Al-Quds Al-Arabi

الدرس الرابع من «النوبة» في شرق السودان

- ٭ كاتب سوداني

■ «كــرم الطبيعة وبُخل السياســة في شــرق الســودان» هو العنوان الرئيســي لهذه السلسلة من المقالات، والتي نسـّـطر فيها مشاهداتنا ونتائج لقاءاتنا خــال زيارتنا لولاية البحر الأحمر فــي يناير/كانون الثاني الماضي. والعنــوان يأتي تعبيرا عن ما رأيناه من مفارقــة عجيبة تتلخص في أن ولاية البحر الأحمر غنية بموارد وثروات ضخمــة، ومع ذلك تُعتبر من المناطق الأقل نموا والأكثر فقرا في السودان، حيث البنية التحتية والمشاريع التنموية شبه منعدمة، وتتفشى فيها المجاعات والأمراض والأمية.

ومن لقاءاتنــا المتعددة مع القيــادات المدنية والأهلية فــي المنطقة، والتي ناقشــت مجموعة من التصــورات ومقترحــات الحلول للقضايا والمشــاكل الأساســية في ولاية البحر الأحمــر، وإرتباط ذلك بحلول قضايا الســودان المركزية، خرجنا بدروس هامة اســتعرضنا منها في مقالاتنا السابقة ما طرح في من لقاءاتنا مع قيادات البشــاريي­ن والعببادة والأمرأر والهدندوة والبني عامر والحبــاب ونادي البجا. ومواصلة لذلك، نســتعرض اليــوم لقاءنا مع «غرفة إدارة الأزمة» في رابطة أبناء جبــال النوبة بولاية البحر الأحمر، وهي هيئة كونتها الرابطة للتواصل مع مكونات الولاية وجهاتها الرســمية، بهدف إخماد الفتنــة وإطفاء نيران النزاعات. والغرفة تتكــون من القيادات الأهلية وقيادات المجتمع المدني والمثقفين والناشــطي­ن من أبناء النوبة القاطنين ولاية البحر الأحمر.

منذ عشرات العقود، ظلت فضاءات إقليم البحر الأحمر، ومدينة بورتسودان تحديــدا، تفتح ذراعيهــا لتحتضن القادمــن إليها من كل مناطق الســودان الأخرى، إما تغييرا وتطلعا لحيــاة جديدة، أو بحثا عن العيش الكريم ونفورا من غياب التنمية وإختلالات توزيع المــوارد، أو طلبا للأمن والأمان وهربا من النزاعات والحروب الأهلية، في مناطقهم التي نزحوا منها. ومن ضمن هؤلاء، كان أهلنا النوبة الذين اســتوطنوا المنطقة منذ عشرات السنين، لكنهم أبدا لم يعيشــوا عالة على الموارد المحلية، وإنما شــكلوا إضافة لقوة العمل، ولإنتاج القيمة الاقتصاديـ­ـة من خلال العمــل العضلي والذهني، خاصــة في الميناء، وأصبحوا جــزءا من النســيج الاجتماعي، حيث ظلت علاقتهــم مع المكونات الأخرى يجللها الوئام والتعايش السلمي إلى أن أطلت الفتنة برأسها. وحدثنا وكيــل ناظر قبائل النوبة، إن ما حدث من إقتتال مــع البني عامر والحباب، لم يكن بســبب نزاع على أرض أو حواكير أو ماشــية، فهذه أصلا غير موجودة، وإنما بسبب فتنة سياسية، تمتد جذورها إلى خارج الإقليم وإلى أزمان بعيدة. ففي ثمانينات القرن الماضي، كانت قيادات الجبهة الإســامية القومية تشحن أعضاءها وأنصارها في بورتســودا­ن ضد النوبة بإعتبارهم كفرة وثنيين...! ومع إحكام الإنقاذ قبضتها على البلاد، تفاقمت المشــاكل بسبب العطالة وعدم العدالــة في فرص العمل، علما بأن بورتســودا­ن كان بهــا 55 مصنعا، إضافة إلى الخطوط البحرية والســكك الحديدية، وكلها للأســف دمرتها الإنقاذ. بل الإنقاذ ســعت إلى بــث الفرقة داخل مجموعــة النوبة عندما قسّــمت الإدارة الأهليــة الموحدة إلى نظارتين. كما أن مجموعات الجهاد الإســامي الإريتري، وهي مجموعات مســلحة، لعبت دورا في تأجيج الصراع والهجوم على النوبة لأســباب عرقية وأيديولوجي­ة. ويتواصل الحديث مع من إلتقيناهم من أعضاء «غرفة إدارة الأزمة» التابعة لرابطة أبناء جبال النوبة في ولاية البحر الأحمر، فيقول أحدهم أنهم لاحظوا محاولات الإنقاذ لتغيير ديموغرافية المدينة، خاصة عندمــا كان إبراهيم محمود وزيرا للداخلية، كما لاحظوا إســتيلاء شــركات مرتبطة بالخارج على مفاتيح مواقع الاقتصاد الرئيسية. ويتهم النوبة الإعلام بالعمل على تشــويه صورتهــم وإختلاق قصص عن فظائــع يرتكبها آخرون وتُنســب إلهم. ويقولون أن ثقتهم في الحكومة والأجهــزة العدلية والنظامية إهتزت بسبب عدم حيادية بعض هذه الأجهزة، وتقاضيهم عن السلاح الكثيف والمتطور، المتواجد في أيــدي الجماعات الأخرى، في حين النوبة لا يملكون أي سلاح. وبسبب ضعف تحريات وكلاء النيابة، وإفلات الجناة الذين إستخدموا السلاح من العقاب، وبسبب أن الحكومة لا تنصفهم، ويتغذى فيهم الإحساس بالدونية وأنهم غربــاء وغير مرغوب فيهم في بلدهــم، وأن تجاهل الحكومة لمأســاتهم يرســب في دواخلهم الغبن والشــعور بالإضطهاد. وبعض أعضاء الغرفة توجه بالإنتقاد إلى أبناء شــمال السودان، ومنهم مجموعات كبيرة في المدينــة، لأنهم لم يتقدموا بأي مبادرة لإخماد الفتنة رغم أن قطاعات واســعة من أبناء النوبة توقعت منهم ذلك. وتشــككت إحدى المشــاركا­ت في اللقاء من إمكانية إنهاء الأزمة قريبا لأن القبلية مقننة في بورتســودا­ن، وأحياء المدينة السكنية مخططة على أســاس قبلي وإثني، مما يجعل من التمازج الإجتماعي أمرا صعبا ولكنه ليس مســتحيلا. وأشارت أخرى إلى أن النظام البائد يسعى جاهدا إلى العودة إلى الســلطة مســتفيدا من أجواء الفتن والتوترات، بل أنه يســعى لتقوية موقفه الانتخابي من خلال الصعــود على ظهر بعض المكونات القبلية في الإقليم، مستغلا تقاربة مع بعض قيادات هذه المكونات.

وفــي ختام اللقاء، لخص وكيــل ناظر قبائل النوبة موقفهــم في أن الأزمة لن يحلها وجود بعض أبنــاء النوبة في مجلس الســيادة أو مجلس الوزراء أو حكومة الولاية، فالمســألة أعمق من ذلك بكثيــر وترتبط بضرورة مخاطبة جذور الأزمة العامة التي يعاني منها الســودان، وتجلــت في الحرب الأهلية والنزاعــا­ت والتوترات القبلية فــي كل أنحاء البلاد. أما لأجــل إخماد نيران الفتنة في الإقليم، فلابد مــن تنفيذ إجراءات أولية تهيئ الأجواء لإلتئام حوار شامل يدفع بالتعافي المتبادل، لصالح رتق النسيج الإجتماعي وبسط السلام والتعايــش بين الأطــراف المتنازعة. وهــذه الإجراءات الأولية، تشــمل نزع السلاح نزعا كاملا وحصر تواجده فقط في القوات النظامية، إكمال التحقيقات وتقديم كل من تســبب في الفتنة إلى العدالة، تقديم التعويضات للمتضررين من كل الأطراف، توجيه الإعلام الرســمي ليلعب دورا إيجابيا في نبذ خطاب العنصرية والكراهية وإتاحة منابره لكل المجموعات دون تمييز، التشــدد في عمليات الإختيار للوظائف المختلفة بحيث تكون الكفاءة والمؤهلات هي المعيار الأول، وليس القبيلة أو صلة القرابة، مراجعة الأوراق الثبوتية مثل شــهادات الجنسية والرقم الوطني.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom