Al-Quds Al-Arabi

النصي والصوري في التراث

- سعيد يقطين

■ ارتبــط الاهتمــام بالكتابــة العربيــة القديمة والحديــث عنها، بالمخطوطــ­ات في جانبهــا النصي، لأن المقصــد الجوهري كان، تحقيــق النصوص بهدف تقديمها من خلال الطباعة من لدن المحققين والباحثين. لكن المخطوطات العربية لم تكن تخلو من مســحة فنية وجمالية.

إن صناعة الكتابة العربيــة وتقنياتها عرفت أصولا وفروعا، وأنواعا لا حصر لها من الخطوط والأشــكال والرقــوش، والتصاويــ­ر والتزاويــ­ق. كان الــوراق والناســخ يتفننــان فــي صناعة المخطــوط وتزيينه وتغليفه أو تجليــده. وترك العرب والمســلمو­ن تراثا مهما في هذا الجانب، الذي استرعى انتباه المستشرقين وأولــع به التجــار والفنانون. لكن هــذا المظهر الفني والجمالي لم يحظ بالاهتمام المناســب، إلا من قبل بعد المصنفين القدامى، الذين أفــردوا له بابا يتناولون فيه صناعة الكتابة من هذه الناحية، ويقدم لنا القلقشندي في «صبح الأعشى» نموذجا لذلك.

سنســمي كل ما يتصل بهذا المظهــر الجمالي للكتاب العربي، وما واكبــه من تزيين النصــوص وإخراجها بـ«الُمناصات الصورية» ونعني بها كل ما كان يصاحب نص المخطوط من صور وأشــكال، ومــا كان يزخر به من خطوط وتشــكيلات وتزاويق.. لقد انشغل علماء الجمــال والمهتمون بالفنــون الجميلــة والمعمار على وجه الخصوص، بهــذه الُمناصات الصورية في العصر الحديــث، ولم يكن يهتــم به مؤرخــو الأدب ونقاده. لا يمكننــا أن نلــوم النقاد وباحثــي الأدب والمحققين، على تهميشــهم لهذه المناصات، لأن عملهم كان ينصب علــى النص من جهة أولى، كما أن اســتحالة الحصول على المخطوط من قبل الدارســن كانت تجعل إمكانية الاهتمام به بعيدة المنال من جهة أخرى. ومع ذلك فإننا نجد من بــن المهتمين بالأدب بمعنــاه النصي من أفرد لهــذه المناصات الصورية كتابا رائدا، بســبب معرفته الوثيقة وصلته بالمخطوطات التــي كانت تتوفر عليها خزانته. إنه أحمد تيمور باشــا في كتابه «فن التصوير عند العرب» الــذي قدّمه في أوائــل الأربعينيا­ت زكي محمد حســن، الذي كان هو أيضا ممن اعتنى بالفنون الإسلامية والتصوير وأعلام المصورين في الإسلام منذ بدايات الثلاثينيا­ت من القرن الماضي. وقد ســار على النهج نفسه باحثون نذكر منهم على سبيل المثال عفيف بهنســي الذي ألف كتابــا في «جمالية الفــن العربي» (1979(، وأكــرم قانصــو الذي التفت إلــى «التصوير الشعبي العربي».

يتبين لمتصفح بعــض المخطوطات العربية، ومتابعة ما كتب عنها بخصوص ما يتصل بالمناصات الصورية، أن الكتابة العربية اســتثمرت مختلف الإمكانيات التي يتيحها استعمال الورق ونحوه والمداد والألوان، وأنها تألقت على مســتوى الصناعة الكتابية، لكن الطباعة العربية من خــال علم التحقيق لم تهتــم إلا بالنص، وأغفلت جماليات المخطوط، واســتبدلت­ها بالإمكانات التي توفرهــا الطباعة، وإن لم ترق إلــى تحويل تلك الجماليات إلــى الكتــاب المطبوع. لقد فرضــت علينا الطباعــة التعامل مــع الكتاب العربــي بالتركيز على الجانب النصي، وجعلتنا لا نلتفت إلى البعد الصوري الــذي كان يصاحبه. لكن الثــورة الرقمية، وهي التي دفعــت إلى إعطــاء «الصــورة» مكانــة خاصة، حتى صارت من الســمات التي يوصف بهــا العصر، تفرض علينا ونحن نفكر في ترقيم المدونــة العربية الكبرى، ترهين الاهتمــام بالصوري إلى جانــب النصي. ولعل المبدعين ودارســي الأدب من أوائل من عليهم الاهتمام بإقامة الجســور بينهما، ربطا لحاضر الكتابة الرقمية بماضي الكتابة اليدوية. ويستدعي هذا تجديد علاقتنا بالصورة، وما يتصل بها من خلال الاهتمام بها، سواء عنــد العرب أو غيرهم من الشــعوب، وفتح الدراســة الأدبية على الفنون الصورية.

إن ما تعلمه لنا الرقميات، وتفرضه علينا، وكذلك ما تعرفه متطلبات النص الرقمي مع الوسائط المترابطة، يدفعنا إلى إعادة النظر في النــص العربي المخطوط، وقد صــار بالإمكان الحصــول عليــه الآن، من خلال المكتبــات الإلكتروني­ــة، عبر ربط العلاقــة بين النص اللغوي ومناصاته المختلفة، والاهتمام بهما معا. ويمكن أن يكون هذا مدخلا لإعادة قراءة تراثنا قراءة جديدة، تسعفنا في إقامة الجسور بين نصوصنا القديمة، بهدف اســتثمار ما يمكننا استنباطه منها في «تشكيل» تصور جمالي ـ عربي يمكن أن يســتفيد منــه نصنا الرقمي، الذي نــود إنتاجه، والــذي بدأ يتجــاور فيه النصي بالصوري والحركــي والصوتي، وفق مــا تمكننا منه الوسائط المترابطة.

إن صناعة المخطوط في القديم كانت تتم وفق قواعد، وتخضع لتقنيات نظَّــر لها القدماء، في مصنفات تعنى بـ«صناعة» الكتابة، تماما كما كانت «صناعة» الخطابة في الاستعمال الشفاهي، تخضع بدورها لقواعد معينة )بــاب العصا للجاحظ مثلا(. ويســتدعي هذا تعاملنا مع «الصناعــة الرقمية» بمــا يلزم مــن معرفة نظرية ودراية بشــروطها وإمكاناتها، وممارسة ما توفره لنا من وســائل لإنتاج النص الرقمي العربي. ولعل ترهين صناعــة الكتابة العربيــة كفيل بجعل مســاهمتنا في صناعة «الرقامة» العربية تحمل الكثير من الخصائص الجماليــة العربية. لقد انشــغل المهتمــون المحدثون بالفنون الجميلة، والتشــكيل بصناعة الكتابة العربية القديمة. كما أن المصممين اعتنوا بكل ما يتصل بالرقامة لإنتاج النص الرقمي. إن وصــل العلاقة بين «الكتابة» و«التصميم» من لدن المهتمين بالأدب، إبداعا ودراسة، مدخل ضــروري لإنتــاج النص الرقمــي بالمواصفات الجمالية العربية، وشــرط أساســي للدراسة الأدبية العربية الرقمية.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom