Al-Quds Al-Arabi

بشار الأسد: سنوات الجمر

- رياض معسعس ٭ ٭ كاتب سوري

بشــار الأسد، النجل الثاني لمؤســس «الجملكية» الأسدية، لم يكن يتوقع أن يتســلم حكم ســوريا، لكن مقتل أخيه باسل جعل منه وريث «الجملكية» بعد رحيل أبيه في العام 2000.

هذا الوريث الــذي كان طموحه أن يكون طبيب عيون أثبت مع الوقــت أن لديه قصر نظر. في شــهر تموز/يوليو مــن ذاك العام تســلم منصب رئاســة دولة المخابرات، التي أصبحت جمهورية وراثيــة عائليــة طائفية غير معلنــة تتخفى خلف حــزب البعث، وشــعاراته الجوفاء التــي تناقض الفكر الطائفــي بطرحه لافتة «قومجية» كآخر ورقة توت يتســتر بها نظــام العائلة-الطائفة. أو بمفهوم ابن خلدون: نظام «العصبية».

ورثة ثقيلة لسياسة خفيفة

فــي واقــع الأمــر ورث الأب حافظ نجلــه ورثة ثقيلــة تتطلب مناكــب قوية، وذهنية متقدة بعد أن أدخل ســوريا في متاهات، وصراعــات إقليميــة كانــت بغنــى عنهــا، )تحالفــه مــع إيــران ضــد العــراق، التدخل فــي الشــؤون اللبنانية، ضــرب المقاومة الفلســطين­ية، دعــم المعارضــة المســلحة الكرديــة ب. ك. ك ضد تركيا. الاشــتراك في الهجوم الأمريكي على العراق..(. وهذا ما لا يتحلى به الوريث الذي استدعي على عجل ليتسلم دفة الحكم.

عبــد الحليم خدام الرئيــس المؤقت )دام حكمــه 37 يوما عقب وفاة حافظ الأســد( الذي عندما ســئل عن رأيه بتنصيب بشــار قال علــى مضض:»تبــارك الله» قبــل أن يفر بجلده من ســوريا لاجئــا إلــى فرنســا )حيث شــكل جبهــة الخــاص الوطني مع الإخوان المسلمين الذين حاربهم مع النظام وقتلهم في حماة في العام 1982، بل واتهم بشــار أنه وراء اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري(.

مداهمات واعتقالات

متاعب بشــار بدأت مع بداية حكمه، إذ اتضح سريعا أن نظام المخابرات الذي ورثه لم يكن يســمح له بالوفاء بوعوده بتحقيق انفتاح سياسي، وضمان الحريات، وإلغاء قانون الطوارئ. فمع أول حراك سياســي قامت به مجموعة من المثقفين والسياسيين الســوريين تحت مســمى «بيان الـ 99» ( من المشاركين فيه المفكر صادق جلال العظم، ميشــيل كيلو، أنور البني، مي ســكاف( أو «ربيع دمشــق» بدأت حركة قمعية معاكســة أنهت أول محاولة فتــح كوة صغيرة فــي الجدار الحديدي للنظــام يدخل منها أول شعاع حرية.

وتبــع هــذا البيان بعد فتــرة وجيزة «بيان الألــف» الذي كان أكثــر مطالبة ببناء دولة المؤسســات والحريــات، والتي لو تمت واستمرت لأنقذت سوريا من الويلات التي نشهدها اليوم. وهذا دليل على قصــر النظر، وعمى البصيرة من نظــام ينادي بأبدية حكم العائلة الأسدية.

بعــد أن شــعر النظام ببــروز معارضة مدنية «غير إســامية» تنظم نفســها، قــام بحملات الاعتقــال، في صفــوف المنضوين تحتها، والذين لا يمكن أن يوصمهــم بالإرهاب كما فعل، ويفعل مع الإخوان المسلمين ويحكم عليهم بالإعدام.

)طالــب إعــان دمشــق للتغييــر الوطنــي المعارض فــي بيان لــه الســلطات الســورية بإلغــاء القانــون 49 القاضــي بعقوبة الإعــدام بحق منتســبي جماعة الإخوان المســلمين المحظورة في ســوريا، وتجمع إعلان دمشــق يضم حوالــي 20 حزبا من كافة الاتجاهات. اللجنة السورية لحقوق الإنسان من جانبها طالبت مجلس الشعب السوري بإلغاء هذا القانون(.

إزاء هــذه التطــورات في الحراك المدني، والسياســي، ســلط النظــام الضوء على شــخصية الرئيس «المحبوب» شــعبيا فقام بحملة: «منحبك» بنشــر صور كبيرة لبشــار الأســد طبع فوقها كلمة «منحبك» أي: نحبك. وقد اختير كلمة «منحبك» وهي عامية دمشــقية للتأكيد على أن العاصمة تؤيــد الرئيس، وهذه الحملة عمت أرجاء سوريا.

القمع المزمن

حملــة «منحبــك» هــي المحاولــة الفاشــلة لتغطيــة الكراهيــة التــي عمت مجمــل طبقات المجتمع جــراء القمع المزمــن، وتدني مستوى المعيشة، وانعدام الحريات، وللجمر المتقد تحت الرماد. والدليل على فشــل كل محاولات إظهــار النظام بوجه «علماني، ديمقراطــي، ممانــع» هو المظاهــرا­ت الســلمية التي عمــت المدن الســورية عندما وصلت أول شــرارة للربيع العربي لتضاف إلى ربيع دمشــق الــذي كان كامنــا وانطلق في شــهر آذار - مارس )ولســخرية القدر أن الثــورة الســورية انطلقت في شــهر آذار، بداية فصل الربيع، وبفارق ايام قليلة مما ســمي «بثورة البعث» للانقــاب البعثــي على الســلطة المدنية المنتخبــة ديمقراطيا في الثامن من آذار-مارس 1963 والذي مهد لانقلاب حافظ الأســد وتأســيس الجملكيــة الأســدية(. هــذه المظاهرات التــي لم يكن النظــام المخابراتـ­ـي يتوقع اندفاعهــا بهذا الزخــم واجهها فورا بالرصاص والقتل في أول مظاهرة انطلقت من المســجد العمري في درعا.

رصــاص النظــام لم يثــن الملايين من الخــروج إلى الشــوارع والمطالبــ­ة بالحرية. إلى جانب القمع الوحشــي، حــاول النظام تهدئــة الوضــع بوعــود إصلاحيــة، لكنهــا كانت مجــرد كلام، ووعود خلبية، ولو أن الأســد صــدق وعده وحقق بعض مطالب الشعب لربما تحاشــى حربا مدمرة لنظامه ولسوريا، وهنا مرة أخرى فقــد فرصة أخــرى لقصر نظر، وعمى سياســي فاضح. وبقي مصرا على شــعار:» الأسد أو نحرق البلد «. فأحرق البلد، وقتل الناس، وهجر الملايين، ودمر الاقتصاد، وفتت قيمة العملة السورية، وجلب شذاذ الآفاق لاحتلال البلد وتجزيئه.

وباتــت ســوريا كيانا بلا ســيادة تســتبيحه إســرائيل متى شــاءت، واليــوم يتهيــأ طبيب العيــون )قصير النظــر( لخوض انتخابــات يكــون فيهــا الزعيم الأوحد لســبع ســنوات أخرى، وكأنه قدم إنجازات جعلت من ســوريا دولــة من الدول المتقدمة المزدهرة، لكن «الجملكية» الأسدية لن تكون إلى الأبد.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom