Al-Quds Al-Arabi

لماذا هددت الفئات الوسطى بمغادرة المسيرات الشعبية في الجزائر؟

- * كاتب جزائري

العنوان قد تكــون فيه مبالغة وهو يتكلــم عن الفئات الوســطى بالمطلق، لكن هذا مــا حصل جزئيا على الأقل، منذ أسبوعين عندما ارتفعت أصوات ممثلة لهذه الفئات، فرديــات وجماعات محــدودة، تهدد بمقاطعــة الحراك وعــدم الخروج إلى المســيرات فــي الجزائــر العاصمة، وبعض المدن الكبرى في المســتقبل، بعد أن لاحظت بروز شعارات سياســية نُسبت إلى تيار الإســام السياسي الجذري، نددت بمخابرات الجيــش وقيادته، إثر تداول الــكلام عــن تجــاوزات خطيــرة تكــون قــد حصلت في حــق بعض الموقوفين من شــباب الحــراك داخل مقرات المؤسسة العسكرية الرسمية.

شــعارات مــن قبيــل «مخابــرات إرهابية» تكــون قد أزعجت بعض الأوساط المحسوبة على الفئات الوسطى، التــي أصرت علــى وضــع الفــروق الفاصلة، بــن هذه المؤسســة المركزية للدولة الوطنية، وبعض الممارســا­ت التي تكون قد اقترفها بعض رجالها. خاصة عندما تأتي من تنظيمات سياســية إســامية، كانت لها سوابق في معاداة الجيــش، والدخول معه في صراعات مســلحة، اكتــوى بنارها الجزائريون في فترة التســعيني­ات، بكل التجاوزات التي عرفتها على مســتوى حقوق الإنســان، من الجانبين.

شعارات ميزت بعض المســيرات، بعد عودة الحراك، ظهر فيها نــوع من التنمر لدى بعــض المتظاهرين، الذين بــدوا أكثر تنظيما، وقدرة على الترويج للشــعارات التي رفعوها عن طريق الوســائط الاجتماعيـ­ـة، أخافت اكثر هــذه الفئــات الوســطى الحضريــة، عندمــا تزامنت مع اعتــداءات تعــرض لها بعــض الصحافيين في شــوارع العاصمــة، ميــزت مســيرات يــوم الجمعــة 12 مارس/ آذار الحالي، من قبل شــباب كان يظهــر عليهم التصميم علــى عرقلة عمل الإعــام الوطني والأجنبــي في تغطية المســيرات، ورفع شــعارات معادية للصحافــة، لا تفرق بين المؤيد للحراك والمتحفظ عليه، الذي يأتي فقط للقيام بعمله كإعلامي، في ظرف زاد فيه الاستقطاب السياسي والأيديولو­جي، ولم يعد من السهل الحفاظ على مسافة الأمان الاحترافية في العمل الصحافي. شعارات ظهرت فــي الحقيقة منذ المســيرات الأولى، حــن اتخذ الإعلام الرســمي ولواحقه في الجزائر مواقف معادية للحراك، برزت على شكل تعتيم كبير عليه، وعدم تغطية فعالياته يومي الجمعة والثلاثاء.

تحــرش ضد الإعلاميــ­ن لم يكــن مقتصــرا على هذه المجموعات، التي زادت عدوانيتها في المسيرات الأخيرة ، إذا اضفنــا إلــى ذلــك أنــواع التحــرش التــي يلاقيهــا الإعلامي من بعض المؤسســات الأمنيــة، التي تعمل كل ما في وســعها إلى تعطيل عمل الإعلام، خاصة الأجنبي منــه، كوســيلة عزل للحــراك عن محيطــه الدولي، حتى لا يصــل صــداه إلى العالــم الخارجي، وصلــت إلى حد توقيف وسجن الصحافيين والمراسلين، كما حصل أكثر من مــرة. وتهديد بعدم منح تراخيص العمل أو ســحبها من الذين تحصلوا عليها في السابق كما حصل مع قناة «فرانس 24» الفرنسية.

تحريا للدقة نقــول إن الذي أخاف الفئات الوســطى أكثــر، هو بــروز بعــض الشــعارات الإســامية المنادية بـ»دولة إســامية»، على قلتها داخل المســيرات، بكل ما

أوحت به إلى هذه الفئات مــن ذكريات عن عنف وتغول للتيــار الإســامي الجــذري، الــذي عــرف كيــف يركب موجة الحــركات الاجتماعية الشــعبية في تســعينيات القــرن الماضي، ليوجههــا الوجهة العنيفة التي عاشــها الجزائريــ­ون، وكلفتهم غاليا في الأرواح والمال والوقت، حتى عندمــا كان يبــدو ضعيفا للوهلة الأولــى، معزولا وفاقــدا للقيــادة، كمــا هــو الحــال الآن. خــوف اعترى جزءا مــن هذه الفئــات صاحبة المزاج المتقلــب، اعتمادا علــى ما حصل فــي مســيرة أو اثنتين، عكــس ما عرفت بــه كل المســيرات مــن قيــم مركزيــة، ترســخت داخل الحراك الجزائــري الســلمي، والمتنوع سوســيولوج­يا وديموغرافي­ا، الذي كونت الفئات الوسطى بكل تنوعها أحد روافده الأساســية. فئــات وســطى حاولت إنجاز قطيعــة مــع تجربتها السياســية القديمة التــي جعلتها، كما هــو حــال الكثير مــن التجــارب الدوليــة، تبدو في حالــة تســرع لقطف ثمــار تجنيدها السياســي القصير والمتقطع.. في زمن العولمة الذي يجعلها أكثر فأكثر، أقل التصاقا بجغرافية الحيــز الوطني، لما يميزها من تأهيل مهني وقدرة على دخول ســوق المنافســة الدولية، وهي تفكــر في هجــرة، كونت أحــد خياراتهــا الحاضرة وما زالت.

الانقســام­ية اللغويــة والثقافيــ­ة، التــي تميــز هــذه الفئات الحضرية، المتعودة علــى التعامل اليومي باللغة الفرنســية، زاد فــي تعميــق شــعورها بالعزلــة، وحتى الخــوف من محيطها الاجتماعــ­ي الوطني، رغم مواقعها الاجتماعيـ­ـة - المهنية المهمــة، التي تعــرف هي الأخرى تحولات عميقة، يمكن أن تكون عامل تفســير لهذا التميز والتعدد في مواقفها السياســية. عبــرت عنه أجزاء من هــذه الفئات غير المتجانســ­ة أصــا بالتهديــد بمقاطعة المســيرات، والانكفاء على ذاتها، علــى الرغم من الهيمنة السياســية والأيديولو­جية التي اســتطاعت إنجازها - عبــر وجوهها السياســية وتنظيماتها - على شــعارات الحراك وهو يحدد مجال مطالبه التي غلب عليها الطابع السياســي الواضــح، منذ انطلاق المســيرات في شــتاء 2019. تســرع في التهديد باتخاذ مواقف مقاطعة ما زال

يغلــب عليها الطابــع الفردي والمحــدود، تعاملت بمنطق المدى القصير والقصير جدا، مع حركة سياسية عملاقة عرفها الجزائريــ­ون لأول مرة في تاريخهم السياســي، لم تجعل هذه الفئات تنتظر حتى أســبوع أو أســبوعين لحــن عــودة المســيرات إلــى مجراهــا الطبيعــي، وهي تصحــح الاختراقــ­ات التي يمكــن أن تتعــرض لها كأي جســم اجتماعي حــي. حراك تميــز دائما بقــدرة كبيرة علــى تصحيح مســاره من داخلــه، اعتمادا علــى الذكاء الجماعي الذي عرف به منــذ انطلاقه، وهو يحافظ على تنوعــه السوســيول­وجي وشــعاراته التــي اصــرّ عليها كمصدر قوة وليس ضعفا.

يحصل هــذا التهديد فــي وقت عادت فيه المســيرات بقــوة وبالتنوع السوســيود­يمغرافي نفســه تقريبا، إذا اســتثنينا الحضور الأقل الملاحظ للمــرأة والأطفال، في وقت لــم تتعافى فيهــا الجزائــر كبقيــة دول العالم من وبــاء كورونــا، في زمن لــم يختف فيه العداء الرســمي للمســيرات الــذي يعبر عن نفســه بالمنــع والتحرش بها عندما لا تصل إلى تعبئة شعبية كبيرة، كما هو الحال في العاصمة ومدن منطقة القبائل، كاتجاه عام لم تلتحق به دائما الولايات الأخرى أسبوعيا، بشكل منتظم. ما يعني أن الجزائريــ­ن مدعوون إلى الزيادة في حجم تجنيدهم وطنيا والتنويع في أشكال الضغط على نظام سياسي يملــك قــدرات عجيبــة علــى مقاومــة ورفــض الإصلاح السياســي. كمــا بيّــن ذلــك لعقود مــن الزمــن. الفئات الوســطى بمختلف مكوناتها مدعوة للمشــاركة في هذا التجنيد، لما تملكه من قدرات علــى التنظيم والتجنيد في وقــت يتوجه فيه الحــراك إلى القيام بقفــزة نوعية في طريق تحقيق مطالبه، التي نضجت بشــكل واضح، بعد عودة المســيرات بقوة أكبر، لم تعد قــادرة لوحدها على تغييــر موازين القوى في مواجهة النظام السياســي، ما يتطلب التفكير في أشكال ضغط أخرى، حان وقتها كما يستشف من المزاج العام لأبناء وبنات الحراك.

الحراك الجزائري تميز بقدرة كبيرة على تصحيح مساره من داخله، بذكائه الجماعي الذي عرف به منذ انطلاقه

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom