Al-Quds Al-Arabi

توثيق تحولات أوروبا… بين اليمين واليسار والضرائب والهجرة

-

■ لا تتوقف استطلاعات الرأي العام التي تجريها المراكــز البحثيــة الأوروبيــ­ة للتعرف علــى أولويات المواطنــن والقضايــا الاقتصاديـ­ـة والاجتماعي­ــة والسياســي­ة التي تشــغلهم وتفضيلاتهم بشــأنها. حتى تســعينيات القرن العشــرين والعقــد الماضي كانــت اســتطلاعا­ت الــرأي العــام تظهــر اهتمــام الأوروبيين الواســع بقضايا السياسة الداخلية مثل تمايزات برامــج أحزاب اليمين واليســار، ومواقف الائتلافــ­ات الحاكمــة فيما خــص النظــم الضريبية وتقليــص فجوة الدخــول بــن الأغنيــاء والفقراء، وضمانــات الرعاية الاجتماعيـ­ـة للعاطلين عن العمل وللأطفال ولكبار السن.

وفي أوقات الأزمــات الدولية كالغزو الأمريكيال­بريطانــي للعــراق )2003( والإقليميـ­ـة كالحروب الأهلية في يوغسلافيا الســابقة )تسعينيات القرن العشرين( كان الأوروبيون يتفاعلون مع السياسات الخارجيــة لحكوماتهــ­م ويبدون التأييــد أو الرفض )الاحتجاجات الشــعبية الواسعة في بريطانيا ضد تورط حكومة توني بلير في غزو العراق مثالا(.

أمــا اليــوم، فلــم تعــد تلــك الصــورة المتوازنــ­ة لاهتمامــا­ت الأوروبيين غير ســراب لا وجود له في الواقع. تدلل استطلاعات الرأي العام المعاصرة على تحولات جذرية حدثت وتحدث في أوروبا التي صار المواطــن بها غارقا فــي نوعين من القضايــا، التنازع على الهوية والصراعات على تخصيص الموارد.

فمن جهــة أولى، فرضت الموجــة الجديدة لهجرة الشــرق أوســطيين مــع انهيــار الــدول الوطنية في

ســوريا واليمن وليبيا والآســيوي­ين مــن المجتمعات التــي تعاني مــن حروب أهلية مشــتعلة منــذ عقود )أفغانســتا­ن( والأفارقــ­ة مــن البلــدان التــي تفتك بهــا كوارث الفســاد والفقر والبطالــة، فرضت هذه الموجة قضايا الهوية على الأوروبيين وقسمتهم إلى معسكرين متنازعين:

أنصــار إغلاق أبــواب أوروبا في وجــه القادمين مــن خارجها والذيــن باتت أحــزاب اليمين المتطرف واليمين الشــعبوي تعبــر عنهم وتحصــد أصواتهم الانتخابيـ­ـة، ودعاة الإنســاني­ة المتســامح­ة وعالمية حقــوق الإنســان بمضامينهــ­ا الليبرالية المتمســكة بتمكــن غيــر الأوروبيــ­ن مــن القــدوم إلــى القارة مهاجرين وطالبي لجــوء وباحثين عن فرص للعمل وللحيــاة الآمنة الذيــن تحمل برامج بعــض أحزاب يمــن الوســط واليســار التقليدي )كالاشــترا­كيين الديمقراطي­ــن( واليســار التقدمــي )كالخضــر( قناعاتهم.

وبين صعود المتطرفين والشعبويين ومشاركتهم فــي حكــم دول أوروبيــة متزايــدة العــدد وتراجع الأحزاب الديمقراطي­ة وتخلي بعضها عن سياسات فتــح أبواب القــارة للأجانــب )كالحزب المســيحي الديمقراطـ­ـي فــي ألمانيــا( تــدور تنازعــات مريــرة حــول الهوية تســتدعي أحيانا أســوأ ما فــي تاريخ الأوروبيين، المشاعر العنصرية والأفكار الفاشية.

فيمــا خــص قضايــا الهويــة أيضــا ينقســم الأوروبيــ­ون خــارج حــدود دولهــم الوطنيــة بــن مؤيديــن لبقــاء الاتحــاد الأوروبــي ومشــروعه الاندماجــ­ي الــذي ضمــن الســلم والرخــاء لعقود طويلــة وبــن راغبــن إما فــي الخروج علــى النحو الذي قررتــه أغلبية البريطانيي­ن قبل ســنوات قليلة )مهما تعثرت مســارات الخروج راهنا( أو في تقييد ســلطات واختصاصــا­ت الاتحــاد وتمكــن الدول الوطنية من «اســتعادة ســيادتها» المفقــودة )هكذا يتحدث رافضو الاتحاد والمشككون في بيروقراطية بروكسل وصلاحياتها الواسعة(.

مــن جهــة ثانية، تدلل اســتطلاعا­ت الــرأي العام المعاصرة )وأســتمد معلوماتي هنا من استطلاعات أجراهــا بــن 2013 و2020 فريــق بحثــي في قســم العلــوم السياســية بجامعــة زيــورخ واطلعــت على نتائجها التي لم تنشر بعد( على أن الأوروبيين باتوا يقصــرون اهتمامهم فيمــا خص قضايا السياســة الداخلية وبجانب مســألة الهويــة على توزيع موارد بلدانهــم علــى أولويــات مثــل المعاشــات والرعاية الصحيــة والتعليم ودعم كبار الســن ودعم الأســر ذات الأطفــال ومســاعدة المهاجريــ­ن واللاجئــن وشؤون البيئة. بل أن الأوروبيين أضحوا يتعاملون مع أمر توزيع المــوارد على نحو صراعي بحيث تنظر مجموعاتهــ­م المختلفــة لتخصيــص المــوارد كأمر لا يقبل القســمة. لذا يدفع اليمين المتطرف والشعبوي باتجاه إلغاء الموارد المخصصة لمســاعدة المهاجرين واللاجئين طارحا علــى ناخبيه رؤية صراعية تدعي أن ما يذهب «للســوريين وللمســلمي­ن الآخرين» إنما يخصم من مخصصات المعاشات والرعاية الصحية ودعــم كبار الســن )وأيضا تجديــد البنــى التحتية

في العديــد من المــدن والقرى الأوروبية(.

ولذلــك تشــعر أحــزاب يمين الوســط واليســار التقليــدي واليســار التقدمــي بالضغــط المتصاعــد للناخبين الغاضبين من فتح أبواب أوروبا للأجانب وتتراجــع عن سياســاتها الســابقة وتقلــل الموارد المخصصة لهم )ألمانيا والنمسا نموذجا( مهما كانت مقولات اليمين المتطرف والشــعبوي غير موضوعية ومهمــا كان دمــج المهاجريــ­ن واللاجئين في ســوق العمل أنفع اقتصاديا واجتماعيا من تهميشهم. فقط أحزاب الخضر وقليل من الاشتراكيي­ن الديمقراطي­ين هم الذيــن يواجهــون غضــب المتأثريــ­ن بالمتطرفين والشــعبوي­ين بتكثيف سياســاتهم وبرامجهم حول دعم كبار السن والأطفال والأسر وابتداع منظومات جديــدة للضمانــات الاجتماعيـ­ـة مثل اقتــراح دخل أدنى ثابت تكفله الدول لجميــع المواطنين والمقيمين الشرعيين.

التنــازع حول الهوية والصراع بشــأن تخصيص الموارد همــا القضيتــان المركزيتان اللتان تشــغلان اليوم أذهان الأوروبيين، وهما القضيتان المركزيتان اللتان تؤطران برامج وسياســات الأحزاب المختلفة والمتنافسة في صناديق الانتخابات، هما القضيتان المركزيتــ­ان اللتــان ســتحددان المعاني المســتقبل­ية لليمــن واليســار بأطيافهمــ­ا التقليديــ­ة والتقدمية والشعبوية والمتطرفة.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom