Al-Quds Al-Arabi

وهْم قبطان يُنقذ سفينة لبنان من الغرق

- جلبير الأشقر ٭ كاتب وأكاديمي من لبنان

■ قبل تسعة أشــهر، جاء مقالي الأســبوعي بعنوان «ســفينة لبنان تغرق ولا من يعوّمها» (2020/6/16( وقد استهلته بقولي «لم أشــعر في أي وقت مضى، بما في ذلك كافة سنوات حرب الخمســة عشر عاماً، أن سفينة الوطن على وشك استكمال الغرق مثلما هي اليوم». أما سبب هذا التقدير، فكان أن الطرفين الراهنين في المعادلة الدولية التي يقوم عليها لبنان كعادته، لم يعُدا يباليان لغرقه: «لم تعد المملكة الســعودية، وخلفها حلفاؤها الدوليون، راغبة في تعويم الاقتصاد اللبناني ثمنــاً لصيانة دور عملائها المحلّيين في اللعبة السياســية، وقد أدركت أن إيران هي المستفيدة من ذلك الدور. ولم يعد النظام الإيراني مبالياً لانهيار التركيبة اللبنانية ما دام عملاؤه المحلّيون قادرين على تمتين دولتهم القائمة في إطار الدولة اللبنانية المنهارة، وهذه الأخيرة تعاني من حالة قصوى من ازدواجية السلطة منذ ســنين عديدة. ولا يبالي عملاء الطرفين لانهيار العملة اللبنانية والحال أن القاسم المشترك الوحيد بينهما هو اتكالهما على الدولارات النفطية».

ويبدو من التطورات الأخيرة على هذا المسرح القراقوشي الذي اسمه «السياسة اللبنانية» أن فرقاءه يتلذّذون في التعجيل بإغراق السفينة، ما دام كل طرف منهم حائزاً على عوّامة خاصة به، غير مبالين بمصير غالبية الشــعب اللبناني الساحقة التي لا وطن لها تعيش على متنه ســوى لبنان، والتي تخشى أن تضطر إلى السير على خطى الشــعبين الشــقيقين الجارّين، الفلسطيني والســوري، لحاقاً بقافلة التشــريد واللجوء العالمية. أما أصحاب العوّامات فمستمرّون باللهو على المسرح القراقوشي الذي تتوزّع أدوار الخصومة عليه مداولة بين الطوائف وداخل كل منها.

وإذا صحّ أن شرّ البليّة ما يُضحك، فإن التوزيع الطائفي للمناصب الذي يتصارع عليه ميشال عون، مسنوداً من حسن نصرالله، وسعد الحريري، مسنوداً من نبيه برّي، إنما هو تحفة في فن الفكاهة. يكفي النظــر إلى الصراع على توزيع الحقائب فــي وزارة «الأخصائيين» الذين يحبّذ فريق أن تكون هوياتهم السياســية معلنة، بينما يحبّذ الفريق الآخر أن تكون مســتورة )ملاحظة: تشير الثنائية الطائفية في القائمة إلى مواطن الخلاف(كانوا أكاهنو: «مالية: شــيعي؛ داخلية: ماروني/روم؛ خارجية: ســنّي/درزي؛ دفاع: روم/ماروني؛ طاقــة: روم؛ تربية: درزي/ماروني؛ اتصالات: ماروني/كاثوليك؛ عدل: كاثوليك/ســنّي؛ أشغال: شيعي؛ صحة: سنّي؛ اقتصاد: روم؛ شؤون اجتماعية: ماروني/سنّي؛ عمل: شيعي؛ زراعة: سنّي/درزي؛ إعلام: ماروني؛ صناعة: أرمني؛ شباب: شيعي/ماروني؛ صناعة: كاثوليك/أرمني؛ مهجّرين: درزي/أرمني».

بات الوضع اللبناني يذكّرنا بفيلم فيديريكو فلّيني الرائع «بروفة الأوركسترا» الذي يروي حكاية أوركســترا ســمفونية تدبّ الفوضى بين عازفيهــا بينما تتهدّم القاعــة التي يعزفون فيها، حتى ينتهي الأمر بصورة مأســاوية بموت عازفة تحت حطام أحد الجدران، فيســتتبّ الهدوء والصمت وتعود الأوركســت­را إلى العزف، بينمــا يتصاعد صــوت قائد الأوركســت­را بنبــرة دكتاتورية، متحــولاً من اللغة الإيطاليــ­ة إلى الألمانية في رمز جليّ إلى هتلر. والحال أن ســيناريو الفوضى التي تليها الدكتاتوري­ة إنما هو قديمٌ مألوف، وقد شهد لبنان بالذات نموذجاً عنه عندما أفضت بروفة الحرب الأهلية في عام 1958 )كانــت مجرّد بروفة مقارنة بما أتى في عام 1975( إلى استلام قائد الجيش للسلطة وإقامة عهد أشرف فيه «المكتب الثاني» )شــعبة المخابرات في الجيش اللبناني( على نســخة ملطّفة عن أنظمة المخابرات الإقليمية.

وها نحن أمام بــوادر تمهيد لتكرار الســيناري­و المألوف علــى خلفية الفوضى الراهنة والانهيار المتســارع للاقتصــاد. فالموقف الراهن لقائــد الجيش اللبناني جوزيف عون )لا قرابة بينه وميشــال عون( أشــبه ما يكون بموقف ســلفه فؤاد شــهاب في عام 1958. وقد التفت الجميع إلى الكلمة التي ألقاها العماد عون يوم 8 آذار/ مارس الماضي، والتي أكّد فيها على وقوفه والمؤسسة العسكرية فوق الصراع الدائر على مسرح السياســة اللبنانية البائسة وندّد بأهل السياسة. فالعماد عون يستعدّ بكل وضوح للعب دور «المنقذ» عندما تحين الفرصة إذا عجز فرقاء المسرحية عن الاتفاق، وهو ما يبدو أنهم غير راغبين فيــه. وكلّما تفاقمت الفوضى اللبنانية، كلّمــا نظرت العواصــم الغربية بعين الرضــى إلى هذا الســيناري­و، كما تجلّى من افتتاحية صحيفة «فايننشال تايمس» البريطانية قبل أسبوع، وقد تزامن صدورها مع زيارة الجنرال كينيث مكينزي إلى لبنان واجتماعه بالعماد عون. ومكينزي هو قائد «القيادة المركزية للولايات المتحدة» التي تُشرف على «الشرق الأوسط الكبير» في التوزيع البنتاغوني لمناطق العالم.

يبقى أن تنفيذ مثل الســيناري­و المذكور أصعب بكثير اليوم مما كان في عام 1958 نظراً لحيازة «حزب الله» على قوة عسكرية موازية للجيش. فحتى لو تسنّى اتفاق بين واشنطن وطهران شــبيه بالذي جرى بين واشــنطن والقاهرة في عام 1958، ســتبقى الدولة اللبنانية تعاني من الازدواجية القائمة. وإذا تصوّر بعض الناس أنه يمكن حلّها علــى طريقة حل الازدواجية المماثلة التــي عرفها الأردن بعد حرب عام 1967 وحتى «أيلول الأســود» عام 1970، فإنه تصوّر موهوم للغاية، حيث إن التجربة السابقة في دفع الأمور في هذا الاتجاه في لبنان، إنما هي تلك التي أدّت في عام 1975 إلى تفجير البلاد ودخولها في نفق حرب دامت خمسة عشر عاماً.

أنهيت مقالي قبل تسعة أشــهر بالتأكيد على أنه «لن تعوّم سفينة لبنان مجدّداً ســوى إذا اســتطاع الشــعب اللبناني توحيد صفوفه الطائفية وتكنيس النظام القديم بكل أطرافه لإحلال نظام جديــد محله، نظام لا يقوم على معادلات بين قوى خارجية وعملائها المحلّيين، بل على صيغة وطنية واجتماعية جديدة تكرّس سيادة البلد ضد كافة الطاعنين بها ســواء أتوا من جنوبه أو من شرقه، وتكرّس المصلحة الشعبية ضد مصالح قروش المال والسياسة التي تفترسه. وعدا لو حصل مثل هذه المعجزة، فإن الدولــة اللبنانية مهدّدة بأن تصبح في خبر كان أكثر مما في أي وقت مضى». أما بصيص الأمل الوحيد اليوم فهو في تجدّد الانتفاضة الشعبية اللبنانية وعودتها إلى شــمل كافة مناطق لبنان من جنوبه إلى شماله، مثلما رأينا في الأيام الأخيرة.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom