Al-Quds Al-Arabi

كمال القاضي

-

كان شــاباً متحمســاً في ســن العشــرين، حين عــاد مــن الولايات المتحــدة الأمريكيــ­ة يحمل فــي قلبه أشــواق الوطــن، وفي عقلــة جنون الأفــكار، هــو ابــن البورجوازي­ــة المتوســطة، لكنه ينتمي إنسانياً لطبقة العمال والفلاحين، ويؤمن بالســينما كأداة تغييــر قــادرة علــى خلق واقع جديد ومختلف عن ذلــك الواقع الذي يعانيه البؤســاء في العالم كله، ليس هناك تناقض بين أفــكاره التي طرحها فــي فيلمي «الأرض» و«بــاب الحديد» وتلك الأفــكار والــرؤى الُمتضمنة في أفلامه الأخــرى كـ«اليوم الســادس» و « المصير» و«المهاجــر» ففي الحالتين هو نفســه المخــرج المصــري العربي التقدمي، الذي يــرى أن دوائر التنوير واســعة، ومحيطاته تتســع لكل ما له علاقة بالإنسان والإنسانية، بعيداً عن الشكل واللون والهوية.

بهــذا اليقين أخذ يوســف شــاهين يطــرح ما يعن لــه من صــور وأفكار، عابــراً الحواجــز، ومتجــاوزاً الأطر الُمكبلة للموهبة والمســار، كان شاهين معنياً فقط بالجماهيــ­ر، غير عابئ بما يُمكن أن يُقال عنه وعن أفلامه وثقافته الُمختلطــة، ما بــن الانتمــاء العربي الشرقي، والنزوع إلى المسايرة الغربية أو الفرنســية على وجه التحديد، وقد ردّ المخرج الكبير عملياً على التساؤلات الحائــرة لعشــاق أفلامــه ومريديه، ففي فيلم «المصير» ربط بين شــخصية المفكر والفيلســو­ف العربي ابن رشد، واغترابــه في عالم السياســة والمادة والأطماع والسُلطة، نائياً بالشخصية المحورية عــن دنايا النــزاع والخوف والخضوع للأمر الواقع، رافعاً من قيمة الفكر والفلسفة والإبداع.

وفــي فيلــم «المهاجر» عــرج على التاريخ القديم واســتحضر من جديد أمجــاد الفراعنــة وتفوقهــم العلمي والحضــاري، واســتلهم مــن أجواء النهضة المصرية الغائــرة في القدم ما يدل علــى انتمائه ووطنيتــه، مُعطياً درســاً في الصلة الوطيدة القائمة بين الحضــارات على مرّ العصــور بلا نفي للغير، أو إنكار لمجده وتاريخه.

وكذا في فيلــم «الآخر» لــم يتورع عن أن يشــير إلى الهيمنــة الأمريكية ومحاولات بسط النفوذ القائمة، مُعرباً عن رفضه للعولمة وتبعاتها السياسية والاقتصادي­ة، ولم يســتخدم يوســف شــاهين لغة الحيــاد فــي التعبير عن موقفــه من هــذه القضيــة، بينما كان واضحاً في ما طرحه، غير أن فلســفة الحوار الزائدة عن الحد أفسدت الرؤية العامــة، وبــددت المفاهيم فطاشــت ضربتــه بعيــداً عــن مرمــى الخصم الأمريكي، فلــم يعتبر الجمهــور فيلم «الآخر» من أفلامه المهمة.

وفي الحقيقــة أن ســوء الفهم تكرر بين يوســف شــاهين والجمهــور، في أفلام أخرى غير هــذا الفيلم، فـ«وداعاً بونابــرت» و«اليوم الســادس» على ســبيل المثال وهما نموذجــان لأفلامه الغامضة لــم يحظ أي منهمــا بالتأييد الكامــل، كون المخــرج المثقــف الكبير اعتمــد خطابــاً خاصــاً فــي توصيل الرســالة الســينمائ­ية، واتبع أسلوب التلميح والإسقاط، أكثر مما تستوجب الأحداث، فضاعت الفكرة الأساسية في غمرة الاهتمام بالمناظرات الفلســفية، واقتضاب الجُمل الحوارية، بما لا يُغني ولا يفي بالمعنى، وتلك إشــكالية كبرى اســتعصت على الحل وباتت عقبة أمام اســتيعاب القاعــدة العريضــة لجُملة

أفلامــه الأخيرة، باســتثناء فيلم «هي فوضى» الذي هبط فيــه المخرج الكبير من برجه العالي علــى الأرض، ليطرح مجــدداً قضيــة واقعية تمس الســواد الأعظــم من الناس، فمــا وجّهه من نقد لاذع للشــرطة، والنظــام الأمنــي في حينه كان حرياً بلفت النظر، واستعادة الجمهور مره أخــرى إلى محيط تأثيره ومنطقــة تألقــه، بعــد فقدان اســتمر فترة طويلة وكاد يصيبــه باليأس من عملية التجديد الفكــري برمتها. وربما من دواعــي الابتعاد وحــدوث الجفوة بــن يوســف شــاهين وجمهــوره في مراحــل مهمة مــن مشــواره الإبداعي اهتمامــه بتضمين ســيرته الذاتية في بعــض الأفــام، كـ«حدوتــة مصرية» و«إسكندرية ليه؟» و «إسكندرية كمان وكمــان» و«إســكندرية نيويورك» فقد اعتبر الُمتلقي البســيط أن هــذا الربط بينه وبــن أفلامه محض نرجســية لا محــل لها من الإعــراب، بينمــا لم تكن المســألة كذلك لــدى صاحب الســيرة والأفلام فهو لم يقصد التسجيل الحرفي لحياته وسيرته، لكنه أراد أن يجعل من نفسه شريكاً في الواقع الُمعاش، وجزءاً من أحداث وتجــارب حقيقيــة ليُثبت أنه شــاهد عيان على صدق ما يطرحه ويُقره.

وتبقــى رغــم الجــدل والصخــب والاختــاف والاتفــاق علــى أفلامــه وأفــكاره ومنهجــه، نماذج مــن أعمال ســينمائية مهمة تُعد مقياســاً للنضج والعبقريــ­ة والعُمــق كـ«عــودة الابن الضــال» و«الاختيــار» و«العصفور».. تلك الثلاثية الُمســجلة باسمه والموقعة بإمضائه.

 ??  ?? يوسف شاهين
يوسف شاهين
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom