنسبة للطفل الإسرائيلي فهو كل شخص دون 18 من العمر، قمة التميـيز والعنـصرية.

وكيــف للميــزان أن يتســاوى ونحن نرى كيف تهب وســائل الإعلام شجباً واســتنكار­اً وانحيازاً حين تُعتقل شخصية دولية بــارزة تنتمي لبلــدٍ ذي نفوذ وســلطة، وبين خبر إعتقــال أطفال تحت الإحتــال يتناولهم الإعلام لبضع دقائــق كإعلانٍ عابر لن يجدي ربحاً، فشتّان بين تغطية الخبرين!

منذ ما يفوق الســبعين عاماً، وقوات الإحتلال تأســر ما طاب لها من الأطفال ولا وســيلة لمتابعة أحوالهم بســهولة، ربما لأنهم مختلفــون ليســوا كباقي أطفــال العالم، لــم يحتفلــوا بيوم الأم يوماً ولم يعتادوا على شــراء هداياها بعد، لأنّ العدو سيخطفها وإياهم، وأكثر ما يمكن أن تنتظره الأم الفلســطين­ية من صغيرها هوعودته ســالماً، فحتى منظمة اليونيســي­ف المختصة بشــؤون الأطفــال لم تحد مــن مطامع عدو أصم، مضــى مُصمماً على نزع الطفولة من فلسطين.

وما فائدة كل المنظمات إن لم تحقق الهدف؟ إلى الآن لم تصل أي مــن البرامج الإرشــادي­ة لــأمم المتحدة لحمايــة الأطفال إلى هدفها المنشود، وأين تطبيق مكافحة التنمر؟

ألا يُعتبر أســر الأطفال ليلاً وإرعابهم تنمراً نفسياً؟ وتعذيبهم تنمراً جســدياً؟ وتســميتهم بألفــاظ نابية تنمراً لفظيــاً؟ أم لا بد مــن العمل بمكيالين؟ وهل تســنُّ الأمم المتحــدة وغيرها القوانين والسياســا­ت لمكافحة التنمر داخل المــدارس فقط، لا على قناصٍ متنمرٍ يتربص بالأطفال في الطرقات؟ ومتى سنشــهد جهة عليا تصــدر قانونــاً تنصاع له خفافيش الليل؟ أم أنها أرفـــع مـــن أن تنصاع لأي قانون مهمـا علا مصدره؟

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom