Al-Quds Al-Arabi

إدارة بايدن والعدائية لروسيا: منحى يتنامى في نظام دولي يتصدّع

- ٭ كاتب لبناني

■ يظهــر الرئيس الأمريكــي جو بايــدن عدائية حادة لنظيره الروســي بشكل لا يمكن التأســيس عليه لوحده. كذلــك، لا يمكن التعامل مع هذه العدائيــة على أنها مزاجية عابرة. نحن هنــا أمام منحى، وحيال حاجــة أمريكية أولاً لتحديد «من العدو .»

يحصــل ذلك فــي عالم لم تخــض فيــه إدارة الرئيس الســابق، ترامب، حرباً كبيرة فيه، بل اكتفت بالاستخدام «القنصي» للقوة. عالم أقل حروبية من سنوات سالفة. لكنه يعيــش تصدّعاً متزايداً في نظامه الدولــي. أي ذلك النظام الذي رســمت خطوطه العريضة تفاهمــات المنتصرين في الحرب العالمية الثانية في يالطا وبوتسدام، ثم تشكل قوامه مع تأسيس الأمم المتحدة وعلى رأسها مجلس الأمن الدولي، بالخماسي دائم العضوية فيه.

لقــد تعايش هذا النظــام الدولي أكثر ممــا كان متوقعاً له، مع المراحل المختلفة التــي اجتازتها الحرب الباردة بين الولايات المتحــدة الأمريكيــ­ة والإتحاد الســوفيات­ي. فلم يؤد هذا الصــراع الأيديولوج­ــي والجيوبولي­تكي المحتدم الى إنهــاء تجربة منظمــة الأمم المتحدة على غــرار ما حلّ بسابقتها، عصبة الأمم. من المبالغة بمقدار توصيف مجلس الأمن بأنه حكومة عالمية، لكنه شـّـكل شــيئاً من هذا القبيل طيلة فترة الحرب الباردة. رغم كثرة محطات التشنج فيها وانعكاسها عليه بالتعطيل لدوره. ورغم «فضيحة» حرمان الصــن القارية من مقعدهــا فيه لعقدين مــن الزمان، قبل أن تنقلب الحال مطلع الســبعيني­ات، مــع التقارب الصيني الأمريكــي، وفي وقت كانت أضحت الحــرب الباردة ثلاثية القطب، لا سيما في آسيا، أي أمريكا والصين معاً في مواجهة الاتحاد السوفياتي.

اختلفت الحال مــع انهيار الاتحاد الســوفيات­ي وحلف وارسو. لم تنته الحرب الباردة فقط آنذاك، بل اختفى أيضاً أحد المنتصرين الأساســيي­ن في الحرب العالمية الثانية، ولم يعد مفهوماً لماذا يســتمر التعامل مع المانيا واليابان كما لو كانت اعتبــارات تلك الحــرب لا تزال راهنــة حيالهما، فلا يكون التفكير بتوســيع نادي دائمي العضويــة اليهما هم أيضاً. هــذا مع أن المانيا الموحدة تلعــب دور المحور المهيمن في الإتحاد الأوروبــي، أما الصين فقد همشــت اليابان في العقــود الأخيرة. وهذا قبل أن ندخل في مطالبات توســعة نادي العضوية الدائمة لبلدان أخــرى، كالهند والبرازيل، أو الغائها أو تعديل حق النقض. المهم، لم يراجع شــيء من هذا في اي اتجاه كان بعد نهاية الحرب الباردة، وبقي المتفق عليه بين منتصري الحرب العالمية الثانية قائماً رغم اختفاء أحدهــم، واحتفال الآخــر بأنه انتصر في الحــرب الباردة عليه.

ولهذا ثمنه. العالم في مطلع العشــريني­ات من هذا القرن يعيش فــي نظام دولي مســتوحى من معــادلات منتصف أربعينيات القرن الماضي.

ثمنه المزيد من تصدع النظام الدولي بعد الحرب الباردة، وأكثر فأكثــر بعد العــودة الجزئية لهذه الحــرب الباردة مجدداً مع صعود بوتين، انما مخففة من قالبها الأيديولوج­ي الســابق. يتصل ذلك ايضا بأن الولايــات المتحدة تعيش منذ نهاية الحرب الباردة مشــكلة صعوبة تحديدها لعدوها الاستراتيج­ي.

لقد حاولــت التعويض عن غياب العدو الاســترات­يجي الواضــح، الاتحــاد الســوفيات­ي والشــيوعي­ة، بتحديده الهلامي، على أنه الدول المارقة المتوسطة الحجم ثم التطرف الإســامي العابر للبلدان. لكن هذا التحديــد الهلامي أتى بالنتيجة على حســاب معدّل هيمنتها علــى العالم. كونها جعلها «تلعب» مع لاعبين لا تناســب بينها كقوة لها اساطيل وقواعــد في كل اصقــاع العالم، وبينهم. ولعــب القوي مع الضعيف يضعفه.

ثم عــادت أمريكا، بعــد اتضاح منحــى فلاديمير بوتين تدريجيا، مــن حربه على جيورجيــا 2008 الى ضمه القرم 2014 لاعادة تلبيس روســيا ثوب العدو الاستراتيج­ي. من دون أن تكف يد بوتين عن إنقاذ النظام السوري بالطائرات، ومن دون أن تقف حجر عثرة دون التقارب الروسي التركي في اثر فشل المشهدية الانقلابية على أردوغان 2016.

ومع وصول دونالد ترامب، عــادت أمريكا فابعدت ثوب العداوة الاســترات­يجية عن روسيا نسبياً، بل جوبه ترامب بمعارضــة داخلية قوية غداة قمته مع بوتين في هلســنكي 2018، إذ اعتُبِر أنه يقدّم تنازلات هو في غنى عنها لروسيا، في حين ينبغي أن تستمر معاقبة الأخيرة نظراً لضمها شبه القــرم التي تعــود لأوكرانيا، ثم رعايتهــا حركة الانفصال شرقي الأخيرة )حوض الدونباس الصناعي(.

ابتغى ترامب نقل العداوة الاستراتيج­ية الى الصين، في الحرب التجارية معها، ثم في اتهامها المتكرر بالمسؤولية عن تفشي جائحة كورونا، هذا في الوقت عينه الذي كان يهوّن فيه من خطر الفيروس نفســه، ما جعله يحدد عدواً وينفي عنه علة العداوة.

مع بايدن نحــن حيال معادلة معاكســة: العــودة إلى التحديد «التقليدي» للعدو الجيوبوليت­يكي على أنه روسيا. أمريكا ســلطانة البحار وبالتالي خصمها الأساسي موجود في العمق القاري لأوراسيا، في الهارتلند.

وهذا يعني العودة إلى المنظار الســبيكما­ني )نسبة الى المنظــر الجيوبوليت­يكــي نيكولاس ســبايكمان، ت 1943) أي وجــوب منع القوة القارية، روســيا، من التمدد من قلب Heartland أوراســيا الــىأطــر­افالقارةال­اوراســية Rimland الكبرى،أيالـ ،أيمــايحيط­بالعمقالقا­ري من أقاليم. وهو ما يقتضي مباعدة روســيا عن الصين، وعن إيران، وعن بلدان الشرق الأوسط، ولا قلق اليوم من حلف وارســو. فليس لروســيا حلفاء في أوروبا )مــع أن هناك مسعى لاحتساب اليمين الشعبوي فيها كحليف لموسكو(.

منطقياً يفترض ان يعني ذلك أن أمريكا ستســعى لتأمين جانب الصين مــن الآن فصاعداً أو حتى اســتمالة عدوتها اللدود في الشرق الأوسط، إيران، هذا ان أرادت ابعاد نفوذ روسيا عن أقاليم «الريملند».

روســيا في هذه الحالة لا يمكن ان تقدم لإيران ما يمكن ان توفــره الولايات المتحدة اذا ما هــي أفرجت عن الأموال وخففت العقوبــات. لكن إيران أيضــا لا مصلحة لديها في الذهاب إلــى تخفيف التوتر بأي ثمن مــع أمريكا. بالدرجة الأولــى، نظرا لطبيعــة نظامها. فهو يعتبر معــاداة أمريكا دعامــة ايديولوجية ثقافية متينة لــه، ولا تتضمن عقائده موضوعة التعايش الســلمي مع الامبريالي­ــة، على المنوال السوفياتي، الموضوعة التي تنهل منها ايضا، الصين وكوريا الشمالية. كيم جونغ اون صافح ترامب بحرارة، وأجاد ذلك من قبله قادة الســوفيات، وماو تســي تونغ مع نيكسون. الخمينيون يصعب عليهم فعل ذلك.

في المقابــل، اذا كانت أمريكا ماضية في تحديد روسيا كعدو اســتراتيج­ي، فــإن لروســيا مصلحــة فــي تفــادي عزلتها بالشــرق الأوســط بتطوير علاقاتها مع تركيا وإســرائيل والخليج في وقت واحد، بالتوازي مــع علاقتها بإيران. الا ان هذا سيعرضها بالنتيجة للسؤال عن كيفية تلبية كل هذه العلاقات في آن.

منذ ضم روســيا للقرم 2014، وموقــف أمريكا والاتحاد الأوروبي ضد هذا الضم، ومجلس الأمن الدولي شبه مفرّغ من ديناميته التأطيرية للنزاعات، بشكل لم يسبق أن حصل في عز الحرب الباردة. ونحن نتكلم هنا عن ســبع سنوات حتى الآن. ما يعني مؤشــرا مقلقا بالنســبة للسلام العالمي بالنتيجة. في الوقت عينه، أمريكا لم تحل مشكلة تحديدها للعدو الاستراتيج­ي بعد زوال الاتحاد السوفياتي بعد، مرة الإرهاب، ومرة الدول المارقة، ومــرة باتجاه الصين، والآن باتجاه روســيا، لكن حتى في الحالــة الأخيرة، فنحن أمام منحى ما زال من المبكر التعامل معه على أنه منحى وطيد لن يزاحمه منحى آخــر، وان كان الجمود العالمي منذ أزمة ضم القرم لا يزال قائماً وأساسياً.

في كل هذا، أوكرانيا والقوقاز والمشــرق العربي، تشكّل حاليــا مجموعــة مختبرات. مــن دون اغفال مــا يمكن ان تســتثمر فيه أمريكا على صعيد محاولــة قلب الأوضاع في روســيا نفســها. لكن هذا يصعب ان يتأمن من دون ضربة تتلقاها خارطة تمدد النفوذ الروسي. بالضائقة الاقتصادية وحدها، وناشــطي حقوق الإنســان ومناهضة الفساد، لا يمكن التعويل على الإطاحة بحكم «الجهاز» في روسيا. في 1905 كما في 1917 كما في الثمانينيا­ت، كانت مشكلة روسيا على الجبهة أولاً )الهزيمة امام اليابان، الاستمرار في الحرب الكبرى رغم الانهيار الاقتصادي، اســتنزاف حرب النجوم وسباق التسلح وحرب أفغانســتا­ن للاتحاد السوفياتي( وبنتيجة ذلك فقط تزلزلت الأوضــاع داخلها، بالثورات أو بالانهيار السوفييتي.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom