حالة كاشفة عن السيريالية المصرية ومصيرها
«هل رأيت يا ســيدي )عروســة المولد الحلاوة( ذات الأيــدي الأربع؟ هل رأيت عرائس القراقوز الصغيرة؟ وهل سمعت قصــص أم الشــعور والشــاطر حســن وغيرها مــن الأدب الشــعبي المحلي.. كل ذلك يا ســيدي ســيرياليزم. هــل رأيت المتحف المصري .. كثير من الفن الفرعوني ســيرياليزم. هل رأيت المتحف القبطي .. كثير من الفن القبطي ســيرياليزم. إننا لا نقلد المدارس الأجنبية، بل نخلق فناً نشأ من تربة هذه البلاد الســمراء وتمشّى في الدماء من يوم كنا نعيش بتفكيرنا المطلق حتى هذه الســاعة يا صديقــي». (كامل التلمســاني عضو جماعة الفن والحرية. مجلة الرســالة في 28 أغسطس/آب 1939 عدد 321 .)
بهذه العبارات يدافع كامل التلمساني (1915 ــــ 1972( أحد رواد الســيريالية المصريــة وجماعة )الفــن والحرية(، عن الجماعــة وتوجهاتهــا، باتهامهــا بأنها انعــكاس لصوت أوروبــي غريب وبعيد عن المصريين. شــارك التلمساني ورفاقه، وعلى رأســهم جــورج حنين، رمســيس يونــان، أنــور كامــل، وألبيــر قصيري وغيرهم من خلال مجلة «التطور» لســان حــال الجماعــة في إنتــاج أدبــي وفني مختلف عما هو سائد، وكان همهم الوحد هو بعث وعــي ثقافي جديــد، والنيل في حدة من كل آلهة وأساطير الثقافة المصرية في ذلك الوقت. ومــن ناحية أخرى يقوم التلمساني بكتابة وإخراج فيلم «السوق الســوداء» عــام 1945، ليتــم منعه من العــرض، وهو يســتعرض آثــار الأزمة الاقتصادية وقت الحــرب العالمية الثانية على الناس. وحتــى إن كان الفيلم ينتمي لتيــار الواقعية الانتقاديــة، وهو البعيد عن النهج السيريالي المعروف عن الرجل، إلا أنه يشــترك في الفعل الثوري والحل الجماعي ـ فقلما تجود الســينما المصرية بحلول قوية ـ وهــو أن يقوم أهل الحارة بالاســتيلاء علــى البضائع مــن مخزن التاجر، ثــري الحرب الجشــع، فلابد أن يأخذ الناس حقهم بأيديهم، ولا ينتظرون رحمة من أحد.
عن حكاية التلمساني وتحولاته الحادة يأتــي كتاب «رحلــة كامل التلمســاني.. السيريالي في مواجهة الواقعي» للشاعر والتشــكيلي المصري محســن البلاسي، الصادر مؤخراً عــن دار الثقافة الجديدة في القاهــرة. وقد أقيمت ندوة لمناقشــة الكتاب في آتيليه القاهرة، شــارك بها كل من الشــاعر والناقد مدحت طــه، الكاتبة مي التلمساني، وأدارها الفنان ياسر عبد القوي، ولنستعرض جانباً منها..
وكأنه رواية
تحدث بداية ياســر عبــد القوي مدير الندوة ومصمم غــاف الكتاب، قائلاً.. إن العمــل لا يقتصر على كامل التلمســاني، وإن كان هــو البطــل، لكنــه بانورامــا للحركة المصريــة والعالميــة الثقافية في العشرينيات وما بعدها من القرن الفائت، فهو أكبر من أن يكون عن شــخص واحد،
وإن كان يــروي كل ما حدث من خلال عين هذا الشــخص. وبما أنه يــروي فالكتاب يقترب أكثر من الرواية، عــن كونه كتاباً بحثيــاً جافــاً، فالحِس الروائــي يحيط بالكتاب تمامــاً، رغم المصــادر والمراجع الكثيــرة، وأضاف عبد القــوي في نهاية كلمته، أن الكتاب رغم شخصية باحثه، قد تماس بدرجة كبيرة مع كتاب «السيريالية في مصر» للناقد والكاتب ســمير غريب، الذي قام بتقديمه للكتاب.
حالة مقاومة
وأشــار مدحت طــه بداية، إلــى أنه ليس بمستغرب مناقشــة كتاب عن كامل التلمســاني في آتيلييه القاهــرة، الذي ناقش من قبــل كتاب ســمير غريب آنف الذكر، واحتفالية جماعة )الفن والحرية( بمــرور 70 عاما على نشــأتها. ويرى طه أن مــا حدث فى العالم منــذ بداية الحرب العالمية الأولى، ثم ثــورة 1919، ثم ظهور النخبة التى أسست جماعة الفن والحرية، كانت بمثابة حالة مقاومــة لكل ما يجري فى العالم. كذلك أشار إلى أن كتابة جماعة الفن والحرية، جاءت باللغة الفرنســية لأنهم كانوا ضد الاحتلال الإنكليزي، ومن ثم لم يكتبوا بلغــة الاحتلال، كما أن هذه الجماعة كانت تمثــل محاربة كل التقاليد والقيم البالية. وهنــا يمكن التوقف قليلاً عند مســألة اللغــة الفرنســية بزعم أنها ضــد الاحتلال ـ والكلام لنــا ـ وهي فكرة غيــر صائبة بالمــرّة، فمعظــم رواد الفن والحرية، وعلى رأسهم جورج حنين كانت الفرنســية لغتهــم الأولى، وكذلــك ألبير قصيري ورمســيس يونــان، وفي رســالة من التلمســاني نفسه إلى جورج حنين، الذي كان في باريس وقتها، يذكر التلمساني أنه أحضر القاموس الفرنسي حتى يستطيع كتابة الرســالة. فالأمــر لا علاقة له بالاحتلال، لكنهــا كانت اللغة الُمعتَمَــدَة لديهم.. لغــة التفكير والكتابة.
من السيريالية إلى الواقعية
تمثل شــخصية التلمساني الكثير مــن المنعطفات الحادة، فمــن تشــكيلي ســيريالي مدافــع عن جماعتــه وأفكارها، إلى هجرها، والتحــول إلى ســينمائي أكثر واقعية من صلاح أبو ســيف ـ مع وهمية التقســيمات ـ ثم مغادرة مصر نهائياً إلى بيروت، والعمل مديراً فنياً لفيروز وفرقة الرحبانية. وتقول الكاتبة مي التلمساني ـ ابنة شــقيق كامل التلمســاني ـ يحاول الكتــاب أن يجيب عن الســبب الذى دفع كامل التلمســاني، وهو من طلائع حركة الفــن والحرية والفن المســتقل فى مصر، لكي ينتقل عام 1934 للعمل الســينمائي، وكانت هناك إجابة جاهزة أســتمع إليها مــن عائلتي، وهو أنــه رأى أن تلقي الفن التشــكيلي فى ذلك الوقــت اقتصر على البرجوازيــة المصرية، لكــن باعتبــاره تقدمياً فكر فى العمل في مجال الســينما، كونها الفــن الجماهيري الأمثل، وبالتالي هذا هو المكان الحقيقي لطموحه وتقديمه فناً للجميع، إلا أن هــذه الإجابة لم تقنع المؤلــف بشــكل كبير، حيث حاول أن يرد على السؤال نفســه بأجوبة عديدة أكثر تعقيــداً، ومرتبطة بالتحــولات الخاصة بهــذه الفترة فى تاريــخ الحركة الثقافية فى مصر. وتضيف في الأخير.. أن الكتاب تضمن وثائق مهمة عــن المراحل المختلفة من منجز التلمساني، بالتقاطع مع الحركة التقدميــة فــي مصر فــي العشــرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي.
ويرى محسن البلاسي مؤلف الكتاب، أن كامــل التلمســاني يصعــب تصنيفه ككاتــب أو فنــان تشــكيلي أو مخــرج ســينمائي، لكنه حركة ثقافيــة بمفرده، حيــث مثّــل طفرة فــي الفن التشــكيلي المصري، إضافة إلى مسيرة حياته المليئة بالانعطافــات الدرامية، التي كانت قادرة على اســتيعاب تطورات الحركة الثقافية المصرية وقتها.