Al-Quds Al-Arabi

اغتصاب الجزائريات ... جرائم يُراد لها أن تموت

- ٭ كاتب صحافي جزائري

■ في شــهر النســاء، الكلمات التالية هي أقل الممكن. هي انحناءة عرفان وامتنان واعتذار أمام ذاكرة نساء عظيمات كابدن من الألم والعذاب ما لا يطيقه جسم إنسان ولا روحه.. لويزة وباية وجميلة وجميلة وكل امرأة دنّس جسدها وروحها وحشٌ فرنسي في زي عسكري.

وبعدُ، عرفنا منذ نعومة أظافرنا أن النســاء الجزائريات كُنَّ وقودا مفضلا خلال ثورة التحريــر بين 1954 و1962. كان الموضوع يَرِدُ همســا، وبكثير من الحرج، خلال أحاديث الكبار واســترجاع­هم ذكريات أيام الاســتعما­ر. الطفل الذي كنته ســمع مرارا، دون أن يفهم لماذا، أن النســاء كُــنَّ يلطخن وجوههن وأجسامهن بالوحل والعفن في حضرة الجنود الفرنسيين. فهمتُ متأخرا أنهنَّ يفعلن لإبعاد فرص إثــارة غرائز جنود الاحتلال أثناء اقتحامهم البيوت بحثا عن الثوار في القرى والمداشر.

ويــردد الجزائريون أن الأنثى في الأرياف، ما أن تدخل مرحلة البلوغ حتى تصبح فريسة محتملة لجنود الاحتلال، ومشكلة تؤرق عائلتها إلى أن تُزوِّجها أو تهرِّبها إلى أقاربها في المدينة.

في وقــت مبكر من صباح الأربعــاء الماضي قرأت نصا مطــوَّلا في صحيفة «لوموند» الفرنسية عنوانه «تابو الاغتصاب الذي ارتكبه الجنود الفرنسيون في الجزائر». النص كتبته فلورنس بوجي، وتضمَّن شهادات وتفاصيل كثيرة، مؤلمة ومخزية، عن الاغتصاب كســاح في يد الجنود الفرنسيين. أصابني ذلك النص بنوبة حزن ورغبة في البكاء طيلة ما تبقى من النهار.

باختصار: طيلة ســنوات الحرب استعمل الجنود الفرنسيون المرأة سلاحا لتدميرها ثم لـ«كســر أنف» الرجل/العدو عندما لا يتمكنون منه. لم تكن مجرد أخطاء هنــا أو هناك، وفــق المؤرخة كلير ماصو كوبو، بل سياســة رســمية الهدف منها تحطيم المجتمع وإرادته في المقاومــة )المجتمع هو صاحب الفضل في اســتمرار الثورة من خلال دعمه للثوار إيواءً وإطعامًا وحراســةً وتزويدا بالمعلومة عن حركة دوريات الاحتلال(.

أســوأ من الاغتصاب الصمت عنه. في حالات التعذيب الجسدي والنفسي والقتل وحرق القرى، يتبــرع المجرم والضحية بالحديث والاعتراف. في حالة الاغتصاب والعنف الجنسي على نســاء فقيرات معدمات، بعضهن مراهقات، في قمة هشاشــتهن، يطغى الصمت ويصبح مضاعَفًــا: صمت الجلاد وصمت الضحية. الأول يخشــى )وربما يستحي إذا استيقظ ضميره( من عواقب فعل يحط من إنســانيته. والضحية تختفي وراء صمتها صونًا لعائلتها ومحيطها من العار الذي يلاحق الجميع بقية العمر.

كان العنف الجنســي شــائعا أثناء اقتحام البيوت في القرى والمداشــر، وممارسةً اهتدى لها المحققون في المدن، وخصوصا العاصمة، أثناء استنطاق الإناث الموقوفات وحتى الرجال.

لكي يدرك القــارئ ثقل العبء على أكتاف الضحيــة، وحجم «العار» الذي تخشــاه العائلة، أنقل عن فلورنس بوجي أن الســيدة لويــزة إيغيل أحريز، وعندمــا اعترفــت لصحيفة «لوموند» فــي صيف 2000 بأن جنــود الاحتلال اغتصبوها أثناء التحقيق، سبّبت لعائلتها صدعا عميقا لم يكن في الحسبان: ابنها يرفــض أن يغفر لها اعترافها، وإحدى بناتهــا أُصيبت بانهيار عصبي لا شــفاء منه. أما رفيقات الكفاح فهجرنها لأنها أفشــت سرًا وجلبت لهن الأنظار والتساؤلات الفضولية من قبيل «وأنتِ أيضا فعلوا بكِ مثلها؟!».

كانت إيغيل أحريز في الحادية والعشرين عندما اعتقلها جنود الاحتلال في 1957 مصابة بجروح عقب معركة قرب العاصمــة. أثناء التحقيق معها أخذوا راحتهم في العبث بجســمها. كتمت المسكينة ســرّها بكل آلامه أكثر من أربعين عاما، وفي 2000 قررت أن تبحث عن الطبيب الضابط «ريشو» الذي أنقذها من الوحوش المحققين بتحويلها إلى أحد مستشفيات المدينة. كانت تريد أن تشكر إنسانيته، لكنها عثرت على قبره لأن «ريشو» كان قد توفي في 1998.

قصــة باية العريبي، الملقبة «الكحلة» (الســوداء( بســبب لون بشــرتها الداكــن، تُبكي الحجر. تنحــدر باية من عائلة عاصميــة. كانت جميلة الملامح طويلة القامة وطالبة في التمريض عندما اختارت، في العشــرين من عمرها، الالتحاق بالمجاهدين. اعتُقلت في الشــرق الجزائري رفقة ثوار آخرين ســنة 1957. الرجال أُعدموا فورا بمرور دبابة فوق أجســامهم وهم أحياء ومقيّدون. والنســاء نُقلنَ إلى العاصمة من مركز أمني إلــى آخر. تقول باية إنها تعرضت لاغتصــاب جماعي أثناء التحقيق، وأن بعضهم كانوا يصدحون ســخرية من لون بشرتها وهم يرتكبون جريمتهم.

بعد الاستقلال عملت باية قابلة كان لها الفضل في توليد 300 امرأة. ساعدها عملها ودورها في منح الحياة على الاســتمرا­ر بألمٍ أقل، لكن كوابيس الماضي عادت تلاحقها بعد أن تقاعدت عن العمل في منتصف التســعيني­ات. ما زادها سوءا أن تقاعدها تزامن مع حرب داخلية شنيعة كانت تعيشها الجزائر، بعض ممارســاته­ا في قذارة ما كان يحدث للفتيات أثناء الثورة. النتيجة أن أُصيبت بأزمة نفسية تسمى «الاكتئاب المهووس». ثم بدأت تنطفئ شيئا فشيئا إلى أن توفيت في أواخــر 2017. تقول باية إن الرجال يخوضون الحروب والنســاء يدفعن ثمنها. تقول إن التعذيب الجســدي مقدور عليه، أما العذاب النفســي «فوَجَعٌ لا ينتهي أبدًا، أبدًا». تعترف بأن الموت أفضل لأنه خلاص.

في 2004، من بيتها المتواضــع في بلدة بوفاريك، جنوب العاصمة، نصحت باية مراســلةَ «لوموند» بأن تبحث عن ضحايا العنف الجنســي الاستعماري المنسيات في الجبال والأرياف. «أما أنا، تضيف، فإذا ظهر الحق يوما وكنت قد متُّ تعالوا إلى قبري واهمسوا لي بذلك». رحلت المسكينة ولا زال الحق ينتظر دوره.

مع العمــر مات ويموت طرفــا العنف الجنســي في الضفتــن.. الضحايا والوحوش. خشــيتي أن الموت، وبعد أن يطمس الحقيقة، يريح الساســة في البلدين من هذا الموضوع، ومعهم أنصار الإنكار ودعاة أنصاف الحقائق.

بعيدا عن السياســة والتاريخ.. تســتحق الضحايا دعما، مهما تأخر، هو مرغوب ومفيد. أَوليست فرنســا أرض حرية المرأة وحقوقها؟ لكن قبل فرنسا، لماذا تواصل الجزائر ظلمهن بالتنكر لهن؟

الحقيقة هنا ليست ترفا، بل شفاء للضحايا قبل أن تكون إدانة للجلاد.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom