Al-Quds Al-Arabi

رواية «وداعا للسلاح»: ظاهرة أرنست همنغواي

-

لــم يكن الحائــز جائزة نوبــل للآداب عــام 1954 ســوى الكاتب الأمريكي أرنســت همنغــواي، الذي كان الأشــهر في القــرن العشــرين، تاركا بصمــات واضحة علــى الأدب العالمي الحديــث، ما تزال جليــة حتى الآن، من حيث الأســلوب الأدبي وشــخصية أبطال رواياته، وتعاملهم مع محيطهم. وكان همنغواي قد شــقّ طريقه إلى الشهرة بســرعة، مع نشــر روايته الأولى «الشمس تشــرق أيضا» عام 1926 التــي اعتبرها النقــاد من أبرز أعمالــه، إن لم تكن الأبــرز، لطريقة كتابتهــا، إذ اعتبرت بدايــة لنمط أدبي جديــد، وخير مثال لــأدب الأمريكي الجديــد بعد الحرب العالمية الأولى. لكن مركز همنغواي ترســخ برواية «وداعا للسلاح» التي نشــرت عام 1929 ونالت نجاحا واســعا، حيث أصبحــت الأكثر مبيعا في الولايات المتحدة.

وداعا للسلاح

تــدور أحــداث هذه الرواية فــي إيطاليــا أثناء الحرب العالميــة الأولــى، حيث كانــت إيطاليا تواجه الجيشــن النمســاوي والألماني. وكان المــازم الأمريكي «فريدريك هنري» مسؤولا عن إحدى سيارات الإسعاف في الجيش الإيطالي وطاقمها. واكتشف «هنري» أن صديقه الطبيب العســكري الإيطالــي، الــذي كان أكبــر منه ســنا وأرفع مرتبة، مغرم بممرضــة إنكليزية تدعى «كاثرين باركلي» ويعرفه ذلك الطبيب عليها، وســرعان ما يشــعر «هنري» بالانجــذا­ب تجاه الممرضة، وينجح في لقائها بمفردهما. وتبلغه الممرضة أنها محطمة الفؤاد بسبب مقتل خطيبها في المعارك، لكن «هنري» يحاول تقبيلها، فتصفعه. ومع ذلك فإنها ســرعان ما تعتذر لــه ويحصل هو على مراده. وبعــد ذلك يصاب «هنــري» نتيجة انفجــار قنبلة، فيُنقَل إلى المستشفى. وهناك يزوره صديقه الطبيب العسكري مهنئــا له على شــجاعته، علــى الرغم من إنــكار «هنري» ذلــك، وتعبيره عــن معارضتــه للحرب. ويبلغــه صديقه الطبيب أنه ســينقل إلى المستشــفى الأمريكي في ميلان، وأنه ســيوصي أن تكون الممرضة «كاثرين» مسؤولة عن رعايته. ويتم ذلك، وتطول إقامة «هنري» في المستشفى لتبــدأ خلالهــا علاقــة غرامية بينــه وبين الممرضــة. لكن مســؤولة الممرضــات تكتشــف الأمــر وكذلــك وجــود مشــروبات كحولية فــي غرفته، ما يجعلها تســتنتج أنه يتظاهــر بالمرض كي يتجنب الحــرب، فتطلب إعادته إلى الجبهة، مثيرة انزعاجه، لاســيما أن الممرضة أبلغته أنها حامل منه في الشهر الثالث. ويُرسَل «هنري» إلى إحدى البلــدات القريبــة من الجبهة، لكنه ســرعان ما يتكشــف أن الجيــش الإيطالي قد أخذ في الانهيــار أمام الهجمات النمســاوي­ة، ما أدى إلى نزوح الســكان والجنود وسط فوضــى عارمــة، متوجهــن إلــى داخــل إيطاليــا، وأن السيطرة على الجنود قد أصبحت مهمة بالغة الصعوبة. وفي هــذه الأثناء تحــاول قيادة الجيش الســيطرة على الموقف عن طريق إلقاء الشــرطة العســكرية القبض على الضباط المنســحبي­ن بتهمة التخاذل ومحاكمتهم بسرعة فائقة، قبــل أن يتم إعدامهم. ويتــم القبض على «هنري» كذلــك، لكنــه ينجــح بالفــرار والصعــود على مــن أحد القطارات المتجهة نحو ميلان للقاء الممرضة.

وفي ميلان يكتشــف «هنــري» أن الممرضة قد انتقلت إلى مدينة قريبة من الحدود السويسرية، فيتوجه إليها. ويلتقي في تلك المدينة بأصدقاء يبلغونه ببحث الشرطة العسكرية عنه، ويزوده أحدهم بملابس مدنية لمساعدته

فــي الاختفاء. لكن «هنري» يحتقر نفســه لشــعوره بأنه هارب من الحرب، ويرفض الإجابة على أســئلة الممرضة حول ما شاهده في الجبهة. ويتفق الاثنان على الهروب إلى سويســرا عن طريق قارب تجذيف عبر البحيرة التي تفصل إيطاليا عن سويســرا. وتنجح خطتهما بعد رحلة مرهقة اســتغرقت طــوال الليل. وفي سويســرا تمنحهم الســلطات تأشــيرة دخول مؤقتة، ويقضي الاثنان وقتا ممتعــا هناك، علــى الرغم من قلق الممرضــة المتزايد على حالــة الجنــن. وتدخــل الممرضة المستشــفى للــولادة، لكــن صعوبــات الولادة تــزداد حــدة، ما يجبــر الأطباء علــى القيام بعملية ولادة قيصريــة كانت نتيجتها ولادة طفل ميت، ووفــاة الممرضة بين ذراعي «هنري». ويخرج «هنري» منهارا من المستشفى، ويسير في الشارع والمطر الشديد ينهال عليه.

تحليل الرواية

تمثل الروايــة جميع مميــزات روايات همنغــواي، إذ أن الشــخصية الرئيســية، أو البطل يتعرض إلى تجارب صعبــة في بلــد أجنبي، فســت مــن روايــات همنغواي السبع، تدور أحداثها خارج الولايات المتحدة الأمريكية. وتتميز رواياتــه أيضا باهتمامها بتنفيــذ رغبات البطل، فنجد في هــذه الرواية مثــا الطبيب الإيطالــي والأعلى رتبــة بكثير من البطــل، يُعَرّفُ البطل علــى الممرضة التي كان هو نفسه معجبا بها، ويشعر بالسعادة عند سماعه بالعلاقــة الغرامية بينهما. ويســاعده كذلــك أصدقاؤه الإيطاليــ­ن علــى التخفــي والإفلات من جهود الشــرطة العســكرية للقبض عليــه، متحدين بذلــك حكومتهم من أجله لسبب مجهول.

أمــا حبيبته الممرضــة، فإنها تبلغ البطــل «هنري» في البدايــة أنهــا ما تــزال مغرمــة بخطيبها، الــذي قتل في الحرب وتصفعــه عندما يحاول تقبيلها، لكنها ســرعان مــا تقع في غرامــه خلال لحظات وتتحــول إلى عبدة له، معرضة مستقبلها المهني وحياتها للخطر من أجله. وقد انتقــد الكثيــرون همنغــواي لطريقته في تصويــر المرأة، وقام همنغواي بمحاولة غير ناجحة لتغيير ذلك.

قد يتســاءل القارئ إن كانت الروايــة ضد الحرب أم معها، فالبطل يعبر عــن معارضته لها، وصورت الرواية حالــة الفوضــى التــي تعصــف بالعســكري­ين والمدنيين الإيطاليين، عندما يكتشــفون أنهم أمام عدو يفوقهم قوة بمراحل ويأخذون بالتســاؤل عن جــدوى هذه الحرب، بينما كانوا على أتم ثقة بأنفســهم قبــل أحتدام المعارك. لكــن «هنــري» يبــدي فــي الوقت نفســه تفهمــه لموقف الشــرطة العســكرية، ويفقد حبيبته وطفلهما، الذي ولد ميتا، واحترامه لنفســه، وكأن همنغــواي يقول للقارئ، إن الفشل هو نهاية من يهرب من أرض المعركة.

تثيــر الرواية التســاؤل حول مفهــوم همنغواي تجاه العواطف الأبوية، إذ أن هنري لا يشعر بأي مشاعر تجاه الطفل الذي يولد ميتا، بل إن أهمية الطفل بالنسبة له هي كونه ابن حبيبته الممرضة لا غير. وفي الوقت نفسه تبين الرواية بوضــوح أن كلا من «هنــري» وحبيبته الممرضة على علاقــة ســيئة بآبائهما. ويبــدو أن همنغــواي كان يعاني مــن علاقته بوالده، أو أنه اعتبــر امتلاك مثل هذه المشاعر ضعفا لا يليق بالبطل.

من الطريف أن رواية «وداعا للســاح» مُنِعَت في عدة دول لفترات متفاوتة حيث منعت في إيط، لأنها لم تمجد الجيش الإيطالي وانتقاد همنغواي للديكتاتور الإيطالي

موســوليني. ومنعت كذلك في جمهورية أيرلندا ومنطقة بوسطن الأمريكية لأنها «إباحية» على الرغم من محاولة الكاتب الكبير تجنب تفاصيل من ذلك النوع.

وكانت الرواية قد تحولت إلى مســرحية عام 1930 ثم فيلم عام 1932 من تمثيل غاري كوبر. وأعيد إنتاج الفيلم عام 1957، ومثل البطولة روك هدســون والجميلة جنيفر جونز ذات الشعر البني الغامق، بينما كانت الممرضة في الرواية شــقراء. أما فــي التلفزيون، فقد أنتج مسلســل تلفزيوني عنها عام 1966.

خلفية الرواية

كان همنغواي فــي الواقع قد تطوع في كانون الأول/ ديســمبر عام 1917 للعمل وهو في ســن الثامنة عشــرة سائق إســعاف في إيطاليا، أثناء الحرب العالمية الأولى بعد فشــله في الانضمــام إلى الجيش الأمريكي بســبب ضعــف بصــره. وأصيــب إصابــة بالغة في ســاقه في انفجــار، لكــن هذا لــم يمنعه مــن إنقاذ جنــود مصابين، وهــو الذي أقر بأن إصابة ســاقه كانــت بالغة. وحصل همنغــواي على وســام الشــجاعة من القيــادة الإيطالية تقديــرا لجهوده. لكن المرء قد يتســاءل عــن كيفية إنقاذ همنغواي للجنود، إذا كانت أصابته بتلك الشدة، وكيف كان قادرا على قيادة ســيارة إسعاف في أرض المعركة، على الرغم من مشــكلة بصــره، مع الأخذ بنظــر الاعتبار أنه لم يكن يجيد اللغــة الإيطالية. ومن الجدير بالذكر أن همنغواي أغرم بممرضة أمريكية تكبره بســبع ســنوات أثناء مكوثــه في المستشــفى، وأراد أن يتزوجها إلا أنها أبلغتــه بنيتها للزواج من ضابط إيطالــي، فخابت آماله. لكن الممرضــة الأمريكية لم تتــزوج إيطالياً، بــل أمريكياً وبعد فترة، ما يدعو إلى الاعتقاد أن ما ابلغته ربما لم يكن سوى طريقة للتخلص منه.

أرنست همنغواي

أثــارت شــخصية همنغــواي الكثير مــن الجدل حيث عانى منذ ســنوات شــبابه من مرض النرجســية، الذي ازداد وضوحــا مــع زيادة شــهرته، ولذلــك كان يحاول دائمــا جــذب الانتباه إليــه بمختلف الطرق، لاســيما عن طريق ســرد قصص مغامراته المبالغ فيها في الحفلات، لكنه كان يجــد صعوبة بالغة فــي الاحتفاظ بالأصدقاء بسبب تصرفه الفظ مع الكثيرين منهم، وربما زاد هذا من شعوره بالوحدة. وكانت أولى مشاكله الواضحة للعيان إدمانه على الكحول، الذي أضر بجسده، وعرضه للكثير مــن الحــوادث، لاســيما حــوادث الســيارات. وتعرّض همنغواي لعــدد غير عادي من الحــوادث الخطيرة، مثل حادثتي طائــرة في يومين متتاليين، ما عرضه لإصابات بالغة في الــرأس وحروق. وقائمة أمراضــه التي كانت تزداد مع تقدمه في الســن مثيرة للدهشة مثل، تلف في الكبــد والطحال والكلية وضغط الدم المرتفع والســكري والكآبــة الحــادة والصــداع وصعوبة التذكــر وأمراض أخرى. وكان يحاول دائما الظهور بمظهر البطل الشجاع الســادي، حيث كان يســتمتع بطريقة كلامه الشرســة، ولم يخف إعجابه بكل ما هو عنيف ودموي مثل الملاكمة ومصارعة الثيران، وقتل الحيوانات بشكل استعراضي بحجــة صيدهــا. وكان الكثيــر من صوره تمثــل رجولته أو إصاباته الجســدية، وكأنه جنــدي أصيب على أرض المعركــة. وعلــى الرغــم من شــكواه من ضعــف نظره، خاصة في ســنواته الأخيرة، فإن الصور التي يظهر فيها مرتديا النظارة نادرة جدا، ويدعو هذا إلى التساؤل.

اســتيقظ همنغواي في الســاعات الأولــى من صباح يــوم الثانــي مــن يوليــو/ تمــوز عــام 1961 ونهض من الفراش بهدوء حذر كي لا يوقظ زوجته، ثم ســار بهدوء متجهــا نحو القبو. وهناك فتح باب مخزن صغير يحوي أســلحته النارية، وأخذ بندقية مزدوجة الماسورة كانت المفضلــة لديه. لكنه لم يذهب إلى الغابة للصيد، بل صعد إلــى الطابــق الأرضــي باتجــاه المدخل، وجلــس بهدوء ثــم وجه فوهة البندقيــة نحو جبهة رأســه وأطلق النار. وبهــذه الطريقة الصادمة انتهت حياة أشــهر روائي في تاريخ الولايات المتحدة. وأثــار انتحار همنغواي الإعلام والرأي العام فــي الولايات المتحدة، والأوســاط الأدبية العالمية، وتعددت الكتابات من قبل الصحافيين والعلماء النفســيين عن أسبابه، حيث كان قد شــوهد وكأنه على وشــك القيام بالانتحار قبل عدة أشهر، فأدخلته زوجته إلى مستشــفى للأمــراض العقليــة، حيث شــمل العلاج صعقــات كهربائيــة مؤلمــة، ولم تكــن تلك المــرة الأولى. لكــن أحد الأســباب قد يكون شــعوره بأن عــدم قابليته على كتابــة عمل كبير قــد جعلته نكرة فــي مجتمع طالما مجده كأيقونــة الأدب الحديث، بالإضافــة إلى أمراضه الكثيــرة ومعاناتــه من الكآبــة الحادة لســنوات طويلة، وبذلــك يكــون انتحــاره دليــا على عــدم تحملــه لآلامه النفســية والجســدية. ويعلل البعض أن أحد الأســباب قــد يكون الحــوادث الوخيمــة التي تعرض لها، وشــمل بعضها إصابات في الرأس، مــا أدى إلى حدوث أضرار في دماغه، وبالتالي حالته النفســية. والغريب في الأمر أن زوجتــه، التــي نُقِلَت إلى المستشــفى بســرعة لمراقبة حالتها النفســية بســبب ذلك الانتحار، عادت إلى المنزل في اليوم التالي لتنظيف المنزل والبدء بإجراءات الدفن، دون إظهــار أي مشــاعر، كما لم تذكر المصــادر أن ولدَي همنغواي قدما لها المســاعدة. وما أثار الاستغراب كذلك أن هذه الزوجة رفضت الاعتــراف بأن همنغواي انتحر، وبقيت مصرة لعدة سنوات أنه توفي في حادث عرضي، والتســاؤل هنا لمــاذا رفضــت زوجته الإقــرار بالانتحار الــذي كان واضحــا للعيان؟ هل كان ذلــك لحماية مظهر همنغــواي القوي الشــكيمة والمواجــه للمصاعب؟ أم أن كونــه كاثوليكيــ­ا ربما كان الســبب الحقيقــي، حيث أن المذهــب الكاثوليكي يرفض الانتحار، وبالتالي أشــرفت الكنيســة الكاثوليكي­ة المحلية على مراســيم العزاء، بناء على ادعاء الزوجة.

لم يكــن الانتحار غريبا في عائلة همنغواي، حيث كان والــده قد انتحر، وكان ذلك صدمــة لهمنغواي، حتى أنه عبــر عن احتمــال وفاته منتحرا كذلك. وبعــد ذلك انتحر شــقيقه وشــقيقته، بل إن خمســة من أفــراد العائلة قد انتحــروا، وكان آخرهم حفيدة همنغــواي الممثلة مارغو همنغــواي التي كانت ســابع حالــة انتحار فــي العائلة، وبالإضافة إلى ذلك انتحر والد زوجة همنغواي الأولى.

فــي نهاية المطاف نجد تشــابها غريبا بــن همنغواي وشــخصيات رواياته، فعلى الرغم من أنهم ناجحون في تحقيق طموحاتهــم، إلا أنهم في الواقع أناس بائســون في حياتهم ونهايتهم. ٭ باحث ومؤرخ من العراق

 ??  ?? أرنست همنغواي
أرنست همنغواي
 ??  ?? جنيفر جونز )في دور كاثرين باركلي( و فيتوريو دي سيكا )في دور الطبيب العسكري( و روك هدسون )في دور فريدريك هنري(.
جنيفر جونز )في دور كاثرين باركلي( و فيتوريو دي سيكا )في دور الطبيب العسكري( و روك هدسون )في دور فريدريك هنري(.
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom