Al-Quds Al-Arabi

التشكيلي المصري إبراهيم العطار: سحرية الأمكنة وفانتازيا المخيال

التشكيلي المصري إبراهيم العطار

- رياض إبراهيم الدليمي *

■ عنــد النظر لأي لوحة من لوحــات الفنان المصري إبراهيــم العطــار، يــدرك المتلقــي أنــه اِزاء عالــم مليء بالجمــال، من خــال الألــوان الموظفة ودقــة التصوير المنتظــم بنمطية الأصولــي للفن الكلاســيك­ي ومنهجه، ومــن ناحيــة أخرى تــراه منفلتا مــن الحيــازة الفكرية والمنهجية الكلاســيك­ية، إلى عالــم فني بصري يقترحه لنفســه، غير معني بالأصــول، قدر اســتطاعته ليخلق له عالمه التشكيلي الحســي، وخطه الذى يمثل إبراهيم العطار هذا العالم غير المقيد المتســم بالحرية والإطلاق لمكنوناته ورؤاه وأدواته ليتخذ أســلوبا لنفسه متحررا من التكرار والنمطية السائدة، هذا الفنان المقل بإنتاجه اتسمت أعماله بالاختبار والتحدي للقدرات الشخصية لــه، وكيفية تطويع خبراته الأكاديمية ليجســد بحرفية ماهرة لوحات تقليدية بالمذهبين الانطباعي والواقعي، فينجح في الاثنين، وبحرفية جاذبة للرائي لها، وتترك أثــرا للدهشــة والمتعة لديه، وتســجل فــي الوقت ذاته تجربــة شــخصية لتوثيق الأثــر المصــري والواقع في الوقت نفســه كســابقيه من الفنانــن المصريين الرواد من أمثال يوســف كامــل، وكامل مصطفى، وحســني البنانــي وحامد عويس، مــن طبيعة ومجتمــع ومعمار أثــرى من الطُــرز العربيــة والإســامي­ة القديمــة، فلذا يضــاف إلى مهمــة إبراهيم العطار من حرفة التشــكيل إلــى وظيفة أخــرى ألا وهي مهمة التوثيق والتســجيل للذاكــرة الجمعيــة المصريــة، لتعطيهــا خلــودا وأزلية لصناعة الحضارة، من فن ومعمار وحياة وثقافة.

يمكن القول عــن لوحات العطار إنها ســلم هرموني لونــي إيقاعــي تكنيكــي يتنقــل بهــا مــن تكنيــك لآخر بانســيابي­ة شــفيفة، لينتــج منهــا نغمــا لونيا شــكليا مليئا بالإحســاس والنغم الشــديد العمق والتأثير في المشــاهد، الذي يتلقفها ويبحر في تفاصيلها الصغيرة والغريبــة في أشــكالها ووظائفها اللونية والشــكلية، وفي مقوماتها وعناصرها كالحيز والتوازن والفضاء، وتناغمها معا على الســطح التصويــري للوحاته. عند تأمــل العديد من لوحاته تجد أن تجربة العطار تنقســم إلــى قســمين من العمــل الفنــي، أي لــه أســلوبان في الرسم، أولهما الأســلوب الواقعي والتأثيري، والثاني الأسلوب المستقبلي الحديث بين التجريدي والتعبيري

والسيريالي الجديد.

وهكذا يحافظ العطار على البناء الهندســي الشكلي واللونــي بالأســلوب الأكاديمي المحافظ، الــذي أخذه من أســتاذه فاروق بســيوني، ويضيف إليــه الحداثة بالتجريــب الذاتــي، وهذا الأســلوب غيــر المؤطر وغير الملتــزم بحيثيات النمــط الفني ليترك بصمتــه ورؤيته بالتجريــب الفنــي، ليعطي الحرية لنفســه في الرســم بالطريقة والكيفية التي يراها هو، لتنسجم مع تطلعاته وتصوراته وأخيلته وفي الوقت ذاته لتنسجم مع ذائقة المتلقي ليشــكلا علاقــة عضويــة متناغمة بــن أخيلته وبصيرته، وتقبلها بشــوق من قبل المشــاهد لتسحره وتبهــره، وتخلق حالــة من التوحد بــن اللوحة وبينه، وكمــا يقول هــو: «بعــض لوحاتــي تعتمد علــى البناء الفني غير المرهون بالمنظور اللوني، أو الهندسي، وهذا يفرض عليّ تفعيل كل أســس وقواعد الفن التشكيلي» وهذه الغايــة تعد الغاية المثلى للفنان التشــكيلي وتعد لحظة بهجة وفرح يبحث عنها المتلقي .

تمثل أعمــال العطــار اتجاهين مختلفين بأســلوبين لا يشــبه بعضهمــا بعضــا، من حيــث عناصر الشــكل البصري وأدوات اشتغالها لكنها تمثل قدراته وموهبته وحرفية صنعته.

عــرف عنه إتقانه للمدرســتي­ن الواقعيــة والتأثيرية «جــاءت المدرســة الواقعيــة ردا علــى المدرســة الرومانســ­ية، فقــد اعتقــد أصحــاب هــذه المدرســة بضــرورة معالجــة الواقع برســم أشــكال الواقع كما هي، وتســليط الأضواء على جوانب مهمة يريد الفنان إيصالها للجمهور بأســلوب يســجل الواقــع بدقائقه دون غرابــة أو نفــور. فالمدرســة الواقعيــة ركزت على الاتجــاه الموضوعي، وجعلت المنطــق الموضوعي أكثر أهمية من الذات، فصور الرسام الحياة اليومية بصدق وأمانــة، دون أن يدخل ذاته في الموضــوع، بل يتجرد الرسام عن الموضوع في نقله، كما ينبغي أن يكون «في تجســيد الحياة اليوميــة المصرية، وتوثيــق جماليات الأثر القديم، وكذلك الأثر الذي بدأ يتلاشــى من الواقع المصــري، كبناء وطرز معمارية، الــذي يمثل أحد فنون ومعالم الطرز المعمارية، والــذي عرفته مصر في بداية القرن العشــرين، والحديث هنا عن «العوّامات والفلل» المصريــة التي شــيدت على نهــر النيل، والتي ســكنته العوائــل الثريــة مــن المجتمع المصــري، وأنــت تتأمل لوحــة العطــار )العوّامة( تــدرك أن قــدرة الفنان على اللعب بفرشــاته بــذكاء، من خلال تجســيد المنظر كما هو فــي الواقع، ليضيف مــن عندياته ســطوع الألوان وحركــة الظــل والضــوء بســحرية شــيقة مــن إيقاع لونــي وضوئــي وعتمة تجســد براعة الحالــة الزمنية المفقودة ليضــيء جماليات المكان لاســتحضار ذاكرة المصريــن وليقول للمتلقــي: إنه الزمــن الجميل الذي نفتقــده الآن، ونشــهد ذلك بانغماس الفنــان في إنارة وتجلي تفاصيل المكان كفضاء أو مجســمات معمارية دقيقــة مــن قواعــد «الأســس للعوّامة» وإحاطــة مياه النيل حولها وإبــراز الدعامات والحبال التي تشــدها للشاطئ، لتعبر عن الحنين بإبقاء ذلك المعمار متسمرا، يجمل المكان وعدم تقطيع حبال الشّــد لهذه «العوّامة» وعدم انقطــاع حبالها من الذاكرة والواقع، والتشــبث بالزمــن الجميــل بحلــو الذكريــات ونقــاء الإنســان وفطرته وجمال ذائقته، يجهد نفسه الفنان لتبيان هذه الصــورة الجميلة ويســتدعي تلك الصــورة التي باتت غائبــة، لأنها تعد إحدى ســمات الشــخصية المصرية الذهبيــة التــي آلــت لمآلهــا الحاضر، لتغدو شــخصية يشــوبها التعب والإرهاق، واللاهثة وراء لقمة العيش دون الالتفات إلــى الصور القديمة، التــي لم يعد يعنى لها الجمال قدر عنايتهــا بأولويات العيش والطمأنينة والاســتكا­نة، واللحــاق باللحظة الزمنية المتســارع­ة، التي باتت أســرع من موجات وجريان نهر النيل، الذي تباطأ بفعل الزمن والأحداث والمتغيرات الحداثية وكل ما يشــوبها مــن تحــولات عمرانية ومخلفات وشــحة منابــع وروافد النهر وتدفق مياهه، والموانع من شــدة تعرجاته وترســباته، لــذا بات النيل يئــن فهو مريض ويشــيخ بعد أن مرض شــواطئه وفلاحوه وساكنوه، وهنا يستحضر العطار صورة الزمن المتحضر بذائقته وجمال ناســه في لحظة مخاض وصــراع تاريخي، ما بين زمنــن وذاكرتين بكل ما يحملانــه من تناقضات، وبطبيعــة الحــال هــذا مــا نلمســه أيضا فــي لوحتي «الســوق» و»منظر من الحتة أو الحــارة» ومدى قدرته علــى تصويــر الشــوارع والأزقــة والأســواق وحركة الباعــة والمتبضعــ­ن، بأجــواء خلابــة وهــي صــورة فوتغرافية طبيعية من هــذا الواقع، ليبين لنا جماليات المكان والحركة المتســارع­ة بإيقاعهــا وألفتها للمكان، إنها لحظتــان فارقتان يجســدهما العطار في لحظتين زمنيتين، هما لحظة السكون ولحظة الصخب.

الفنان هو كاميرا متجولة، وعدسة بارعة بالتقاط الَمشــاهد التي يراها ويحاول إضاءتهــا، فهو يرصد كل مــا هو مثير وجميل ومعبر، كونه بمثابة «كاميرا» تســجيلية من خلال تشــكيلاته اللونية، لأنه العارف بالجمــال أكثر من ســواه، لذا عكــف إبراهيم العطار ليوثق ويقتنــص جماليات الأمكنــة الأثرية المصرية، فتــراه يغور في جماليات شــارع «المعــز» التاريخي، الشــاخص بعراقتــه منذ أكثر مــن ألف ســنة، فيعد حاضــرا بعراقتــه وشــخوصه وقصصــه وعمارته المدهشة، هذا الشــارع الذي يعد واحدا من أهم الآثار المصرية لمــا يحتويه من المســاجد الأثريــة والمدارس والأســبلة والقصــور والزوايا، وهــو متحف مفتوح وقــد حافظــت عليــه الأنظمة المصريــة وعلــى قِدمه وأساســاته المعمارية وتصاميمه، ففي لوحة شــارع «المعز» ترى العطار يجســد صورة المكان أي - شارع المعز - بألوان رومانســية بين أزرق داكن والأخضر الزاهــي والألــوان الشمســية الحــارة والفاتحــة، لتعطي للمكان الألفة والحميمية ولاســتثار­ة عواطف وأحاســيس المتلقي، حيث تجــد التناغم الجميل بين حركتــي الضوء وتشــكلاته­ا على واجهــات الأبنية، ونلحــظ كذلــك النور الــذي يضيء واجهــة ومدخل الشــارع، وبوابته العتيدة والمئذنــة التي تعلو المكان، وهــذه المئذنة تمثل خطابًا معنويًا وجماليًا في علوها وارتفاعها عن مكونات المــكان، وهو بمثابة الإفصاح عن ماهية المكان الدينيــة ومقامته الغائرة في نفوس أهلــه، رغم حركــة العطارين والدكاكــن، والعجلات التي يغص فيها الشارع.

 ??  ??
 ??  ?? من اعمال الفنان المصري إبراهيم العطار
من اعمال الفنان المصري إبراهيم العطار
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom