Al-Quds Al-Arabi

جبرا إبراهيم جبرا يروي فصولاً من سيرته في «شارع الأميرات»

-

للمصادفات الحميــدة، آثارها الطيبة فــي كثير من أمور الحيــاة ونتائجها، فلو لم يطلــب محرر فــي إحدى المجــات العراقية كثيــرة الرواج؛ لو لم يطلــب منه كتابة عدد من المقالات، يتحدث في كل واحدة منها، عن تجربة مــن تجاربه الحياتيــة الثرة، لبقيت هذه الفصول ثاويــة في عقل جبرا وذاكرته، وســيطويها النســيان، أو بالحري لن يقف عندها أحد لأنها لم تكتب.

صحيــح أن جبرا كتب جزءا من ســيرته الذاتية فــي «البئر الأولى» وهي التي تترجم للسنوات الثلاث عشرة من حياته الأولى في مسقط رأســه، في بيت لحم، ومن ثم انتقال الأســرة إلى مدينة القدس، وصحيح – كذلك - أن جبرا ســرّب الكثير من سيرته الذاتية، وتجاربه الحياتية فــي عديد رواياته، فضلاً عن الكثير من المقابلات الصحافية والإذاعية، لكن أن يكلف بكتابة حديث يمتح من السيرة الذاتيــة، وحديث عن تجربــة حياتية، وما أغناها وما أثراها، فهذا سيكون أجدر بالبقاء والذيوع والتأثير.

ولولا هــذا التكليف وانكبــاب جبرا على كتابــة هــذه الفصــول، وجبرا مــن خلال قراءتي لهذه الفصول، أراه كثير الانشــغال بالحياة الاعتيادية، وكثير التأجيل لمشاريعه الثقافيــة، إنه يفضل عليها جلســة طعام أو شراب في فندق راق، أو جلسة مع أصدقائه، حيث الأحاديث واحتســاء القهوة وتدخين الغليون، إذ لولا هذا التكليف الذي أراه أقرب إلى الإلزام، لضاعت منا فصول غنية رائعة، إذ يفصل بــن كتابتها ورحيل جبرا في اليوم الثاني عشــر من الشهر الثاني عشر من سنة

جبرا إبراهيم جبرا 1994 يفصل بينهما نحو ثمانية أشهر، إذ فرغ من كتابة فصوله الذاتية هذه في آذار/مارس سنة 1994 !

قدر هذا الرجل أن يحيــا في العراق، أكثر ســني حياته، وقدر هذا الرجل الذي تنبأت لــه )وردة( العرافــة؛ صديقة أمــه في بيت لحم، أن يتعرف إلى امرأة ثرية، ابنة باشــا «ولســة الجايات أكبــر وأكبر» كمــا تنبأت العرافة العراقية البصرية لمستقبل حيوات، بدر شاكر الســياب، ومهدي عيسى الصقر، ومحمود البريكان، ومحمــود عبد الوهاب، وســعدي يوســف، وصحت تنبؤاتها كلها، وهكــذا تشــاء المصادفــة أن يلتقــي جبرا خريف ســنة 1948، بعبد العزيــز الدوري، الذي كان قد عاد تواً من الدراســة في جامعة كامبريدج، ليؤســس كلية الآداب والعلوم، يلتقي في مبنى السفارة العراقية في دمشق في الدوري، الذي أوفد إلى دمشق كي يتعاقد مع كفاءات عربية، تتولــى العمل في المعاهد العاليــة والكليات العراقيــة، وكان العراق وقتذاك ســباقاً لاكتناز الكفــاءات كي يبني الدولة العراقية الناشئة، فضلاً عن الكفاءات التي جلبها معه الملك فيصل الأول، ممن عملوا معه في العهد الفيصلي القصير في الشام.

أهم فصول كتاب «شارع الأميرات. فصول من ســيرة ذاتية» هو الفصل الموسوم )لميعة والســنة العجائبية( ويقع في إثني عشــر مقطعاً، وفيه حديث عن ســنوات الخمسين من القرن العشرين، أيام النهوض العراقي، بعد أن زاد العراق مــن مدخولاته النفطية، إذ أصبــح العــراق يحصــل مــن مبيعاته النفطيــة الخــام، على واحد وخمســن في المئة، وتأســيس مجلس الإعمــار، ومن ثم وزارة الإعمار، بعد أن كان يحصل على النزر اليســير من ثروته النفطية، التي تستحوذ عليهــا الشــركة المنتجــة، وقد تحــدث في هذه الفصول عن لقائــه بعالم الآثار ماكس مالــوان، الــذي كان يواصــل تنقيباته في

مناطق النمــرود، ويفاجأ حينمــا يُخَبــر بأن الســيدة التــي التقاها مراراً في بيت مالوان؛ هــي كاتبة الروايات البوليسية الشــهيرة أجاثا كريستي، الذي كان شغوفا بقراءتها، ويقع في إحراج حاول تفاديه، إذ يســألها عن عدد رواياتها؟ سألها هذا الســؤال بعد أن شــعر بتوطد العلاقة معها.

تجيبه: لقد أحصيتها منــذ مدة، فوجدت أنها ست وخمسون.

- ســيدتي، المهم هو أن يكــون لدى المرء دائمــاً ما هو جديــد يريد قوله، ويســتحق القول!

لكــن الروائيــة الذكية، وقد لمســت هذا التعريــض بإمكاناتها الفنيــة والإبداعية، سألته بمكر لطيف شفيف. - وأنت كم كتابا كتبت حتى الآن! فهز جبرا رأسه ضاحكاً ولم يجب.

لميعة العسكري

يحدثنا جبرا في هذه المقاطع، عن لقاءاته بالآنسة لميعة العسكري، التي كانت قد عادت تواً، حاملة الماجستير من جامعة وسكانسن في ولاية ماديســون الأمريكية، وتعينت في دار المعلمــن العالية، وانعقــاد آصرة الحب بينهما، التي تكللت بالزواج على يد القاضي عبــد الحميد الأتروشــي، وكان مقــدم المهر دينارا واحــدا، والمؤخر ديناران اثنان! الأمر الذي يلفت انتباه القاضي فيسألها: يا لميعــة برقي شــوقي العســكري، هل تعرفين أن مهرك المقــدم دينار واحد، ومهرك المؤخر ديناران اثنان؟ أجابت: نعم، فضيلة القاضي. فسألها: وأنت راضية بهذا المهر؟ فأجابت: نعم راضية. قال: وهل تســلمت الدينار الواحد، كمهر مقدم؟ قالت: نعم. فأجال بصــره بيننا نحــن الاثنين، وبين الشاهدين، وهو يبتسم وقال: أشهد بالله أن هذا الزواج ليس الدافع إليه هو المال. وأجرى بســرعة ما يقتضيه الأمر. تقرأ في هذه المقاطــع فتجد حديثاً عــن عــراق ينشــأ ويزدهــر، بهذه الكفــاءات العائدة إلــى أرض الوطن، بعد أن درســت في أرقى معاهد الدنيا؛ كامبريدج، أوكسفورد، أكستر، هارفارد، لا بــل إن جون مارشــال المســؤول في مؤسسة روكفلر، التي كانت تمنح بعض الأســاتذة الجامعيين زمــالات، لزيادة خبراتهــم أو الحصــول على شــهادات أعلــى؛ الدكتوراه مثلاً، وبعد مراســات بينهما، يأتي مارشال إلى العراق ليعرض علــى جبرا مواصلــة دراســته للنقد، أن يدرســه في مدينــة كامبريــدج في ولاية ماساشوستس، حيث تقع جامعة هارفارد، قائــا لــه ومحــاولا إقناعه: «إنكم معشــر كامبريــدج البريطانية لا تتصــورون أن في العالم جامعــة أخرى ترقى إلى مســتواكم، لا بــأس، لكن تعــال إلى هارفــارد، وجربنا في جامعتنا، وأنا واثق أنــك لن تندم». بعد تردد، يقــول جبــرا، وبعــد أن ذكرني بأن هارفرد اليوم، إحــدى أعظم جامعات العالم قاطبــة، وافقت على اقتراحــه! في مثل هذه الجامعــات العلمية الرصينــة، كان يدرس الطلبة العراقيون، حتى إن جبرا الدارس في كامبريدج، يتردد في الموافقة على الدراســة في هارفرد! كما أن الأســتاذ متي العقراوي، وكان مديــراً عاماً للتعليــم العالي، ومن ثم سيتولى رئاســة جامعة بغداد، في بواكيرها الأولى ســنة 1957 يبذل قصــارى جهده كي يرســل خالد الرحال في بعثة دراسية، وقد لمس نبوغه في النحت، ولمــا لم يكن الرحال قد حصل على الشهادة الثانوية، التي تؤهله لبعثة ما، فإن متى العقراوي يبذل مســاعيه الخيرة والمضنية، كــي يحصل له على زمالة دراســية خاصة، بموجب اتفاقية ثقافية مع الســفارة الإيطالية غير خاضعة لشــروط بعثات وزارة المعارف العراقية!

عبد الواحد لؤلؤة

جبــرا، وهــو الأســتاذ الجامعــي فــي دار المعلمــن العاليــة، وكلية الملكــة عالية للبنات، يرى شغف الشــباب العراقي آنذاك بالدراســة، على الرغم من فقر الحال «وكان مــن الســهل أن أرى معظم الطــاب الذكور يلبســون ثيابا عتيقة، صمموا على متابعة تعليمهــم مهما وجــدوا في ذلك من مشــقة، وكان النظــام التعليمي في العــراق يومئذ يتيح لصبي ولد في صريفة من طين، وقضى طفولته حافياً، أن يكمل دراســته الجامعية، بل وينال الدكتوراه من أي جامعة في العالم كطالب بعثة، إن أبدى الــذكاء والقدرة على المثابــرة، دون أن يتكبــد فلســاً واحداً من عنــده». كما يقــف عند الطالــب النابه عبد الواحد لؤلؤة، الذي سيمسي علماً من أعلام الثقافة والنقد في العراق، فقد تخرج في قسم اللغة الإنكليزية فــي دار المعلمين العالية في بغداد، قبل ثلاث سنوات بدر شاكر السياب، وعما قريب سيتخرج طالب متميز آخر: عبد الواحد لؤلؤة.

٭

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom