Al-Quds Al-Arabi

مريد البرغوثي: القصيدة اللوحة

-

مريد البرغوثي ليس شاعرا فحسب، بل هو ناثرٌ أيضــا، ففي كتابيــه «رأيت رام اللــه» و«ولدت هناك.. ولدت هنا» شــهادات كتبت في لحظات صدق شــذّت عن الســائد والمألوف، كشف فيها الشاعر عن الفساد والزيــف، اللذيــن رآه رأي العين أثنــاء زياراته لفضاء الســلطة الفلســطين­ية فــي عصريــن؛ عصــر عرفات، وعصر وريثــه محمود عباس، وقد ظنَّ بعضهم «رأيت رام اللــه» رواية، وجرت دراســتها في بحــوثٍ وكتب علــى أنهــا رواية، وهــي بريئة مــن هذا الاتهــام المخلّ بالحقيقــة، ففــي أحســن الأحــوال لا تعــدو أن تكون شهادةً، أو شبه سيرة، كذلك كتابه الآخر، لا يعدو هذا التصنيف، ولا يتجاوزه. ومن عجيب الأمر أنّ أكاديمياً يعدُّهمــا في بحث قرأتــه له روايتــن مُتخَيَّلتين. وهذا ينــم عن أن بعــض الأكاديميـ­ـن من الأفضــل أنْ يُلقوا بالدرجات العلمية التي ظفروا بها عن طريق الوساطة في أقرب سلة للمُهملات.

ومريد البرغوثي الذي نَشر الكثير بعد ديوانه الأول «الطوفــان وإعادة التكوين» 1972، يُعزى إليه الســبق في ابتكار ما يعرف بالقصيدة القصيرة. وهي الشكل البنائــي الذي ترســخ ظهوره وانتشــاره بعــد ديوانه «قصائــد رصيــف» 1980، أما ديوانه «ليلــة مجنونة» 1996، فقــد رســخ هذه القصيــدة لا من حيــث البناء، وإنما من حيث اعتماده الإشــارة القائمــة على المعنى الكثير في اللفظ القليل. وقد رأينا في الديوان نموذجا جديــدا هــو القصيــدة التــي تتضمن صورة شــخص قد يكــون إيجابيا خيِّرا في قصيدة، وســلبيا شــريراً فــي أخــرى. وكان هذا النهــج قد ظهر فــي مجموعته الموســومة بعنوان «عندما نلتقي» (دار الكرمل ـ عمان 1992( فهــو في هــذا النوع من الأبنية الشــعرية يتخذ سمت الرسام الذي يستعين بالألفاظ، بدلا من الألوان في تنفيذه للوحاتٍ تظهر فيها الوجوهُ والأشــخاص، تنفيــذاً لا تعوزه الخطوط، ولا الظلال. ففي واحدة من قصائده يرســم لنا صورة لأحد المسؤولين وهو يتهيأ للاتجــاه نحو عمله، فيقــوم بحلاقة ذقنه، وتشــذيب شــاربيه، ويرش كثيراً من العطر الفرنسي على وجهه الحليق، ويعدّل ربطة العنق أمام المرآة، مراعياً تناسب الألوان مع القميص الأبيض بياقته المنشّــاة، ويتناول كأسا من الشاي بأناة، ثم يغادر مودّعاً زوجته وابنته الصغيــرة. وهذه اللوحــة التشــكيلي­ة الأبعاد تتضمن حركة إلــى جانب ســكونية الَمشْــهد، وتتضمَّن ما هو كامن وراء الصورة الظاهرة، وذلك واضح في التعليق الذي هو أقرب إلــى المفارقة اللفظية منــه إلى التوقيع الذي نراه عادة على الجداريات، وفي أعمال الفنانين: رجل وسيمٌ متقنٌ في المقعد الخلفي بعض شؤون منصبه اقتيادُ العاشقين من الغيوم الرائعات إلى حبال المشنقة

البورتريه

في التعليق الأخير على الصورة التي رُســمت بدقة لفظية مدهشــة يفاجئ الشــاعرُ القارئ بإضاءَةٍ يلقي بها على الوجه الحقيقي لهذا المسؤول الأنيق، المتأنق، المتألق. فهو مســؤول، لكــن مســؤوليته تقتصرُ على اقتياد الأبرياء لحبال المشــانق.. فــأيُّ أنيق هذا وأي مســؤول؟ وبهذه السخرية تتمثل المفارقة في قصيدة ســميناها ســابقا قصيدة البورتريه («معالم الشــعر الحديث في فلســطين والأردن» ـ عمان ـ دار مجدلاوي 2006( لأنَّ في كل قصيدة مــن قصائد «عندما نلتقي» وجهاً مــن الوجــوه، أو نموذجا يتأنــى البرغوثي في رســم ملامحه، وتحديد قســماته، فها هو في قصيدة أخــرى يقــدم لنا وجهــن لامرأتــن، واحــدة بملامح بورجوازية وأخــرى بملامح المكافحــة، ولا يفوتنا أن نلاحظ ما في القصيدة من الإيجازالش­ديد، والتكثيف اللافت:

سيدة تعرف كل محلات الفضة في باريس وتشكو وسيدة تبكي كلَّ خميس في خمس مقابر وتكابر وإذا نحــن نحَّيْنــا جانبــاً الصنعة الشــعرية الماثلة في تكــرار الروي باريــس وخميس، ومقابــر وتكابر، والتجنيــس فــي خميــس وخمــس، وشــبه الترادف في تشــكو وتبكي، فــإنَّ الذي يبعث على الإحســاس بجماليــة هــذه القصيــدة ـ علــى قصرهــا - هــو أن النموذجين ضدان. وهذا التضاد يضفي بلا ريب على النص شــيئا من الألــق، الذي لا نجــده إلا في مثل هذا الســياق، وقديما قالوا «والضدُّ يُظْهرُ حســنه الضِدُّ.» وفــي نص آخــر من هــذا القبيــل يَعْجب الــدارس من تلك الصورة التي رســمها لفتاة لهــا حضورها المتكرّر فــي الإعلاميــ­ات المســموعة، والمقــروء­ة، والمنظورة، وهــي التي تشــارك الفتيان ثورة الحجــارة. فهي، في ما أنجزهُ من رســمها، تحتل حيزاً كبيراً في مســاحة النــص الشــعري، وفــي أداءٍ يقترب من الســرد الذي لا يخلــو من بعــض الوصــف، علــى الرغم مــن قِصَر القصيدة، وكثافة الصورة. والعلامة الفارقة فيها تلك الخاتمة التي تقــرع طبول الَمجْد مبشّــرَةً بالنصر على الغزاة الاحتلاليي­ن:

الفتاة التي حذروها من الضحكة الصاخبة والتي علموها الرضا بالمتاح واعتياد الندمْ سترتها المتاريسُ عن أعيُن الجند لكنها.. فضحَتْ نفسها بالعلم

أقنعة الألفاظ

تســتوقفُنا في الشــاهد كلمة البرغوثي )فضَحَت( فهي لفظٌة لا تُســتخدم إلا في سياق العيب، وقد يكون اســتعمالا مذمومــاً، غير أن الشــاعر بقولــة )بالعلَم( حــرَّر هــذه الكلمة مــن معناها المتــداول، كاشــفا عن قنــاع الــدالّ فيها، فقد عهــد إليها بالدلالــة على معنى خاصّ، ومدلول شــعري، هــو التحدي، بــل المجاهرة بالتصدي للغــزاة الُمحتلين، فعلى الرغم من أن الفتيان يدارون أنفسهم بالمتاريس، وهي تستطيع أن تفعل ما يفعلونه بما أنَّ ذلك متاح، لكنها تكشفُ، برَفْعها العَلَمَ، عن وجودها خلف الِمتْــراس. وهذا المثال يلقي الضوء على نهج الشــاعر في الاســتعما­ل الشــعري لمفردات اللغة، في قصيدة نسجها البرغوثي من خيوط الواقع الحياتي اليومي للفلسطينيي­ن، إبان ثورة الحجارة، أو قبلهــا، لتحافظ على جمرة المقاومــة، وحرارة الثورة، فــي الوقــت الذي تحافــظ فيــه أيضا علــى جماليات النصّ الشعري، الذي يقول ما لا يُقال.

ساعي البريد

والبرغوثي لا يقتصرُ في قصائدهِ هذه على النماذج العُليا من مســؤولين، أو ثائرين، لكنه لا يتأبّى الهبوط بشعره الرفيع لنموذج بسيط ينتمي للهامش، لا للمتن الاجتماعي. ففي قصيدة بعنوان «ساعي البريد» نجد الأســى والشــجن يتجليان في صورة هذا الإنســان، الذي لا يفتأ يطــوف، ويدور، حاملا إلى الناس أخباراً قــد تســرُّهم حينا، وقــد تزعجهم حيناً آخــر. أما هو ـ نفسه - فلا يجد من يُرسل له خبراً:

الرسائل في جعبتي والعناوين مطموسة لست أدري لمن سأوصلها ثم لا باب ينتظر الآن دقات قلبي ولا أحدٌ يرتجي خطوتي غير أني )أشيل( على كتفي جعبتي وأواصلُ هذا الطواف تذكرنــا هذه القصيدة بأخرى عــن )الكواء( نظمها في القرن الماضي فيلســوف العربية والشــعر عباس محمــود العقــاد، لافتــا النظر لمســؤولية الشــعر عن الناس العاديين، والبســطاء المهمَّشــن. فالشــعر في رأيــه ينبغي له - ما دام يخاطــب الناس أجمعين – أن لا تقتصــر نماذجه على النابهين، أو علــى عِلْيةِ القوم، والأعيــان. وقــد لفتت قصيدتــه تلك الكثيــر من ذوي البصر في الشــعر، فانقســموا على فريقــن؛ فريق لم تــرُقْ له، وفريــق رأى فيها فتحاً جديــداً، ونهجا رائداً )شوقي ضيف، مع العقاد، ط1، القاهرة، دار المعــارف( وقــد نظــم العقــاد قصيــدة أخــرى عــن ســاعي البريد، ونُشــرت فــي ديوانه بهذا العنوان، وفيها يقول:

هل ثمّ من جديد يا ساعيَ البريد لو لم يكن خطابي في ذلك الوطاب لم تطْو كلَّ بابِ يا ساعي البريد

يكــن شــاعراً، لا بالقــوة الكامنــة، ولا بالفاعليــ­ة الُمتَجسِّدة، التي تنم على صدق الحساسية الشعرية، ورهافة الشــعور الإنســاني. فــأي شــعرية تلك التي نجدها في اســتعماله كلمــة الوطاب، التــي يعني بها الحقيبة؟ ثم ما هذا الــوزن؟ وما هذه القوافي المتباينة الــروي؟ وما هذا الإيقاع الذي يشــبه أغاني الأطفال؟ أما قصيدة البرغوثي، فتشــير لما في الشــعر الحديث مــن عفوية لافتــة عن طريــق تصويره لهــذا النموذج، وانفعالاتـ­ـه وشــعورهِ بالإحبــاط، فالعقــاد اكتفــى بالوصف الخارجــي، أما البرغوثي فيقــدم لنا صوراً لما يمورُ في النفس من مشاعر، وإحساسات، ولهذا لا تخلو القصيدة من جماليات النظم، ولاسيما تلك التي نجدها في اســتعماله الجريء لكلمة )أشيلُ( العامية بما تعنيه مــن دلالةٍ على ثقل المهمــة التي يضطلع بها هذا الإنسان. تمْييز الغث من السمين والواقع أن هذا المقام لا يسمح __

٭

ناقد وأكاديمي من الأردن

 ??  ?? ومــن يوازنْ قصيــدة العقاد - وهــي طويلــة - بقصيــدة البرغوثــي، يقفْ علــى حقيقة مهمَّــة، وهــي أن العقــاد لــم
بمزيد من الاســتطرا­د في بيــان الجوانب الإبداعية المبتكــرة في شــعر مريــد البرغوثي القصيــرة، وغير القصيرة، والتي تتصف بالبورتريه وبغيره، سواء ما جــاء منها في «ليلة مجنونة» أو في «منطق الكائنات» أو في «عندما نلتقي». وحسبنا القول: إننا مضطرون في هــذه الحقبــة التي طغــت فيهــا فوضــى المعايير النقدية، واختلط حابل الشــعر بنابلــه، ومحتاجون، للعودة إلى هذا المســتوى الفائق من الشعر، لدراسته، وتحليلــه، وتعريف الأجيال به، وبمــا فيه من أصالةٍ، ومــن ابْتــكار، فــي المســتويي­ن الأســلوبي، والدلالــي، لأن تــذوُّق الشــعر الرصين، المتــن، جســرٌ لا بــدّ مــن عبــوره لاكتســاب مهــارَة التفريــق بيْــن الغثّ من الشعر وَالسمين.
مريد البرغوثي
ومــن يوازنْ قصيــدة العقاد - وهــي طويلــة - بقصيــدة البرغوثــي، يقفْ علــى حقيقة مهمَّــة، وهــي أن العقــاد لــم بمزيد من الاســتطرا­د في بيــان الجوانب الإبداعية المبتكــرة في شــعر مريــد البرغوثي القصيــرة، وغير القصيرة، والتي تتصف بالبورتريه وبغيره، سواء ما جــاء منها في «ليلة مجنونة» أو في «منطق الكائنات» أو في «عندما نلتقي». وحسبنا القول: إننا مضطرون في هــذه الحقبــة التي طغــت فيهــا فوضــى المعايير النقدية، واختلط حابل الشــعر بنابلــه، ومحتاجون، للعودة إلى هذا المســتوى الفائق من الشعر، لدراسته، وتحليلــه، وتعريف الأجيال به، وبمــا فيه من أصالةٍ، ومــن ابْتــكار، فــي المســتويي­ن الأســلوبي، والدلالــي، لأن تــذوُّق الشــعر الرصين، المتــن، جســرٌ لا بــدّ مــن عبــوره لاكتســاب مهــارَة التفريــق بيْــن الغثّ من الشعر وَالسمين. مريد البرغوثي
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom