Al-Quds Al-Arabi

نَوَال السَّعْداوِي/ قَتَلةُ مَواقِع التَّواصُل الاجْتِماعِي

- واسيني الأعرج

غيب المــوت المفكــرة والباحثــة الكبيــرة والجريئــة، الدكتورة نــوال الســعداوي. لروحهــا الســكينة والســام. ماتــت، ومعها توارت حقبــة بكاملها لامرأة رفضت الازدواجية المقيتة والذكورية الظالمة. مارست قناعاتها ليس كأفكار فحسب، ولكن كعمل نفسي إكلينيكــي في عيادتهــا، ورأت عن قرب الخراب المستشــري الذي تعانــي منه المرأة في مواجهة عقلية ظلت متجمدة، ومقولبة، داخل معتقــدات اجتماعية لا شــيء يثبت جدواها. الــذي يفاجئ المتتبع ليــس وفاة كاتبــة ومفكرة كبيرة، فــي زمن أصبح فيــه الموت لغة اليومــي، في ظل جائحة بدأت تمحو جيــاً بكامله وصل في عمره المعرفي إلى درجة الســقف، وهو ما ينبئ بفراغ مخيف يتشكل في الأفق بقســوة، ولكن سيل الشتائم الذي ووجهت به في الوسائط الاجتماعيـ­ـة التــي تحول فيهــا جمهور المواقــع إلى فقهــاء وأئمة ومفتين في إصدار الأحكام، سارقين من الله سلطانه، وهم يظنون أنهم يفعلون ذلك إيماناً واحتســاباً. وأدخلوهــا جهنم، وحتى أن هنــاك من وصف لحظــات القبر عندما فتحــت عينيها واصطدمت بالشاهدة. وأمعن في جلسات التعذيب وكأنها في مركز غيستابو، أو مخفر شرطة عربي، في نظام ديكتاتوري. الكثير منهم أمعن في الســخرية منها، عندما وقفت أمام الله وهي تحاول ستر عورتها، والملائكة تضحك منها لأنها تحولت إلى كائن شبيه بالقرد. وبقدر ما كان هناك حزن كبير عند قطاع واسع، هاجت الكثير من المواقع تشفياً. لا أدري لماذا ذكرني ذلك بمقتل الحلاج الذي حصل في مثل هذا اليوم وهذا الشهر تقريباً )26 مارس/آذار 922( أي قبل عشرة قــرون. لا يمكن لأمة أن تتقدم وهي تدور في دوائر الفراغ نفســها كل هذا الزمن. فقد قتل الحلاج لســبب سياسي لأنه كان معارضاً لوزير المقتدر بالله. وكل ما عدا ذلك حجج واهية، القصد من ورائها الانتهاء من رجل أصبح مزعجاً للنظام. فقد أمعن الوزير القاتل في جريمتــه باتهامه بــكل ما يقوده نحو النطع. فقــد حقد عليه الوزير حامد بن العباس حقدا أعمى لأنه لم يكن يعتبره مطلقاً، وكان يغار منه بســبب تحلق الناس من حولــه بما كان يمرره في خطاباته من قيم دينية في البســاطة والقناعة بدل التبذير الذي اتسم به الوزير حامد بن العباس، «فالتمس حامد الوزير من المقتدر بالله أن يسلم إليه الحلاج وأصحابه، فدفع عنه نصر الحاجب فألح الوزير، فأمر المقتدر بتســليمه إليه فأخذه. ونقل عنه أنــه يحيي الموتى، وقابلوا الحــاج على ذلك، فأنكــره وقال: أعوذ باللــه أن أدعي الربوبية أو النبــوة، وإنما أنا رجل أعبد الله عز وجل. فأحضر حامد، القاضي أبــا عمرو، والقاضــي أبا جعفر بــن البهلول، وجماعــة من وجوه الفقهاء، والشهود، فاســتفتاه­م فقالوا: لا يفي في أمره بشيء إلا أن يصــح عندنا ما يوجب قتله ولا يجوز قبول قول من يدعي عليه. ما ادعاه إلا ببينة أو قرار». وفبرك الوزير الحاقد أخباراً رويت عنه، ثم كاتب الخليفة يستأذنه في قتله، وأرسل الفتاوى إليه فأذن في قتله. وهكذا سلمه الوزير إلى صاحب الشرطة، فضربه ألف سوط فمــا تأوه، وصبر على الألم. ثم قطع يده ثم رجله، ثم يده ثم رجله، ثم قطع رأســه، وأحرق حياً بعد أن رش على جسده الزيت والقار. فلمــا صار رماداً ألقي برماده في دجلة، من أعلى مئذنة في بغداد، ونصب الرأس بمدخل المدينة قبل أن يرسل إلى خراسان. قد يكون المشــهد مرعباً ليس فقط في شكله الظاهري، ولكن في القرار الذي اتخِــذ ضده. فقد كان القرار جاهزاً لا ينتظــر إلا مزلقاً صغيراً يبرر فتــوى القتل. في منطق الوزير، كل مــن يفكر يقتل، والحلاج يفكر، إذن يجــب أن يُقتل. قــد يكون الزمن الذي نعيشــه تغير قليلاً، لكن الجوهر نفسه. الجحافل التي تم تسييسها وقذف بها إلى شوارع بغداد تطالب بتكفير الحلاج والقصاص منه، هي نفسها الجحافل التي دُفِعَ بها نحو المواقع واجهزة الكمبيوتر، لاستصدار الفتاوى وهل لا تملك ســوى الجهــل والضغينة. فكفروا نوال الســعداوي لأنهــا تفكر، وكل مــن يفكر فهو كافر. لم يشــفع لهــا إنقاذ الآلاف من البنات من شــفرة الختان النســوي الذي دمر حياة الملايين من النساء عاطفياً ونفسياً. لم يشفع لها إقناع العشرات من الشابات المقدمــات على الانتحار بســبب خيبــة عاطفية من رجولة بائســة يقينها فــي جهلها، بالانتصــا­ر للحياة. لم يفدهــا تاريخها العظيم الذي سُــجنت فيه في مواجهة أنور السادات، ولم تنفعها عشرات الكتــب التي ألفتها دفاعاً عن المــرأة والرجل معاً. وقد وصل الحقد إلى حدوده العليا عندما تحول رواد وسائط التواصل الاجتماعي إلــى مفتين وآلهــة صغار. المرعب هــو أن هذه الفئة أو جــزءاً مهماً منهــا، هي من ســيصنع الغــد، وأي غد؟ داخل الجهــل والضغينة واليقين الأعمى. نتســاءل في النهاية، ما الفرق بين هؤلاء وداعش التــي تفننت فــي الجريمة وهي تظــن أنها تخدم الديــن، بينما هي في العمق ظلت وفية، في قياداتها، لمن خلقها وســماها وســوّاها، وحدد وظائفها. الداعشــية اليوم ليســت مجموعة بشرية، ولكنها ثقافة مبنية على سلســلة من الخيبات القاتلة. كيف ســيكون الغد بهذه العينات البشرية التي ستدير المجتمعات العربية والإسلامية المقبلــة؟ تحكم وتفتي وتقتل دون أي حجــة. لم ألمس في تعابيرها أية رغبة في المناقشــة والاختــاف واحترام الغيــر، أو على الأقل التعرف عليه وعلى فكره ثم نقده.

نوار السعداوي مفكرة وليست نبية، وكل فكر قابل لأن يناقش ويدحــض بالدليــل العلمــي والثقافــي. والغريب أن هــذا الجيش العرمــرم مــن رواد المواقع يقول نفــس الكلام، لدرجــة أن تظن أن وراء ذلك وكالة مختصة تشــرف على تحطيم كل شــعاع من نور، وتحرك الناس في أحكام يســيرها الجهــل والضغينة، إذ لا يوجد فيمــا قرأت شــخص واحد مــن هــذه المجموعات يناقــش بتبصر وحكمة، أو يعطي الانطباع على الأقل عن شــيء من كتبها أو يحيل علــى مرجع واحــد. كلها أحــكام جاهلة لا تملك إلا الشــتيمة ولغة الحشــر: الله يحشــرها ويحشــر كل من دافع عنها. كانت كافرة، وقفــت ضد الحجــاب، حاربت الإســام. اللــه لا يردهــا، نالت ما اســتحقت. كانت تســخر من المســلمين. كان يجب على الدولة أن تقيم عليها الحد وتحرق. شــيطان رجيم... والســجل كبير، ينتقي مــن الدينــي وينتهي بالأخلاقــ­ي. لم تكن نــوال الســعداوي أكثر من مفكرة، وصلت إلى سلســلة مــن القناعات مــن عملها الميداني وخبرتهــا الحياتية وقراءاتها. مناضلة عانت من ســجون النظام، وذاقــت مــرارة العزلة والتهديــد­ات، لكنها في النهايــة ظلت ثابتة فــي فكرهــا، وفية لقناعاتهــ­ا، تناقــش كل من أراد أن يســاجلها. وراء هذه الشــتائم حتى وهي في العالم الآخــر، مجتمعات عربية في مواجهة خطــر داهم، حقيقي. لن تكون الاســتعما­رات الغربية الجديدة في حاجة لاحتلال بلداننا، ســيكلفها ذلــك أموالاً طائلة، يكفيهــا أن تســتعمل هــذا الخــزان مــن الجهــل والضغينة لحرق الأخضــر واليابس. لم تكن داعش إلا عينــة تجريبية. ولعل كلمات الحلاج الأخيرة تنصف نوال السعداوي ولو قليلاً: «هؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلــي تعصباً لدينك وتقرباً إليك، فاغفر لهم، فإنك لو كشفتَ لهم ما كشفتَ لي لما فعلوا ما فعلوا.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom