Al-Quds Al-Arabi

أوبرا وينفري... سيمياء الصورة وفرجة الاستهلاك

-

■ كلُّ شــيءٍ في العالم صناعة، وترويج وتســويق، وبالاتجاه الذي يجعل هذه الثلاثية تملك مؤسسات وطواقم تشــبه أندية كرة القدم، حيث الاحتراف والســوق والنجوم، وحيــث الحرفنة التي تقــوم علــى الأداء الفائق، لكن ما يميزها هو امتلاكها لكثيرٍ من الطاقات الفيللوجية، ومن الســرديات التي تحكم خطاب السوق والإشــهار، تتحول فيه الموجودات إلى أدوات للفرجة، والمتعة والاستهلاك، بما فيها البشــر مهما كانوا، بوصفهم كائنات لغوية، وسلعا قابلة للتــداول، فالعالم أزاح القداســة عن الإنســان، إذ طرده مــن التاريخ وتركه للسرد، لتتشكل صورته، حســب مواصفات حاجة السوق والوظيفة والسلطة والأيديولو­جيا، وربما وفق حاجة الخطاب في سياقه التداولي..

أوبرا وينفري تملك حظوة وشطارة المرأة الاستعراضي­ة، فهي تجيد التمثيل والتســويق، مثلما تجيد لعبة تقويض الخطاب العنصري الأمريكي، لاســيما وهي تعمل في «ســي بي أس» وهي أخطر المحطات التلفزيوني­ة شــهرة وثراء وتسويقا، فضلا عن كونها صديقة الرؤساء والرئيسات في الحكم وفي القصر، وهذه وظيفة اســتثنائي­ة تضاهي إلــى حد كبير وظائف الرأســمال­يين، الذين يملكون ثلاثة أرباع العالــم، لكن ميزة وينفري أنها تملــك القدرة على تحريك مزاج الكبار، وطبعا حركة هذا المزاج تشبه حركة أسطول بحري.

المرجعيات الســينمائ­ية لوينفري» جعلتها أكثر مهــارة في إنتاج مرجعيات واقعية في ســياق برامجها التلفزيوني­ة، لاســيما وأنها جزء من مدرسة سينما المفارقــة التي أسســها المخرج ســتيفن ســبيلبرغ، فبقدر حيويــة اختيارها للشــخصيات، فإنها تعمل بطريقتها الناعمة والهادئة والساخرة، على تحويل الجو التلفزيوني إلى منصة للاعتراف والكشــف، بمــا فيها الاعتراف بفضائح شــخصية، وهذا ما أكسبها شــهرة ســريعة، وتفاعل مع جمهور عريض يتلذذ بالفضائح الخاصة..

وينفري وسلطة التلفزيون

لا تشــتغل وينفري على تســويق المعلومات، فهناك مصادر كثيرة للحصول عليها، كما لا تعمل في السياســة، وهي مهنة الملل والكآبة والخداع، بل تجد في لعبة الاســتعرا­ض مجالها الأرحب، حيث تتخلى الشــخصيات الُمستضافة عن هيبتها الرئاســية، أو الطبقية أو الكارزمية، لتبدو في الشاشــة وكأنها بعض شــخصيات «والت ديزني» تدعو للحميمية، وتثيــر الضحك والتعاطف، وهي حساســيات يتناغم معها الجمهور الأمريكي بشــكل خاص، ليــس لأنه يكره الأقنعة التي يلبســها أولئك، بل لأنها تكشــف غرورهم وأكاذيبهم عبر ما يشبه لعبــة «الامبراطور العــاري» كما في حكايــات الدنماركي هانس كريســتيان أندرسن.

لقاءات وينفري مع الرئيس الأسبق أوباما وزوجته، ومع الرئيس كلينتون والســيدة هيلاري كلينتون مرشحة الرئاســة، وكذلك مع الرئيس الحالي جو بايدن وغيرهم، وضعت المنصة التلفزيوني­ة وكأنها «مذبح كنســي» للاعتراف، ولنزع الأقنعة والوجاهات، وللقبول بمبدأ «المساواة» مع الآخرين في التفاصيل الحياتية والاجتماعي­ة والجنسية، ورغم ما في الأمر من قصدية قد تقف وراءها مؤسســات تســويقية وإعلامية وإعلانية ومخابراتية، فإنّ الأمر يبدو جاذبا للمشــاهد، الذي يريد أن يرى رئيسا يشــبهه في الضحك والكلام والاعتراف، مثلمــا يريد بورجوازيا يتحدث عن الإفلاس والغنى والفشــل والطموح، وعن حياته الســرية مع المال والنســاء والسياســة. ولعل لقاءها الأخير مع المتمرد الإنكليزي الأمير هاري وزوجته ميغان ماركل، دوق ودوقة ساســكس، يكشف عن حيوية المنصــة التلفزيوية، وعن اللعبة المؤنســنة للحــوار، فضلا عن ما يفضحه لفضول الجمهور من أســرار ذلك التمرد علــى العائلة الملكية، والبحث عن ملاذ أمريكي، وكأنه يقول أنا أعشــق نموذج الحرية الأمريكية، بقطع النظر عن ذاكرة العنصرية، وعن الحكايات التي بدأت تطال حياته، وعن أسرار لون بشــرة طفله القادم، وهذا الاعتراف ســيقلل من صدمــة عنصرية اللون، ومن الخروج عن التقاليد البروتســت­انتية والملكية، بوصــف أن الملكة اليزابيث هي صاحبة السلطتين الدينية والدنيوية في بريطانيا وفي عالم الكومنويلث.

خطاب الفرجة وسيمياء الصورة

الوصلة الإشــهاري­ة كما يســميها ســعيد بنكراد لبرنامج وينفري، تحمله سلسلة من المضامين، والرســائل التي لا تُعنى بالخدمات الثقافية، بل بسيمياء الشــخصيات، حيث تتحول هذه الشــخصيات إلى بؤر جاذبة، وإلى وظائف تؤدي فعاليات المتعة والخــوف والكراهية والعصيان والتمرد، بما فيها التمرد على النســق، كما حدث مع الأمير هاري، أو في التعبير عن الشغف كما حدث مع الرئيس بايدن.

المســتهلك التلفزيوني ليس عامل المطعم، ولا الحداد في مشغل الحديد، ولا بائع الخردوات، بل إنها تصنع سيمياء الصورة وخطاب الفرجة لجمهور طبقي يتابع «الغايات الإشــهاري­ة» بما تحمله من معنى أو من ربح، أو قيمة لها بعدها الأيديولوج­ي، وحتى العنصري، وليجد هذا المستهلك «توتره الدلالي» في اللغة التي تصنع ســياقها وينفري، وفي طريقة تقديمها وتأثيرها عبر التمثيل، فهي تقدّم رسالة أمريكية للعالم تصنعها امرأة سوداء، لضيوفها الكبار- أغلبهم من البيض- لتصنع مشهدا تذوب فيها نقائض اللون والتاريخ، ليحضر في المقابل الخطاب الذي يشبه الجسد في إغوائه، وفي عفويته المقصودة، حيث «يتحول ضمنها الاســتعما­ل الوظيفي إلى فرجة تتداخل فيهــا كل الدلالات البعيدة منها والقريبة» كما قال بنكراد.

هل يمكن لوينفري أن تستضيف رئيســا عربيا مع زوجته؟ أظن أن الجواب ســيكون بالنفي، ليس لأن البرنامج أمريكي خالص، وأن مشــاهدته مدفوعة الثمن، وأن ضيوفه ينبغي أن يكونوا نجومــا، وطبعا هذه الصفة غير متوفرة في الرؤســاء العرب، رغم الضجيج الاعلامي عنهم وحولهم، وهذا ما يســقط اعتبارهم جزءا من خطاب الفرجة وسيمياء الصورة.

وينفري وصناعة صدمة التلقي

الصدمة تستنفر مخيلة المستهلك، وتضعه في ســياق إغوائي لتقبل المتعة، بمــا فيها متعة الكراهيــة، فلقاؤها الأخير مــع رجل العائلة المالكــة النافر عن السلالة، والكاره للدم الأزرق، بدا وكأنه يصنع عبر البرنامج عالما سرديا كامل المواصفــا­ت، فيه رغبة التمرد، والخوف على أن يكــون مصير زوجته وأطفاله مثل مصير أمه الأميرة ديانا، وهذا ما جعل ســاعات بث اللقاء أشــبه بمشاهدة فيلم رومانســي كثير الإثارة، فالشــغف الطبقي، يتشــهى حديث التمرد على السســتم الملكي، والشغف الاجتماعي يبحث عن الاســرار، وعن ماذا يدور في خفايا العائلة التي تحكمها امرأة هائلة القوة والأناقة والحرص الطبقي والملكي.

لا أحســب أن وينفري قدمــت برنامج محايــدا، بل إنهــا اصطنعت صدمة التلقي لتصنع منظــورا للصورة من جانب، أو لجذب تلك الشــخصية الفائقة لتقدّم تحولها من شــخصية ملكية إلى شــخصية عمومية، يمكن الحوار معها، وإخضاعها إلى أي تحليل ســردي، فالأمير رغم صغر ســنه، قــد يفكر بكتابة مذكراته لكي يجعل من ســيمياء صورته، مجالا للربح، فما بعد المرحلة الملكية ستبدأ المرحلة التجارية.. لقد ادركت المرأة سر اللعبة، هذا ما قاله جان سيغيلا، فعبر تقانة وشطارة في التمثيل والترف الإعلامي تمكنت من أن تضع الكثيرين في ســياق التلقي، وفي القبول بالإشــهار، الذي يخص الشخصية وخطابها، مثلما يخص المضمون مهما كان تافها، فهي لا تســتضيف فلاســفة ولا أصحاب نظريات في الفيزياء والكيمياء والأنثروبو­لوجيا، بقدر ما أنها تسعى وبخبرة متراكمة إلى صناعــة فضاء إعلاني هائل، إعلان يخص الشــخصية، ويخص الزمن المســتقطع من البرنامج، لتقديم إعلانات عن الصابون والشامبو، أو عن ماكنات الحلاقة أو الترويج لدواء عن العجز الجنسي..

المهم في الأمر أن تكــون صناعة التلقي خاضعة لقصدية إعلانية، وليســت قصدية فينومينولو­جية، حيث الأشياء مكشوفة، والمضمون لا يحتاج إلى تأويل وإلى جدل، وحيث تبدو الفكرة، مهما كانت ساذجة، صالحة لتذكير الجميع بأن العالم - وسط جائحة كورونا، ووسط الحروب والبشاعة - يحتاج إلى شيء من العافية والنعومة واللذة، بما فيها نعومة اللغة التي تصلح لمواجهة خشونة السياسة، التي مازالت بعض فخاخها مفتوحة للعابرين من طيبيّ النوايا.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom