Al-Quds Al-Arabi

من القاتل الحقيقي بوتين أم بايدن؟

- *كاتب عراقي واستاذ في العلاقات الدولية

فــي كســر واضــح لــكل الأعراف والأصول الدبلوماسي­ة، وحتى لياقات التخاطــب بــن الزعماء السياســيي­ن خارج حالة الحــرب، جاء وصف الرئيــس الأمريكي جون بايدن الرئيس الروســي فلاديمير بوتين بأنــه قاتل، وأنه ســيدفع ثمــن أفعالــه. كان التصريح ضمن حــوار أجراه تلفزيون «أي بي ســي» معه الأســبوع الماضي. في ما جاء تعليق بوتين علــى الوصف باردا بالقول، إنه يتمنى لبايدن الصحة الجيدة، وأردف «القاتــل هو من يصف الآخر بذلك، دائما نرى مواصفاتنا في شــخص آخر، ونعتقد أنه مثلنا». كما اعتبرته أوساط روســية إهانة للدولة والشعب، حيث قال رئيس الدوما «هذه هســتريا ناجمــة عن العجز. بوتين رئيسنا وأي هجوم عليه هو هجوم على بلادنا».

في حين صفّــق الاتحــاد الأوروبي للموقــف قائلا، إن المســؤولي­ة السياســية واضحــة على بوتين فــي عمليات اغتيال كثيرة حصلــت في الداخل والخارج. كما رحّب وزير الخارجية الألماني باللغة التي استخدمت في وصف بوتين، لكن ما الأسباب التي تقف خلف هذا الموقف؟ وما التداعيات اللاحقة؟

لعل السبب الرئيســي الأول الذي دفع الرئيس الأمريكي للتصريح بهذا الشــكل هو وقوعه تحت ضغط المهمة الملقاة على عاتقــه، وهي كيفية تجاوز الصورة النمطية التي كانت مرســومة للرئيس الســابق دونالد ترامب، أمــام الرئيس بوتين، حيث غالبا ما كان الوصــف بأنه خانع وخاضع له، وأن هذه الحالة قد حطت مــن قدر ومكانة الولايات المتحدة أمام أنظار العالم، لذلك فــإن الإدارة الجديدة تحاول اليوم إعــادة العلاقة مع بوتين شــخصيا إلى الوضــع الطبيعي، ما قبل تولي ترامب الرئاســة، وإرسال رســالة بأن الموقف الأمريكي من روســيا لم يعد كما كان ســابقا، لذلك هو ذهب إلى حالة من تســمية الأشياء بأســمائها، حتى لو اقتضت الضرورة تجاوز الأعراف الدبلوماسـ­ـية، التي تقتضي أن لا يُصرّح بذلك علنا مراعاة للهيبــة. كما يبدو من التردد الذي أبداه في بداية الإجابة، أنه يعرف تماما ماذا تريد الأوساط السياســية الأمريكية أن يكون جوابه. فهنالك شبه إجماع على أن يكون الوصــف بهذه الكلمة وليــس أدنى منها. أما الســبب الآخر الذي دفع بهذا الوصــف للخروج إلى العلن، هو التقرير الصادر عن المخابــرا­ت الأمريكية قبل يوم واحد من المقابلة التلفزيوني­ة. التقرير يؤكد الاتهامات القائمة منذ ســنوات ضد بوتين، التي تزعم أنــه كان وراء التدخل في الانتخابات الأمريكية الســابقة عام 2016، كما يشــير أيضا إلى تدخــل آخر في الانتخابات الأخيــرة عام 2020. إضافة إلى أنــه يتحدث عن هجوم ســيبراني روســي ضخم ضد الأصول الأمريكيــ­ة، ودفع مكافآة من المخابرات الروســية لمقاتلي طالبان لقتل جنود أمريكيين في أفغانستان. وقد فنّد المتحدث باسم الرئاسة الروسية هذه الادعاءات قائلا، إنها مزاعم لا تستند إلى دليل، كما اعتبرتها أوساط روسية حجة في ســبيل إصدار عقوبات أمريكية جديدة ضدها. وهنا كان لابد أن يعزز بايــدن ما جاء في التقرير بذلك الوصف، حيث لا يمكن أن يستقيم المنطق بأن لا يكون بوتين قاتلا، في حين تتهمه المخابرات الأمريكية بكل هذه الأفعال.

وإذا مــا أضفنا إلى الســببين، أن الرئيــس بايدن أصدر مؤخرا ما يســمى دليــل الأمن القومي الأمريكــي، الذي هو عبارة عن صورة للاستراتيج­ية الأمريكية الكبرى في العالم خلال عهده، والذي أشار بشــكل واضح إلى أن روسيا عدو منافس ســيكون الصراع معها في أماكــن كثيرة من العالم، فإن كل هذه الأمور تعطي جوابا واضحا على دوافع ومعنى كلمة قاتل، التي اســتخدمها بايدن فــي وصف بوتين، لكن البعض عزا الواقعة لأســباب إضافية أيضــا.. قالوا إن هذا الهجوم غير اللائق برئيس دولة قد يكون أيضا ردة فعل من بايدن نتيجة موقف شخصي، لأن تقرير المخابرات الأمريكية يقول إن الحملة التي شُــنّت على ابنه بتلقي رشــاوى كان مصدرها الكرملين. كما تدخل المعركة الداخلية الأمريكية ضد ترامب وأنصاره كدافع أيضا، حيــث تريد الإدارة الجديدة الاستمرار في اســتخدام الورقة الروسية في عملية تسقيط سياسي للرئيس الســابق في عيون أتباعه. أما التداعيات اللاحقة لهذه الأزمة الدبلوماسـ­ـية الأولــى في عهد الإدارة الأمريكية الجديدة، التي بسببها استدعت موسكو سفيرها في واشــنطن للتشــاور، فيمكن أن تعزز من اســتراتيج­ية موســكو التي وضعتها حال وصول بايدن إلى السلطة، بعد أن أبــدى مبكرا توجها عدائيا نحوها. هي تشــدد على عدم قطع العلاقات مع واشــنطن، وأن العمل معهم سيستمر بناء على ما يصب فــي مصلحتها. لكن من جهة أخرى ســتندفع كي تكون موجودة في كل الدول التــي بدأ بايدن مهاجمتها في سياســته الجديدة. وقد رأينا الاســتثما­ر الروســي في التوتر الأمريكي مع ولي العهد الســعودي، أنتج جولة وزير الخارجية لافروف في منطقة الخليج العربي، واللقاء الذي جمعه بوزيــري خارجية كل من قطر وتركيــا في الموضوع السوري، وســيتعزز هذا الاتجاه أكثر بعد الأزمة الأخيرة. كذلك الدعوة الروســية إلى مؤتمر حول أفغانســتا­ن، هي ورقة ضغط على واشنطن ستسمح لموسكو بالتعامل بشكل أفضل، والمناورة مع إدارة أمريكية عدائية. فموسكو جربت المستنقع الأفغاني ســابقا، وتعلم جيدا أن واشنطن تسعى للخروج منه بــكل الطرق وبالتعاون معهــا. أما التداعيات على الجانــب الأمريكي فيمكن قراءتها، في أن واشــنطن لا تريد إعادة ضبط العلاقات مع موســكو، لذلك ســوف تزيد من الضغط عليها فــي ملفات مهمة مثل، ضم شــبه جزيرة القرم، والدعم الروســي للنظام السوري، وسنرى خطوات أمريكية كبيرة في هذه الملفات لاحقا. كما ستضغط واشنطن علــى الحلفاء في ألمانيا للانســحاب من مشــروع خط غاز )نورد ستريم 2( الممتد بين روســيا وألمانيا، حيث دعا وزير الخارجيــة الامريكية إلى ذلك يوم الخميــس الماضي مهددا

بعقوبات أمريكية على الشركات التي تنفذ المشروع.

ومع كل ذلك فإن صُنّاع القرار في كل من واشنطن وموسكو لن يسمحوا لهذا التجاوز الدبلوماسي أن يذهب إلى مديات بعيدة، لأنهــم يعرفون أن النفخ في الأمــور الصغيرة يدفع إلــى عواقب وخيمة، تضــر بالعالم أجمــع. العلاقة بينهما مهمة جدا وسوف تســتمر، رغم العثرة الأخيرة لأنها قائمة على المصالح. واشــنطن تريد المحافظة علــى هذه العلاقة، لكن على أســاس واضح. هم ينظرون إلى موسكو على أنها ليست حليفا ولا شريكا دائما، بل علاقة شراكة في مواضيع وملفات محــددة. هنالك نظرة في الولايــات المتحدة تحكم العلاقة مع موســكو، وهي اختلاف القيم بينهما، وهذا يدفع البعــض للقول لا حاجة لنــا إلى توافق كامــل معها، لكن لا مانع من التوافــق عندما تكون هنالك مصلحــة. عودة إلى الســؤال الجوهري الذي ظهر عنوانا لهذا المقال، من القاتل الحقيقي بوتــن أم بايدن؟ وهنــا لابد من إعــادة التذكير بما قاله ترامب الرئيس الأمريكي الســابق عندما سُــئل في شــباط/ فبراير 2017 من قناة «فوكــس نيوز»، إن كان يرى بوتين قاتلا. رد ترامب آنذاك بالقول )هناك الكثير من القتلة. هل تعتقــدون أن بلادنا بريئة؟(. تعزيزا لهذه الإجابة، لا بد من القول كلاهما قاتل. فنحــن كعرب لو قمنا بفحص ضمير بوتين وبايدن فإننا ســنجد بوتين قد قتل بصورة مباشرة مئات الآلاف من أهلنا في ســوريا بصواريخ طائراته، التي كانت تســوي المدن والبشر والشــجر والحجر مع الأرض. وهو قاتل بصورة غير مباشــرة بالسلاح والتدريب والدعم الذي كان يقدمه إلى النظام السياسي في سوريا. أما بايدن فليس أقل حالا من زميله بوتين. لقد كان العضو الديمقراطي الأشــد تأييدا لجورج بوش الابن في غزو واحتلال العراق، الذي أزهقت فيه أرواح ما يقرب من مليون إنســان، وهدمت فيه مئات المدن، واســتعملت فيه أســلحة ممنوعة، وهُجّر من شــعبه الملايين، واندثرت فيه دولة كانت قائمة. وعندما أصبح نائبا لأوبامــا كان اللصوص والعمــاء والقتلة من الحكام الجدد في العراق هم حلفاءه الذين كان يرسم معهم مستقبل العراق إلى الوراء.

صُنّاع القرار في كل من واشنطن وموسكو يعرفون أن النفخ في الأمور الصغيرة يدفع إلى عواقب وخيمة، تضر بالعالم أجمع

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom