Al-Quds Al-Arabi

الناظرون إلى الوجود من خلال غيمة

-

اقتبســتُ هذا العنوان من جملة للأديب الفرنســي الشــهير غاي دي موبســان ‪1893( 1850(-‬فــيإحــدى­قصصه القصيــرة عنوانها «على صهوة الحصان». يتحــدث فيها عن بطلها «هِكتور دي غريبلان» الــذي كان موظفا في وزارة البحرية، ولم يســعفه الحظ في أن يكون مواكبا لمتطلبات طبقة أجداده الأرســتقر­اطيين، ولا منســجما مع عصره الحاضــر. أراد أن يمتطي كالنبلاء صهوة الحصان ويمضي في رحلة مع أســرته، فإذا بالحصان العصي عن القيادة يصدم سيدة ستكلفه العناية بها في المستشــفى أموالا طائلة، وســتنغلق الحكاية على اقتراح أن تعيش العجوز معه في البيت.

كان هكتور أســير التناقض بــن وضعيته التاريخيــ­ة الطبقية المجيدة، ووضعيته الراهنة البائسة يحاول أن يصنع انسجاما جديدا لكنه كما يقول موبسان «فَشِلَ في تَخَطي العَقَبَاتِ كَكُل منْ لَمْ يَسْتَعدوا مُبَكرًا لِلْقِتَالِ العَنيفِ في سبيلِ الحَياةِ، وكَكُل منْ يَنظُرونَ إلى الوُجُودَ مِنْ خِلاَلِ غيْمَةٍ». (التعريب لنا(.

اســتوقفني هــذا المقطع من الأقصوصــة، لأني وجدت فيــه تعبيرا قويا يتجاوز وصف شــخصية أو مجموعة من الشــخصيات، إلى وصف تجربة جماعية من خــال تجربة جمالية. نعت شــخصية بالنجاح أو الفشــل قد يبدو مصادرة لحق الاكتشــاف الذي تتيحه القراءة المستنبطة، لكنه يمكن أن يكون عطية من عطايا الســارد في النصــوص ذات العمر القصير، التي تسافر فيها الكلمات سفرات ســريعة على قطار يراد منها أن تجوب الآفاق، بأســرع ما يمكن، ولا يتاح فيها للمســافري­ن أن يتعرف بعضهم على بعض، بأحاديث مطولة طول الســفرة، بل قصيرة من جنس الوقت الذي يُقضى في السفرة. إنشــائية القص القصير تسمح بأن تتعرف سريعا على الشخصية لكن تتعرف عليها بشــكل فيه من الفنية التي تقتضــي منك أن تجري ضربا من إسقاط تجربة الشخصية الســردية على تجارب الأشخاص التاريخيين أو الواقعيين.

ما قام بهذا الانتقال الســلس بين الشخصية السردية المفردة والشخصية الاجتماعية الجماعية، في المقطع الوصفي أعلاه هو، كافُ التشــبيه وعبارة التسوير )كل( في قول السارد )كَكُل منْ لَمْ يَسْتَعدوا مُبَكرًا لِلْقِتَالِ العَنيفِ... وكَكُل مــنْ يَنظُرونَ إلــى الوُجُودَ مِنْ خِلاَلِ غيْمَةٍ».) صنعت كاف التشــبيه ضربا من التمثيل المنطقي، بأن جمعــت أمرين في حكم واحد لوجود مماثلة بين الشــخصية الســردية «هكتور» بما هي المصدر في المشابهة والشخص الاجتماعــ­ي )من لم يســتعد للقتال( بما هو الهدف فيهــا. ينبغي أن نوضح هنا أن الشــخصية المصدر هي شخصية بطل الأقصوصة، لأن النص المنطلق هو النص الســردي الذي هو نواة كانت تطلب مرجعا خارجيا تناظره، هو فئة من المجتمع محاربة بلا اســتعداد، أو مطلعة علــى الكون من كوة غيمة، لذلك تكون حركة المشــابهة متجهة من الســرد إلى الخارج، فهي بذلك حركة نابذةأوطار­دةمنالمركـ­ـز .فمايوجدداخ­لالنصهوعين­ة، أو مثال مدرك بالخيال، لكنه عينة تشبه عينات الأشخاص الواقعيين الذين من ســماتهم أنهم لم يســتعدوا مبكرا للقتال العنيف، أو الذين ينظرون إلى الوجود من خلال غيمة.

ما حدث هو ضرب من الترادف الغريب بين «الفشل» من ناحية، وهي صفة الشخصية و»من لم يســتعدوا للقتال العنيف» و»من ينظرون إلى الوجود من خلال غيمة». هذا الترادف سيوصلنا إلى أن نعرّف الفاشل بأحد المعنيين المذكورين. لنأخذ الترادف الأول وهو: الفاشل من لم يستعد للقتال العنيف؛ العلاقة بين الطرفين هي علاقة منطقية: فهي علاقة علة )الفشــل( بســببها )عدم الاستعداد..(. ما يحدث بين الخيالي )الشخصية( والواقعي التاريخي )الأشــخاص( هو ضرب مــن التســاند أو التعامد الدلالي، بحيث يفســر التاريخي بالسردي ويؤســس الســردي للتاريخي. بعبارة أخرى ليست شــخصية هكتور الفاشلة في هذه الأقصوصة، إلا عينة خيالية من أشخاص واقعيين، لم يســتعدوا للقتال العنيف لكنهم خاضوه ففشلوا: الانتماء إلى طبقة النبلاء يتطلب اســتعدادا لأنه معركة مــن أجل وجود رفيع لا يمكن أن يكتسب بالوراثة ضرورة.

ربمــا بحثت أنا باعتبــاري قارئا عن نفســي، في عتبة تقع بين الســرد والتاريخ، حين ســأقرأ فشــلي في الانتماء إلى هوية ما، قراءة تشبه فشل الشخصية، لكنها قراءة تفكر في سبب الفشل: إني لم أستعد للقتال العنيف، وكم فــي الحياة من قتال عنيف من أجل أن نمرّ فيهــا من مرحلة إلى مرحلة، ومن تجربة إلى تجربة. ظاهر العملية السردية في الكتابة، أن السارد يماثل الشخصية بالشخصيات، أو الســردي بالتاريخي، لكن أصل القراءة يقلب الحركة فتلتفت إلى نفســك التي تخوض معارك ضروسا، وترى هل نجحت أم لم تنجح: إن كنت لم تفعل فأنت فاشل، وهذا هو معنى الفشل الحقيقي.

المرادفة الثانية التي صنعها التمثيل أو القياس هو تلك المرادفة بين الفاشل و»من ينظرون إلى الوجود من خلال غيمة». لكنها مرادفة تختلف عن الأولى في بعد البون ما بين الفشــل وتأمل الوجود، بعدا لم يكن ملحوظا في قرابة ما بين الفشــل وســببه. العلاقة الدلاليــة، أو التصورية بين معنى الفشــل ومشــهد الناظر إلى الوجود من خلال الغيوم تبــدو بعيدة، أو تتطلب كثيرا من الاســتلزا­مات، أو المحطات الدلالية الناقلة والميسرة للعبور للانتقال من المعنى الأول إلى الثاني. ســوف نتعامل مع « الفشــل» و»النظر إلى الوجود من خلال غيمة» على أســاس أنهما ميدانان معرفيان مختلفان، الأول مجرد والثاني أقل تجريدا لأنه يحوي كثيرا من العناصر المحسوسة، وحتى إن كان التركيب بينها يقلل من المحسوسية، فإنها تظل أقل تجريدا من المعنى الأول.

نحن نســتعمل في العادة الميادين المحسوسة لكي نفهم الميادين المجردة، لكن تمثيل الفشل بالنظر إلى الوجود من خلال غيمة هو تمثيل لمجرد بمجرد أكثر منه تعقيدا. القول الشــارح لا يحيل على شخص يرى الكون من خلال غيمة، فهذا مشهد لا يتحقق في الوجود، بل هو ضرب من الترميز الذي لا يفك ترميــزه إلا بذكر عينات منه. من ألطف ما قيــل عن «الوجود» إنه «الكينونة خارج الذات» وبشيء من التبســيط يمكن أن يقال إن الوجود هو أن تكون فــي الواقع، أو أن تظهر لخارج ما أو تتمظهر فــي واقع ما. وأن ترى الوجود من خلال غيمة هو في معنى أول أن يتخفى الوجود، فلا يظهر كاملا ولا جليا، وهو في معنى ثان، أن تخفي وجودك نفســه عــن الظهور، بخافية يمكن أن تبتعد عنها من دون أن تنتظرها حتى تنجــاب. أن نخفي الوجود، وجودنا بغيمة فذلك يعني أننا اخترنا أن نتخفى، ولا نظهر، وندعي أن ما يحجبنا هو سحابة. لكن قد تعبر السحابة ويظل وجودنا مخفيا، لأننا سننتظر سحابة أخرى نرى الوجود عبرها. الفشل هو أن تنظر إلى وجودك في كون لا يوجد فيه نور الشمس، أو ضياء السماء المنقشعة. كيف يمكن أن يكون هناك وجود أنت لست فيه؟ الفشل أن تكون حيث لم تظهر أو تتمظهر، حيث ترى العوالم الواســعة من حواجب محيطة، هذا في الرداءة وانعدام المشهدية أخطر من أن ترى العالم من ثقب الإبرة: يســمح ثقب الإبرة بأن ترى كونا بحجم ثقب الإبرة، لكن الســحاب يحجب الرؤية أو يعدمها فهو يغطي السماوات ويمتد إلى الوجود.

في القصة القصيرة يمكن أن تحدث إنشــائية فــي الوصف، تعطل حركة الوصف شكلا بواسطة ما، قد يبدو شبيها بالإطناب، لكن ذلك التعطيل يحمل وراءه إبحارا في عمق الشــخصية القصصية، التي لا تكفي عبارة صريحة لوصفها، بل تصفها مرادفاتها الرمزية والذهنية، التي ربما نقلتك من الفشل في العيش إلى الفشــل في الوجود وحملتك بعيدا عن رَوْزِ فشل الشخصية إلى البحث عن نسبة فشلك.

٭

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom