عندما يبدع الحكام العرب في التاريخ الافتراضي
فــي الكتابة التاريخيــة، يوجد نوع من التأريخ يســمى «التأريخ المضاد»، أو التاريخ الافتراضي، يعتمد على فرضيات قريبة من الواقع، بل مســتوحاة منه مباشرة، يتم طرح هذه الفرضيــات لمعرفة التطورات التي يمكــن أن تكون قد حدثت وغيرت مجرى التاريــخ. وهذا النوع مــن التاريخ يغيب في العالم العربي، الذي لم يســتأنس به علاوة على غياب شرط حرية التفكير، الغائب الأكبر.
وهذا النـ�وع من التأريخ يسـ �مى بالإنكليزية Counter
factual history وهو الاسم الذي يطلقه الأكاديميون على هذا النوع من التاريخ، ويقبل مؤرخون به شــريطة خضوعه لمقاييس أكاديمية، منها عدم الإفراط فــي الخيال، بل الالتزام بمــا يمكن اعتباره الخيــال الواقعي. ويوجد شــق آخر وهو الخيال التاريخي، أي الإفراط المسرف في توظيف الخيال إلى مستوى جعل الرواية التاريخية جزءاً من أدب الخيال.
الصنــف الأول مــن الروايــة التاريخية المضــادة، التي ســاهم في تطويرهــا الباحث البريطاني نيال فيرغرســون، هو الــذي حظي مع مرور الوقت باهتمــام كبير وتبنته بعض شُــعب التاريخ في مختلف الجامعات الغربيــة، فهو ينطلق من معطيات واقعية وممكنة التحقيــق، إذا جرى اتخاذ قرار سياســي في هذا الاتجاه أو ذاك. وصدرت كتب عديدة تعالج فرضية فوز النازية في الحرب العالمية الثانية، ومنها: ماذا لو كان هتلر سباقا الى إنتاج الســاح النووي؟ وكان النازيون في الطريق لصنع القنبلة، لولا الحصار خلال السنة الأخيرة، ثم فرضية انتصار الاتحاد الســوفييتي فــي الحرب الباردة وانهيار الغرب. وفي كل دولة غربية، تجد كتبا عديدة من هذا النوع تعالج التاريخ العالمي، أو التاريخ الوطني المحلي.
وهذه المنهجية في التفكير لم تعــد تقتصر فقط على كتابة التاريــخ المفترض، بل تحولت إلى آليــة للفكر الافتراضي، أو الفكر المضاد التي تشــمل الكثير من القطاعات. وأصبح ركيزة أساســية للتفكير الجيوسياســي، لتفادي النتائج الســلبية ويمكن إجمالها في تعبير «تبني الحــذر». ويوجد في التراث الثقافــي المتداول في المغــرب مقولة دالة تقــول «الحذر غلب القدر». ونســتعمل في لغتنــا اليومية تعابير مــن قبل «ماذا لــو كنت قد اتخذت هذا القــرار»، أو بنظرة مســتقبلية «ماذا ســيحدث لو أقدمت على اتخاذ هذا القــرار». وعليه، لنطبق
منهجية التأريخ المضاد، أو الافتراضــي على التاريخ العربي والأمازيغي، ونتخيــل النتائج التي كانــت ممكنة الحدوث، وكيف كان ســيكون شــكل عالمنا مقارنة مع حالنــا الواقعي المعاش حاليا. في هذا الصــدد نتوقف عند المنعطفات الكبرى ونفتــرض لها وجهــة مختلفة، ونطــرح الفرضيات الخاصة بالأحداث التالية: في المقام الأول، كيف كان ســيصبح العالم العربي فــي وقتنا الراهن، لو كان قد نجــح فكر رواد النهضة العربية أمثال رفعت رافع الطهطــاوي والأفغاني وأحمد أمين في الانتشار سياسيا وثقافيا؟ هل كان العالم العربي سيكون قريبا من الدول الأوروبية، بالتمتع بمســتوى مقبول جدا من العدالة الاجتماعية والديمقراطية.
في المقام الثاني، كيف كان ســيكون وضع الدول العربية، لو استغلت الأنظمة الحاكمة ذلك الحماس الوطني الذي رافق طرد المستعمر، والحصول على الاســتقلال إبان الأربعينيات حتى بداية الســبعينيات في إنجاز النهضة؟ وكانت الشعوب وقتها تواقة لبناء الوطن والتضحية بكل شيء، كما ضحّت في مواجهة المستعمر.
في المقام الثالث، هذه الفرضية تتســاءل بشــأن، لو كان الربيــع العربي قد نجــح في الانتقــال بالعالــم العربي من الديكتاتوريــة إلى أجواء الديمقراطية، هل كنا ســنبني عالما تســوده الكرامة، ووضع أســس الرقي للحاق بباقي الأمم؟ وعلاقــة بالعالــم العربي، تمــارس بعض الأنظمــة الرواية التاريخية المضــادة، حيث يفترض خطابها السياســي عبر أدوات إعــام البروباغنــدا: لــو انتفضت الشــعوب مجددا ستعيش حالة ســوريا، الحرب الأهلية والتشــرد والاقتتال والاغتصاب.
والفرضيــة الأخيــرة وهي: مــاذا لو كان الحــكام العرب
متشــبعين بقيم الديمقراطية والمســاواة العــدل والنزاهة؟ الجــواب بســيط، أولا، كان العالم العربي ســيعيش في ظل اســتقرار وكرامة مثل جيرانهم الغربيين، وثانيا، كنا سنكون أمام فئة مختلفة من الحكام، نظــرا لمبدأ التناوب الديمقراطي على السلطة، الذي سيأتي باســتمرار بوجوه جديدة تشغل منصب المســؤولية الرئاســية أو الحكوميــة. وكان كل جيل ســيعرف على الأقل ثلاثة رؤســاء، كما يحــدث في الولايات المتحدة وفرنسا، أو رؤســاء حكومة بصلاحيات حقيقية، في حالة الأنظمة الملكية مثل، إسبانيا وبريطانيا وبلجيكا.
في غضون ذلك، رغــم غياب الديمقراطيــة، ورغم ضعف عملية التأريخ في العالم العربي نتيجة ضعف البحث العلمي الجامعــي، التأريخ المضــاد أو الافتراضي مزدهــر في العالم العربي من طرف الأنظمة. وإذا تأمــل المواطن العربي، أو في دول العالم التي تغيــب فيها الديمقراطيــة، ويحضر تمجيد الحاكــم وتأليهه، ســيلاحظ تخمة الحديث عــن الإنجازات العظمــى، بينما الشــعب يعيــش الفقر والاحتقار. ســيجد المواطن، أن مؤرخي الدولة يمارســون يوميــا هذا النوع من التاريخ، ولكن، هذا النوع من التأريخ يحمل في طياته توقيتا زمنيا يؤشــر إلى نهاية صلاحيته، إذ يصبح مثل البضاعة لها تاريخ معين وتفسد، ويلقى بها في القمامة. يمكن للقارئ القيام بهذا التمرين البســيط من الاطلاع على نوعية التأريخ، الذي كان إبان حاكم معين في بلد معين، ثم نوعية التأريخ لما بعده، سيجد الخلف قد ألغى تاريخ الســلف ليبني رواية خاصة به تدخل في باب التاريخ الافتراضي المفرط في الخيال.
في دول العالم التي يحضر فيها تمجيد الحاكم وتأليهه، يُلاحظ الحديث عن الإنجازات العظمى، بينما الشعب يعيش الفقر والاحتقار