Al-Quds Al-Arabi

الأعشى وبودلير: مقاربةٌ شعرية في القبح والجمال

-

تظهرُ تجليات العاهة التي توشــم بالجســد علــى الألفــاظ والتصرفــا­ت الذاتيــة، فحتــى مع الآخــر تنشــأ علاقــة متضــادة، لاســيما إن كان الآخــر المجتمع النابذ للقبح، ولــو عدنا إلى التاريخ الثقافــي والحضــارا­ت القديمــة، لوجدنــاه يعــجُ برفــض القبيــح. يبقى الســؤال الجوهري هل إعاقة الأديــب أو العاهة تؤثر في أدبه؟ إذ تفحصنا أدبنا العربي القديم نجد ألقابــاً أو مســميات أطلقــت على الشعراء بسبب عاهات عندهم، فالأعشــى الشــاعر الجاهلــي ســمي بذلــك لقصــر نظــره، أو لعــدم رؤيتــه فــي الليــل، لكــن شعره زخرَ بصورٍ مرئية كقوله: كأن مشيتها من بيت جارتها مر الســحابة لا ريثٌ ولا عجل. وكأن العشــو لــم يؤثر فــي خياله ولا يشــوه شــاعريته. وربمــا هذه المشــاهد المرئية ذات الصــور الحركيــة جاءت بمثابــة تعويــض عمــا يعاني منه.

بينمــا الشــاعر الحطيئة اصطبــغ شــعره بقباحــة الهجــاء، وعــرف بســاطة كلماته اللاذعــة، والحطيئــة لقــبٌ؛ لقصــر قامتــه ووجهــه القبيح حتــى قال عن نفســه في بيت شــعري يرفــض قبح شــكله: أرى لــي وجهاً قبــح الله خلقه فقبحَ من وجهٍ وقبح حامله. البيت يظهــر ثورية الشــاعر الذاتية التــي رفضتْ المظهر القبيــح، ولا تخفــى علينــا قصتــه المشــهورة مع الخليفة الثاني عندما ســجنه بســبب هجائه للزبرقــان، فرونــق البلاغــة ومــا تخفيــه من عيــوب نســقية لم يجمــل هجــاء الحطيئة. ولو قلبنــا صفحــات الأدب وانتقلنــا إلى زمــانٍ ومكانٍ خــارج الأفق المشــرقية، مع ازدهار الفلسفة تأتي «أزهار الشــر» للشــاعر الفرنســي بودليــر بمفارقــة كبيــرة فــي أعمالــه الشــعرية، وتكمــن المفارقة في قباحــة محبوبته، واعتناقــه لصفاتها البشــعة التــي تحولت إلى قصائد ذات نزعة إنسانية وجمالية، وكأن القبح مهلــمٌ للجمــال وجرده من النسق الثقافي، فيقول في قصيدة حسناء: أيها الناس الفانون أنا جميلــة جمــال حلم من حجــر ونهداي اللذان لم يســلم

أحد مــن عذابهما خلقا ليُلهما الشــاعر حباً خالداً وصمتاً كصمت المادة الخرســاء، إني أجلس على عرش السماء كأبي الهول غامض.

النص فيه اعتراف صريــح بأن محبوبته تعمل مومســاً وهي المهلمة كما أن الشاعر أنطقها، وبين هويتهــا، والذي يهمنا أن قباحــة المحبوبة تحولت في شــعره إلى جمــالٍ لا يتغنــى بالبلاغــة، وإنما بالفلســفة التي تجرد الحياة من التشويه والشر، كما نرى في النص اســتحضار الدين والأسطورة، فأعطى هوية مزدوجة لحســنائه، أي هوية كونية وبشــرية، لأنها تقيم في الحد بين الواقع والحلم. وفي قصيدة بعنوان )جيفة( يقول: اتذكرين يا نفسي الشيء الذي رأيناه ذات صباح صيفي منعش على منعطف طريق ضيق هذه الجيفة الكريهة الراقدة على ســرير من

حصى ساقاها على الأعلى كالمرأة الشبقة

النص فيه مفارقة بين القبح والجمال عبر الشم، فقد رسم لوحته الشــعرية بلون تظهر فيه الرائحة بشــكل أساســي فقد وظفَ كل الكلمــات المتعلقة بالشــم، فحداثة القصيــدة عنده هي بالاســتغن­اء عن البلاغة ، والاتكاء على حاسة الشم وتجريدها من أريج العطر، فهو أعطى لأزهار الشــر رائحة في هذه القصيدة. ويقول في أخرى بعنوان الظلمات: كأني رسامٌ حكم عليه إله ساخر أن يرسمَ وأسفاه على لوحة الظلام، أو طباخ مأتمي الشــهية يعكف على ســلق قلبه ليقتات بــه. القارئ لجملة )يعكف على ســلق قلبه( يشــعر وكأنه خارجٌ من مشرحةٍ بشــرية، لكــن شــغف بودلير فــي إثارته لمشــاهد مرئيــة قبيحة في شــعره، ومدى اعتناقــه للرعب والأذى. فحتــى القــارئ ليومياتــه يرصد عشــقه لندبات الجدري في جسد حبيبته.

بودليــر يتســلق ســلم القبح ويوظفــه في أدبه وشــعره، لتصل رسالته الإنســاني­ة، ولا ننسى أن الأدب يســاعدنا علــى فهم الحياة، وكلما أحســن الأديــب أو الكاتــب صنعه تمامــاً منحــه الخلود. فهــذي القبح أو الخــروج عن النمــط الجمالي في الأدب والفنون ما هو إلا تحطيم الحدود بين الذات والآخر، والانصهار مــع الكون والوجود. وقباحة الأدب تكمن في أمور أخرى كالكتابة ذات المفردات الفظة، والسجينة في البلاغة المعيارية، وفوضوية الفكرة، وغيرها أمور تتطلب وقفة طويلة.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom