Al-Quds Al-Arabi

الثورة السورية بين الواقع والمأمول

- * كاتب سوري

منذ أيام أطلت الذكرى العاشرة للثورة الســورية، ومــرور هذه الذكــرى يدفع المتأمل للتمعن بمآلات الثورة وحيثياتها وإفرازاتها، لأنها كانت ثورة شــعب حرٍّ أراد استعادة حريته وكرامته. تحمل هذه الذكرى في طياتها كل المشاعر المتناقضة، وتختلط المشاعر لتنتج شعورا بالإصرار على متابعة الطريق حتى تحقيق الغاية. ولكن الأهــم من ذلك كله وحتى لا تحضر الذكرى وتغيب الثورة، ويحضر الشعار ويغيب المشروع، هو مراجعة السنوات السابقة، وتحديد مكامن الضعف والإخفاق ومكامن القوة والنجــاح. لأن المراجعة والنقد تقوية وإصلاح، والثوار أولى به من أعداء الثورة.

عشرة أعوام على الثورة فهل حققت مقاصدها؟ أم بعضها؟ أم أنّهــا مقبلة على احتمالات أخرى قــد تنفيها؟ فيما يبدو أننا إزاء نزعة حلول سياســية ومجلس عســكري، لا يمكن الحكم لهــا أو عليها حتى الآن، أو في الحد الأدنى أن تســعى باتجاه التقدم، علــى أن احتمال نفي الثورة هو أيضــا احتمال وارد. ورجوع أشــخاص انشقوا عن نظام الأســد، بعد أن كانوا من ســدنة نظامه وبتوافق مع المعارضة الســورية، يسمى تلطفا «شــراكة»، وتهافت الانتهازيي­ن نحو هذه الحلول من كل حدب وصوب، يبتغون مناصب تســد جوعهم للسلطة، ويصفق لهم أرباب «الهبوط الناعم» الذين تقمَّصوا اليوم روح الثوار.

مقابل ذلك لا تبسط اليد لحداة الثورة الأوائل، الذين نهضوا بها وضحوا كثيــرا من أجل تحقيق مطالبها، وما يطرح من حل للقضية السورية، الذي يعِدُ بمشروع ما جديد يلوح في الأفق، لا يزال قيد التشــكل بعســر، يبحث عن عناصره التائهة هنا وهناك، وقد تظل مشــاريع هذه الحلول «في حضرة الغياب»، طالما الضيــق الفكري، والانقياد السياســي يتلبس المعارضة السورية، التي استمر كســلها وفشلت على مدار عشر سنوات في القبض على الأهداف التي طالبــت بها الثورة، وعدم حمل المعارضــة لفكر الثورة، الذي كان بالإمــكان أن يكون محركها وضامن مسارها، ومحققا لمطالب جمهورها، ما قزّم مطالبه إلى خدمات معيشية ومطلبية ضيقة، بدون تقديم للمطالب الثورية الكبرى، فلم يعد يعنيها إلا ســامتها بالفعل المضارع ومراودة المســتقبل. وكعادتها ومنذ عشر ســنوات تلعب الدول الكبرى لعبتها الوظيفية في تخدير المعارضة الســورية، التي تسيدت صفوف الثورة، وتســتخدم تلك الــدول كل الأدوات للوصول إلى هدفهــا، وهو وضع عربــة تلك المعارضة خلــف قطارها، الذي يجدّ المســير نحو أهداف تلك الدول، من خلال مؤتمرات وندوات، يســتخدم فيها كل وســائل الإقنــاع الميكافيلي­ة، ما يولد إحساســا لدى كل معارض بأنه هــو الأمير، ومن واجبه استخدام الوســائل كافة ليبقى أميرا، ولو كان في ذلك خيانة لذوي الشــهداء والمعتقلين والجرحى، وخذلان الشعب الثائر في الوصــول لمبتغاه، وتصبــح عندهم الخيانــة وجهة نظر، ولها فقه يصف الثورة بأنها أزمة، وأن الثائر مســلح، وتحرير الأرض حرب، وخيانة دم الشهداء تعايش ومواطنة.

وســعت الدول الإقليميــ­ة والدولية ذات التأثير بالشــأن الســوري، إلــى التخلص من الفكــر الثوري لــدى المعارضة الســورية، وقامــت بإبــراز وتوجيــه البوصلة نحــو عالم الأشــخاص، بدلا مــن الأفــكار والمبــادئ والقيــم الثورية، وبذلك أصبح الأشــخاص بديلا للمبــادئ والأفكار، وهؤلاء لا يســتطيعون الصمود، إذا لم يتلقوا دعمــا خارجيا من الدول التــي اختارتهــم، ولا يصلحوا أن يحلوا محــل القيم الثورية التي نادى بها الشعب الثائر، وبذلك يتحول الأحرار إلى عبيد وهم لا يشــعرون. فيما أدى المال السياســي الذي تدفق على ثورتنا، بتحول النضال الملتزم بقيم ومبادئ الثورة، إلى مجرد نشاط يوظف فيه الناشط والسياسي والعسكري والإعلامي، وغيرهــم، تجربتــه وخبرته لمن يدفع، شــأنه في ذلك شــأن لاعب كرة القدم. كان المأمول أن تصنع الثورة الســورية نصرا حاسما، وفي واقع الأمر فقد اقتربت من ذلك كثيرا في سنواتها الأولى، ولكن المتربصين قطعوا عليها الطريق، لأنها أسفرت عن وجهها الحضاري، باعتبارها ثورة وعــي وبعث لقيم التحرر والمواطنة، التي وطأتها أحذيــة الكهنوتيين. وفي التقدير ثمة أســباب حالت دون اكتمال حلم الثورة. فقــد أصيبت الثورة مبكرا «بكورونا التأســلم» الذي عمل نظام الأســد على نشره في نهجها ووعيها. وقد عمل هذا الفيروس على «أسلمة الثورة السورية » حسب بوصلة المتأسلمين السياسية، التي تعمل على استغلال العواطف والمشاعر الدينية عند الشعب، ما أدى لتأخر الحســم في المعركة ضد نظام الأســد. وارتفعت كلفة الحرية، وأنتــج عوامل هدم أخرى أنهكت الحــراك الثوري وألحقت به ضررا كبيــرا، وطبع الثورة بطابع «الإســام السياســي» ما أدى للفشــل والانغلاق والانســدا­د. فمن حيــث المنطلق يعلم الجميع أن الثورة الســورية انطلقت لأســباب إنسانية عامة، مرتبطة بقيم الحرية والكرامة، ضد نظام مســتبد، لا يمت إلى مصلحة الوطن بصلة، ولا يقيم لآدمية الإنســان أدنى اعتبار، اندلعت «ضد الظلم لا ضد الكفر»، وبهــذا الفهم فتحت الثورة بابا لكل السوريين، لا لفئة محددة أو طائفة بعينها، لأن معظم الســوريين نالهم من ظلم النظام الشــيء الكثيــر. وقد لعب المتأسلمون دورا سيئا للغاية في «أســلمة» الثورة، من خلال اســتغلال العواطف الدينية واللعب على وتر تجييشــها، لأن هناك فرقا بين المســلم والمتأسلم، فالمســلم شخص يتبع دينه، ويطبــق أركانه وينعكس على ســلوكه وأخلاقــه ومعاملاته ويرى الإســام دينا جامعا، ولا يستغل الدين لتحقيق مآربه. بينما المتأســلم متعصب لفكر منهجه وأيديولوجي­ته، ويعتقد بصحته دون ســواه، ويعادي من يخالفــه ويلجأ إلى التدين لإزاحــة خصومه والدعاية لحزبه، ويغــازل الجمهور بعاطفة الوتر الديني. الثورات تشــيخ بانتظام، ثم تنقلب على نفسها، إذا لم تكن هناك استراتيجية ثورية وقيادة تنظيمية، تستثمر الحراك الثوري، فقد كان هناك نابليون في فرنســا بعد الثورة الفرنسية، وجاء ستالين بعد الثورة البلشفية، وكان هناك ماو بعد الثورة الصينية.

لأن الثورة هي وصول الإرادة الثورية للجمهور، والتحرك نحو الهدف وهو النظام الديكتاتور­ي لإسقاطه، والبدء بعملية تغيير الحالة السلبية، أو الظلامية التي كرّسها النظام الحاكم عبر القمع والدولة البوليسية. إنه لأمر مؤسف حقا أن ينفصم وعي الثورة، ليصبح واقعها افتراضيا ومحصورا بشــعارات وأيقونات. وبعد عشر ســنوات من الثورة مازال العمل جاريا على إلقاء القبض على أحلامنا بتهمة التمني. بعد عشر سنوات ثورة مازالت المعارضــة تقود الثورة بفكر غير ثوري، بل بعقل نمطي تعود علــى الفئويــة والحزبية، واســتئصال المخالف لفكرها، ولم تعمــل بالمعنى الصحيح علــى إدارة حراك ثورة ضد نظام يقمع ويقتل شعبا يطمح للتحرر، بل انحنوا لمكاسب السلطة. بعد عشر سنوات ســيجد المتابع لمسار الثورة مثالب وأخطاء كثيرة منها:

أولا: انعــدام الوعي الثــوري عند قادة الثــورة، وميلهم لعسكرة الثورة بشكل تقليدي في الشارع، ما أورث هذا الحال انقساما في الصف الثوري.

ثانيا: العجز عــن جمع الكلمة، نتيجة عــدم تحقق الوعي بالثورة، وخوفا من ضياع مكتســبات سلطوية خاصة، إذ لو تحقق الوعي الثوري عند القادة لفهموا أن قوتهم مستمدة من اجتماعهم واصطفافهم لتحقيق هدف واحد، ما أدى لتبعثرهم في ســؤال الشــريعة وتطبيقها، وتصنيف الناس على أساس خيارهم إلى إسلامي وعلماني.

ثالثا: الثورة مشروع سياسي، والجهل في اختيار الأصدقاء وتحديد الأعداء كان غالبا على مسار من تصدر قيادة الثورة.

رابعــا: التخويــن، هذه الجرثومــة التي أصابــت الكثير وأصبحوا يرون بســببها الثائر المخالف لهــم في رأيه مخالفا لهم في الغاية، وقد أنتج هذا الأمر تشظيا غير مسبوق في عدد الفصائل العسكرية والمحافل السياسية.

خامســا: خرج الثوار للخلاص من الاســتبدا­د بالســلطة والحكم، ولكنهم وجدوا قياداتهم بشــتى أطيافها لا يتداولون القيــادة، إلا بتدخل مــن عزرائيل، نتيجة عجــز عن تصدير الأشــخاص المناســبي­ن لقيادة المرحلة على أســاس الكفاءة والإنجاز، والاكتفاء بقيادات تقليدية بوعي قديم.

سادســا: ســقوط الكثير من القيادات في المجــالات التي تصــدروا قيادتها في اختبار النزاهــة الثورية، وامتحان المال العام، وطرق وأساليب كسبه المشروعة.

سابعا: الانحراف عن مبادئ الثورة، التي تقتضي الالتزام بأس الأخــاق الكريمة، ومحاولة المتاجريــ­ن بالثورة صبغها بأخلاقهم.

ثامنا: أفرزت الثورة السورية خواء على مستوى القدوات، فمع كثرة المتســاقط­ين، انكشــفت للناس نوعية القدوات التي كانت تتبعها وتخلفها عن القيم والأخلاق قبل عامة الناس.

تاســعا: التشــبيح باســم الثورة، وهذا الأمر يجب عدم الســكوت عليه، ولا تعليله باسم الأولويات، فمن يرى أن هذه اســتثناءا­ت لا تســتدعي التصدي لها الآن، فإنما يؤسس لأن تصبح هذه الاستثناءا­ت هي الأساس. فالشعب الذي عانى من تصرفات وحواجز الشبيحة، يجب عدم القبول بحواجز باسم الفصائل العســكرية المنتمية للثورة، لأنها تمارس تشــبيحا أقل، وليس لأن العصابة الحاكمة تقتل الناشــطين والإعلاميي­ن وتخفيهم باسم محاربة الإرهاب، يعني القبول بضرب وإهانة واعتقال هؤلاء باســم الثورة، وإذا كان نظام الأســد يمارس الاستخفاف بالشعب الســوري ونخبه، فليست مهمة الثورة والثــوار تقليده في الاســتهزا­ء مع من يختلــف معهم بالرأي وتخوينه واتهامه ليثبت هؤلاء صحة وجهة نظرهم.

هــذه الأخطاء والتجــاوز­ات وغيرها من الممارســا­ت على المســتوى اللفظــي والفعلي، ليســت فــي مصلحــة الثورة، والســكوت على التجاوزات وتبريرها يعيق تقدم الثورة نحو بناء مجتمع مواطنة مختلف، عن ذلك الذي أسس له الأسد في جمهورية الخوف والرعب والقهر. تلك ليســت مهمة محصورة في جهة واحدة من الثورة، بل ثقافة يجب أن تشــاع، والتملق والخوف من مواجهتها ليس فيه أي نوع من حماية الثورة، بل العكس هو الصحيح. هدف الثورة إسقاط منظومة نظام الأسد، والعمــل على بناء نظــام مواطنة عادل، وهدف نظام الأســد القضاء على الثورة، وإن لم يستطع يعمل جاهدا لتحويلها من خلال روســيا وإيران والدول التي تدعمه من ثورة أحرار، إلى ثورة عبيد. وهذا يتطلب توصيف الشــخوص وتحديد موقف ممن حضر مؤتمرات سوتشــي وأستانة مدعيا تمثيله للثورة، وهناك وجهــات نظر مختلفة اتجاه هــؤلاء، الذين ذهبوا إلى سوتشــي تصل حد التوصيف بالخيانــة، واختلاف وجهات النظر ليس نابعا في لبس وغمــوض في الموضوع، وإنما نابع من مفهوم قيم الثورة. من قاطــع المؤتمرات عليه أن يقاطع من ذهبوا إليها، ومن يصف نتائــج المؤتمرات عليه أن يصف فعل الذين شــاركوا، وبنــاء عليه يحدد وجودهــم أو عدمه ضمن صفوف الثورة. وفي ذكرى الثورة تســتدعي اللحظة الثورية مقارعة الوثنية الدستورية، فحتمية التمايز بين ثوابت الثورة ومتغيرات السياسة تملي على الثوار استعادة يقظتهم لامتلاك منابر الحق، فليــس هناك ثورة في التاريخ تطيع الدســتور، الثورات تكــون دائما وأبدا غير دســتورية، الثورة تســتمد شــرعيتها من نفسها، ودستور النظام يســقط تلقائيا، بدون الحاجة إلى أي إجراء آخر. عندما تفرض الثورة نفسها ويقوم حولها إجماع شــعبي أو شــبه إجماع، الدستور القديم يسقط ليس مــن خلال آليات يحددهــا هو، ولكن من فعــل يأتي من خارجه ويلغيه، هذا الفعل هو الثورة.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom