Al-Quds Al-Arabi

الحياة السرية لسلفادور دالي

- جمال العتّابي *

يسرد ســلفادور دالي )1904ـ 1989( سيرة حياته، في أكثر من خمســمئة صفحة، في الكتاب الصادر عن دار الحوار السورية 2016 بترجمــة متيم الضايع، لقــد منح دالي امتياز إثبــات حياته قبل أن يموت، وهو امتياز لم يحظ به غير قلة من الفنانين، واعتراف العالم بعبقريته أثناء حياته، وكانت تصريحاته، في معظمها، مطبوعة بطابع رجل قادر على أن يقف بمفرده في وجــه العالم، ومع ان وضعه كرســام كان منســجماً مع المــدارس المعاصــرة لحياته، كالســيريا­لية، التي يتمثل دائماً فــي معارضها، ويحتــل مكان الصــدارة فيها، فــإن من الصعب تصنيفه في أي المدارس يقف؟ ويبقى معزولاً في العالم الذي خلقه بنفسه.

يميل دالــي دائماً إلــى أن لا يقدم تفســيراً لمعنــى لوحاته، كتب ذات مــرة: حقيقة كوني أنا نفســي في لحظة الرسم لا أفهم صوري، لا تعني أن هذه الصور بلا معنى، على العكس، فمعناها يبلغ في العمق، التعقيد، التماســك واللاإرادي­ة، بحيــث تفلت من أكثر التحاليل بساطة للحدس المنطقي.

سلفادور دالي أحد أشهر الرسامين العالميين في القرن العشرين، ولد لأسرة إسبانية ثرية، حققت له كل ما يتمناه، ربمــا يكون هذا أحد الأســباب التي دفعت دالي إلى سلوك قريب من الجنون، اتسم بالطيش واللاعقلان­ية، إن حياته السرية التي دونها في هذا الكتاب تعد أحد الآثار المهمــة التي تركها، وهي بهذا العــدد من الصفحات، يصعب على المتتبع ان يختــزل التفاصيل والأحداث والوقائع، وهي تتخطى الحدود المألوفة في الكتابة.

بدأ دالي حياته السرية، بذاكرة داخل الرحم، ثم الولادة، وذاكرة الطفولة الزائفة والحقيقية، وفي القسم الثاني، تحدث عن مراهقته، ومراحل دراســته، ومــوت الأم، والرحلة إلى باريس، وفي القســم الأخير، تحــدث عن دوره الريــادي في الحركة الســيريال­ية، وعن مدن أحبها، أو كرهها، وتحدث عن بشــاعة الحرب، ونشــأة الكون، والتحول، الموت والبعث.

إلى جانب هذا يسجل دالي بعضاً من حماقاته في مذكراته، فكتب أنــه كاد أن يقتل صديقه عندما دفعه عــن حافة الهاوية، وركل رأس شــقيقته الصغيرة برأســه، كما أنه عذّب هرة حتــى الموت، بل كان يعذب نفســه، عندما يرتمي على الســالم، أو يتدحــرج عليها أمام أنظار الجمهور. يقول دالي: أنا التجســيد الأكثــر تمثيلاً لأوروبا ما بعد الحرب، لقد عشــت كل مغامراتها، وكل تجاربهــا، وكل أحداثها الدرامية، كشخصية رئيســية في الثورة السيريالية، عرفت أبسط الأحداث الفكرية اليومية، وانعكاســا­تها في التطور العلمي للمادية الجدلية، والعقائد الفلســفية المزيفة، درســت مطولاً علم اللاهوت، لم أكن مســتعداً للانتماء إلى أي حزب سياســي أياً كان، يتســاءل ســلفادور دالي، ما هي السماء؟ أين توجد؟ فيجيب، السماء لا توجد في الأعلى، ولا في الأســفل، توجد الســماء بالضبط في مركز صدر إنسان لديه إيمان!

فرادة دالي، وإن ظلت بمعنى ما، مرتبطة بعصره، وهي في أعمق معانيها، نموذج حياة صاخبة لا يمكن تقليدها، ســلفادرو دالي عالم قائم بذاته، من النوادر والأقوال والصور الخيالية الغامضة المعالم، كانت حياته سلســلة من الأفعال الدراماتيك­يــة، القريبة في روحها، إن لم تكن في حرفيتهــا، من الدوافع الثورية للســيريال­ية، فهو في رسمه المستمر لنفسه، يمســك بالمتنوع، وبما لا يتكهن به، في حياته انعطافات فجائية، واكتشافات عديدة تؤلف حياة دائمة التجدد والانتعاش، وصار كيان دالي بخلاف أغلب الرسامين، شيئاً لا ينفصل عن كيان العالم. إن مبــدأ حياتــه كفنان يكمن فــي حاجته إلــى التجدد الذاتي الدائم، هــذه الحاجة إلى الاكتشــاف المتجدد، جعلت منه رساماً يخترق حدود الرسم باستمرار، إنه ساحر، وعرّاف. يقول عن نفسه: مثلي كانت تبدو على محياه ملامح عبقرية لا لبس فيهــا، منذ الطفولة، كنت قاســياً، وطرياً، وجباناً، أراد أن يكون طباخاً، في السادســة من عمره، وفي السابعة أراد ان يكــون نابليون. يتحدث عن أشــياء طريفــة فــي حياتــه، كان لا يتناول الســبانخ، يمقته بسبب شــكله غير المرتــب إطلاقــاَ، ليس هناك شــيء فيه ســوى الرمل، وأثنــاء ما حاول الطبيــب ثقب شــحمة أذني أخته، هجم على الطبيــب بحزام جلدي وكســر نظارته، أطلــق الطبيب العجــوز صرخة تنم عن ألم شــديد، وســقط على الأرض، راهن في إحدى المســابقا­ت في مدرســة الفنون الجميلة على نيل الجائزة برسم لوحة، دون أن تلمس فرشاته لوح الرســم، وقف على مســافة متر واحد منها، وبدأ بنثر الألوان، ونجح في جعل الصورة )المنقطة(، دقيقة جداً في تصميمها وألوانها ونال الجائزة. إن الفردانية الساخطة المبالغ فيها، التي أظهرها دالي كطفل، تبلــورت في مراهقته على شــكل ميــول معارضة للمجتمع بشــكل عنيف، يقول: تركت شعري ينسدل كشعر الفتيات، وبــدأت أتقمص ملامح الكآبة التي ســحرتني في صور روفائيل، كنت متأخراً في ممارســة )العادة السرية(، لم أكن قادراً على فهم ما هي. يتحدث سلفادور بإعجاب عن لقائه الأول المثير بالفنان بيكاسو، في منزله، يقول: كنت أســير وأنا أفيض احترامــاً كما لو أني ذاهب لأقابــل البابا، قلــت له: جئت لزيارتــك قبل زيارة متحــف اللوفر، فأجاب، أنت محق تماماً. كان دالي حريصاً على أن يطلع بيكاسو على لوحة صغيرة جلبها معه هي )فتاة صغيرة(، ظل بيكاسو يدقق فيها مدة خمس عشــرة دقيقة، دون أي تعليق، وظل لمدة ساعتين يعرض العشــرات من أعماله، وفي كل لوحة كان يصب علــيّ نظرته المليئة بالحيوية والذكاء بطريقة عنيفة، جعلتنــي أرتعش، وانتهى لقائي معه، دون تعليق من أي نوع. إن المتعة التي وفرها ســلفادور دالي للقارئ، تتمثل بغنى التجربة والرؤية والموقف، ولعل إحــدى المعلومات الجديدة التي أفصح عنها في كتابه هذا، هي إعلانه عن نسبه العربي المؤكد، الموجود في شجرة عائلته، التي تعود إلى زمن سيرفانتس. ويمكننا القول في ضوء تلك التجربة الطويلة الغنية، وما قدمــه دالي من معلومات تفصيلية، إن عالمه قوامه السحر والخوارق، وهو يحتفظ بالمعنى البدائي الساحر، أي الإنسان الذي يكتشف المجهول.

 ??  ?? سلفادور دالي ٭ كاتب عراقي
سلفادور دالي ٭ كاتب عراقي
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom