Al-Quds Al-Arabi

مسارات الشعر العراقيّ وسط انقسام المشهد

شعرنا المعاصر إلى أين؟ )6)

- ٭ كاتب مغربي

■ لا يمكــن الحديــث عن الشــعريّة العربيــة قديمها وحديثهــا، دون الحديــث عن الشــعر العراقــي في كل الحضــارات والأزمنــة. لقد كان شــعراء العــراق، رغم تواريخ الجوع والحرب والنســيان والمنفى والشــتات، وقد يكــون بفضلها، ملهمين ومبتكريــن وأصحاب حكمة وشــهوات عظيمة للفنّ والجمــال والحياة. إنّك بمجــرد أن تذكر أبا الطيــب المتنبي، أو بدر شاكر السياب، أو مظفر النواب، أو حسب الشــيخ جعفر، أو ســركون بولص، أو عقيل علــي ـ تمثيلًا لا حصــرًا- فأنت تطالع سلاسل الذهب تتلوّى مع مياه الرافديــن، وتــدرك معنــى أن يكون الشــعر هو فنّ النسيان ورديف العزلة والفقدان.

لا يمكن أن ننسى - بأيّ حال- ذلك الدور العظيم، والمأخوذ بفتنة البدايات دائمًا، الذي أدّتْهُ حركة الشعر الحُرّ وهي تخرج من أرض العراق لتنتشر في كل البلاد العربية، وتحدث أثرا كبيرا ومدهشــا في الوعي الشعري. وكان الشــعراء الروّاد مُؤسّسين ومتسامحين، وتلاهم جيل الســتينيّين الرائع، وفيهــم جماعة كركوك، وجيل الســبعيّنيين الذي وسّعوا مشــروع قصيدة النثر، وقطع الثمانينيّــون فيه أشــواطاً بعيدة حتى وصلوا إلــى مرحلــة النص المفتــوح. أما شــعراء الألفيــة الجديدة فقــد تنوّعت مشــاريع الكتابة عندهم من اليمين إلى اليسار، ولسان حالهم: «قفوا نضحك» نكايةً في مشاهد الخراب. لكنّك تشعر، رغم الزخــم والقطائع الذي حدثت منذ الرواد وإلى اليوم، بأنّ المشهد العراقي مُنْقسمٌ وفيه «فوضى» لاعتبارات سياسية وجمالية في آن.

علي جعفر العـلاق: فوضى المشهد ونبل الذاكرة

جيلٌ يلتفت إلى الوراء بمحبة :ثمّة جيل جديد يتطلع، باقتدار جمالي، إلى شــعرية عالية، دون أن يتكئ كثيراً، أو قليلاً حتــى، على خبرة أنجزتها أجيال قريبة أو بعيدة عنه، بل يستند إلى شعريته هو، شعرية يكون النثر، كما هــو متوقع، وســيطها اللغوي الحافل بالطواعية والشيوع الذي يماثل الهواء والماء.

قصيــدة النثــر العراقيــة في هذه البرهــة، الحافلــة بالفوضى، قصيدة شــديدة الفتــوة. لا يعوزهــا دهــاء المخيلة، أو غنى الموضوعات، وإن بدت أحيانــاً زاهدة فــي العكــوف على تمتين اللغة، وتأجيــج توقها اللاهــب إلى مواهب الأسلاف. أســماء كثيرة تقدم اجتهاداتها النصية، بمهارة، غير أن ما نتطلــع إليه أن يفرز هذا الجيل المتنوع والفيــاض بالحيوية ما يواكبــه نقديّاً. لا يبــدو المنجز النصي لهذا الجيل النابــه والمجتهد مترابطاً على الدوام، ولا يتحرك بــروح الخلية المتناغمة. النــص هنا يتحرك على هواه، بجمالية عالية مكتفية بذاتها، ولا يهمها كثيراً أن تشــد أواصر انتمائها إلى الآخرين. فهو جيل يؤسس، أو كأنه يفعل ذلك، لشــعرية الفوضــى، التي تتماهى مع فوضى البلاد وانهياراته­ا المتلاحقة، فالنص سيد ذاته في الغالب، ولا يتطلع إلى آبــاء يباركون حكمته أو فوضاه. لكن هذا الجيل يبرهن، خارج نصوصه، على وفاء شديد الوضوح لأسلافه الكبار. وبذلك فإن تلفّت القلب، لا تبعية المخيلــة، هو خصلة تكاد تكون مشــتركة فــي الكثير من أبنائه، الذين يتعالون على حساسية الأجيال، ويلتفتون لفتة الحنــن إلى قامات قدّمت للشــعرية العراقية أجمل ما فيها، ليؤكدوا أن الشــعرية قــد لا تتحقق إلا من صراع

مشوب بالمحبة أو الافتتان بمن سبقوهم. الشــاعر علي محمود خضير، واحد من أحفاد السياب البررة، ومن أكثر شــعراء جيله حرصاً على بلورة صوته الخاص، يقدم للمشهد الشعري العراقي، الديوان الكامل لرائد القصيدة الحديثة، هدية الواثق من نبله وقصيدته. طبعة فريدة، محققة، وبتقديم له دويه الخاص، يكتبه أدونيس. يتقصى هذا العمل مسودات قصائد الســياب، مــا حذف منهــا وما تعرض للتغيير. جيــل يثبت اختلافه عمن سبقوه، بالمحبة والإنصاف، فيتم إنجاز هذا الديوان بهذا المســتوى من الدقة والتقصي والأناقة.

فاجأتنا مجلة «الأقلام» بعدد شــديد التميز، يحمــل علامتين فارقتــن: غلافاً مميزاً تتوســطه صورة أدونيس، الشاعر المثير للجدل، احتفاء ببلوغه التسعين، ويضم أيضاً ما يؤكد دلالته المثيرة: حواراً شــاملاً أعدّ له وأســهم فيه وأخرجه الشاعر عارف الســاعدي، رئيس التحرير. وقد شــارك في أسئلة هذا الحوار عشرة شعراء ونقاد عراقيين، منهم كاتب هذه الكلمة. أيقظ هذا العدد في نفسي شجناً قديماً رافقني أعواماً طويلــة. فمجلة «الأقــام» التي تحتفى اليوم بأدونيس بطريقة اســتثنائي­ة، لم تكن قادرةً علــى خطوة كهذه، قبل ثلاثــة عقــود، فمجازفة كهــذه كانت تكلف رئيــس التحرير ثمنــاً باهظاً. كنت شاهداً على ذلك وأوشكت أن أكون ضحية لا يشــفع لها أحد، بسبب وشاية أدبية قليلة النبل تتعلّق بأدونيس. نشــرت المجلة، في ملفّ كبير عن الشــاعر العربي الحديث ناقداً، دراســة مطولة عــن أدونيس كتبهــا الناقد كمال أبو ديب. فكانــت النميمة ســوداء كالرصاصة، مرفوعة إلى جهة تجيد العقوبة أكثر ممــا تجيد الثقافة. وكان من جملة ما اتهمني به كاتــب النميمة، وهو صديق قديم على أي حال، أننــي أكرس مجلة «الأقــام» لكتاب يرتبطون بدوائر المخابــرا­ت الغربية، وأن كتبهم ممنوعٌ تداولها في العــراق، وكان القصد من هذه العبارة المسمومة بالغ الوضوح وشديد القسوة. وفي العدد ذاته من مجلة «الأقلام» مادة تشبه البشــارة: كل من الشاعر علــي وجيــه والناقــد أثيــر محمد شــهاب يتعاليان علــى الأيديولوج­يا، ويصعدان إلى ذروة من التناغم النقي بين الأجيال. كلاهما يمدُّ يدين دافئتين إلى ميراث شعري ونثري لا يستهان به ليوسف الصائغ، كانا يوقظان شاعر القلق والتحولات، من كبوة غيابه الكثيف، ويبعثان إلى الحياة نتاجه الذي لم ينشر حتى الآن..

هاشم شفيق

«الأقلام» وأدونيس والنميمة الثقافية نجمة تذهب بعيداً

قــد لا تكتمل مفردات المشــهد الشــعري المعافى، دون ذلك الحوار، المخصــب للمخيلة، والعابر للغات، عبر فعل الترجمة وضيافتها الســخية للوافد والغريب. فالترجمة حراك نوعي، يحك عن جســد اللغة الواحدة ركام الألفة وصــدأ التفكير الأحــادي المطمئنّ، ويبعث إلــى حياتنا الهشّة، رغم خشــونتها، بصيصاً من الأمل الذي ينفذ إلى القلب والمخيلة هادئاً وحميماً. عرفنا من خلال دار المأمون جملة مــن الفضاءات: مجلــة «كلكامــش» «تراجيديات شكســبير الكبرى» «موســوعة المصطلح النقدي» وعي الحداثــة وســجالها العاصف، ومــا ترجم فــي الرواية

والشــعر وتلاقح الفنون. من هنــا كان حزني، كما حزن الكثيرين، كبيراً لما حل بدار المأمــون للترجمة، فإلغاؤها يجســد ربما لحظــة مرتبكة ينحــرف فيها الإحســاس بالجمال عن مســاره، ويتراجع فيها، الشــغف بالمعرفة والحقيقة وحوار اللغات.

هاشم شفيق: البدايات الجديدة والتحوّلات المؤثّرة

الحديث عن مســارات الشــعر العراقــي ومن ضمنه العربي، فــي كلمة موجزة، هو حيف جمالي ســيقع على الســياقين، العراقي والعربــي، ففي مقام كهــذا، يحتاج الدارس والباحث والمتفحّــص أن يلقي نظرة، قد تمتدّ به إلى أول شاعر ظهر في العالم فوق أرض سومر، ثم لتستمرّ الرحلة الشــعرية وتتشــعّب، متخذة أنســقة أسلوبية ولغوية وتعبيرية مختلفة، على مــدار أكثر من ألفي عام. وبمــا أننا أبنــاء اليوم، دعنــا ننظر إلى تجربة الشــعر الحديث التي ظهــرت في نهاية الأربعينيـ­ـات، وتبلورت وتشــكّل قوامها الحداثي في الخمسينيات والستينيات، ثم لاحقــاً فــي الســبعيني­ات، لتتوالى بعدهــا الأجيال والموجــات الشــعرية الصاخبة، في كلّ أرجــاء العراق، كموجة الثمانينيّات وما تبعها من شــعراء التسعينيّات، وصولاً إلى شعراء عام ألفين، شعراء يتوالون، ويتغذّون من أرض شعرية خصبة، ومعطاء على مرّ الأيام.

مستقبل الشــعر الآن في العراق يتوقّف على الأجيال الأحدث، الأجيال التي رأت واطلعت واستكشفت المسارات والتحوّلات الجديــدة، تلك التي حصلت للشــعر في كل أنحاء العالم، ومســتقبل الشــعر العراقــي الآن يتوقف عليها. هناك أسماء كثيرة لا تحصى في هذا المضمار، تكتب الشعر الحديث بصيَغه الثلاث، الكلاسيكي المتجدّد، على أيدي بعض الشعراء، وهم شباب أيضاً، ورثوا هذا الشكل من بنيــان القصيــدة العمودية، الكلاســيك­ية، الزاخرة بالأســماء الكبيرة والرنّانة، بدءاً من المتنبي والبحتري وأبي تمام وأبي العتاهيــة وأبي نوّاس ودعبل الخزاعي، إلى آخر القائمة التي تمتد طويــًا، وصولاً إلى الرصافي والزهاوي والجواهــر­ي، والأخير هو آخــر العنقود في هذه السلسلة الذهبية، وثمة شعراء القصيدة الحداثية، أولئــك الذين اســتمدوا رؤاهم وتصوّراتهــم، وأفكارهم وأحلامهم، وأســاليبه­م وأشــكالهم التعبيرية من أضواء شــعر الرواد، كالســياب والبياتي ونازك الملائكة وبلند الحيدري ومحمود البريكان، ثم سعدي يوسف ويوسف الصايــغ ورشــدي العامل وصــادق الصائــغ، وكوكبة الشــعراء الســتينيّين، متمثلة بفاضل العزاوي وسامي مهدي وحســب الشيخ جعفر وســركون بولص وفوزي كريم وجليل حيدر وصــاح فائق وعبد الرحمن طهمازي وعبد القادر الجنابي ومؤيد الراوي، وثمة السبعينيون، وعددهم كثير، ولا يقل عن الشــعراء الستينيين، وهؤلاء شــكلوا تحوّلاً جذرياً، على صعيد التعبير الحداثي الفني والجمالي، وكانــوا الصوت الأكثر تمثّــًا وهضماً لمائدة الشــعر العربي والعالمي، ذلك أنهم أحدثوا ما يشــبه المدّ الدينامي بين الأجيال، ولاســّيما الجيــل الثمانيني الذي طَور في شــكل وأســلوب القصيدة الحديثة في العراق، فصاحبته أســماء لافتة، لكنه كان الجيــل العاثر الحظّ، نتيجة الحصار والحروب التي شــهدها، فانعكست على حياتــه الاجتماعية، والفنيــة والإبداعية، مــا أدى إلى تشتت تجاربه المهمة في المعسكرات، والجبهات الحربية، والسفر باتجاه المجاهل والمنافي البعيدة، بحثاً عن المأوى ومواصلة الحياة الصعبة.

أما الجيل الأحدث وأعني جيل عام ألفين فما فوق، فهو الاحتياطي الكبير للشــعر العراقي، ذلك أن هذا الجيل له أفكاره المختلفة حول الشعر، وإن شابها بعض السهولة، والتأثــر بحركة الترجمــة العالمية، لكنه ومثــل كلّ جيل عراقي وعربي، سيصفو في النهاية، ويلتفت إلى تجربته الخاصة. وأهم ما يميز هذا الجيل هو الكتابة بيد جريحة،

وروح مكلومــة، ومتمثلــة للخراب الروحي والنفســي والاجتماعـ­ـي الذي يُهيمن على مفاصــل الحياة العراقية الآن. ثمــة أصوات باهرة ومفاجئة في هذا الجيل، صادمة للذائقة العادية، ومخترقة للســائد، والمكرّس، والعادي، وهي تحمل شارة مفارقة لما قبلها، لذا فإنها تنبئ بالتطور الذي سوف يحصل في سياق الشــعر العراقي مستقبلاً، ولسوف تُغني في ما بعد حركة الشعر العربي من جديد، وترفدها بعوالــم متحوّلــة، وذات رؤى معبّرة، تشــي بالتخطي والتجاوز، وتكون خير ممثل للشــعر العراقي عامةً، في عقوده المقبلة.

باسم المرعبي: انقسام المشهد!

يمكن تخيّل واقع الشعر العراقي بمشهدين متجاورين، متناقضين ـ كما لو ثمّة شاشتان تعرضانهما في الوقت ذاته ـ الأول بما جسّــده من ريادة أدّت إلى توسعة أفق الشعر وأنبأت بمســتقبله، وهو ما حققه جيل الرواد، لتتواصل هذه الريادة، بأســاليب مختلفة، عبر شعراء الستينيات والثمانيني­ات، بشكل خاص. أما المشهد الآخر المجاور فهو موقوف لنوع آخر من النشــاط، يمثله شعراء تقليديون محافظون، في اللغةً والشــكل وفي الموقف السياسي، في الغالب. وكأنّ التحفظ علــى الصعيدين المذكورين يؤدّي أحدهما إلى الآخر. وفي هامش هذا المشهد المنقسم ترتسم ظلال مشوّشــة تتضح حيناً وتحتجب حيناً آخر، تلك هي حركة النقد.

وسبب هذا الاحتجاب أو الخفوت يعود، إلى ما هو فنّي وبدرجة كبيرة، إلى ما هو سياسي، بما يعنيه، الأخير، من انخفاض سقف الحرية إلى حدّ يكاد يلامس الأرض. وربما يكفي المثال التالي لتفســير مدى هــذا الاختناق: في عام 1990 بعثت للنشــر، قصيدة إلى مجلة «الطليعة الأدبية» تضمنت اقتباساً من الشاعر صادق الصائغ، الذي أشرت إلى اســمه، في هوامش القصيدة، إلى جانب اسم أنسي الحاج الــذي ضمّنت له، هو الآخر، جملــةً، رغم معرفتي بحظر اســم الصائغ في العراق، كونــه معارضاً ويعيش في المنفى. بعد فترة أخبرني رئيس التحرير بشــيء من الحرج، وهو شخص في غاية التهذيب واللطف، وبمثابة صديق، أن اســم صادق الصائغ ممنوع ولا يمكن ظهوره في المجلة. نُشــرت بعد ذلك القصيــدة خالية من المقتبس والاسم. من هنا يمكن تصوُّر مدى تعقيد وصعوبة المشهد الأدبي لدينا وما يعنيه ذلك من مأزق للكتابة والنشــر في مناخ كهذا.

والتســاؤل الذي لا بد أن يتبادر فــي مثل هذا الوضع، ماذا يصنــع الناقد الذي يريد أن يتصدى لقراءة المشــهد الشــعري العراقي بكامل خريطته؟ هل عليه أن يشــطب شــعراء المنفى، رغــم أهميتهم، ما يجعل صورة الشــعر العراقي من دونهــم على درجة كبيرة من النقصان، إن لم يكن الفــراغ. وبالتالي فإنّ قراءة كهــذه تعمد إلى إغفال منجز هؤلاء الشعراء، لابد أن تكون قراءة غير أمينة، في أبســط تعبير. وهو ما كان يحدث بالفعل، للأســف. وإذا كان هذا الإقصاء قد تمّ تحت ضغط السياســي، فماذا عن الإقصاءات الأُخرى التي يمارســها الشــعراء أنفسهم لا لسبب فني، وإنما لســبب تنافسي مكشوف يتضح عبره الهوى الشــخصي بذرائــع متهافتة. ولســت هنا بصدد تناول ذلك، فالحديث والتفصيل فيــه يطول. لكن ما يهمّ الآن، هو التعرّض، بالقدر المســتطاع، إلى الملامح الفنية للقصيدة العراقية، وفقاً لهدف الاستطلاع.

لقد أشــرت، بدايةً، إلى فترات ثلاث هي الخمسينيات والستينيات ومن ثم الثمانينيا­ت، مُتخطّياً السبعينيات، فما أعتقده هو أن الســبعيني­ين قدّمــوا أهم إنجازاتهم في فتــرة الثمانينيا­ت، وليــس قبل ذلك، معا مــع «الجيل» اللاحق لهــم، أي الثمانينيي­ن. هــؤلاء الذين بدت ملامح مشروعهم الشــعري واضحة، متبلورة في عقدهم نفسه الذي ظهروا فيه، وهي ظاهرة متميزة في مســار الشــعر العراقي وتكاد تختصُّ بهــم وحدهم. كانت قصيدة النثر هي مشــروع الثمانينيي­ن وقد قطعوا فيها أشواطاً بعيدة حتى وصلوا إلى مرحلة النص المفتوح الذي استفادوا فيه من كلّ الأشكال الأدبية المعهودة، وحتى الفنون البصرية كالسينما والمسرح والفن التشكيلي، وهو ما يمكن تأكيده، باطمئنــان، لدى كاتب هذه الســطور. وقد تزامن شــغل السبعينيين والثمانيني­ين في تطوير نصّهم، فنياً، من هنا يمكن عدّهم أبناء مرحلة «جيلية» واحدة.

إن الكتابة الشــعرية بالنثر هي مُؤشّــر فني على نوع التجربة التي لم تصل إلى ما هي عليه، من دون استفادتها من المنجز الشعري السابق، عراقياً وعربياً وعالمياً. وكان أبرز من يمثل هذه المرحلة، الشعراء: زاهر الجيزاني، كمال سبتي، محمد تركي النصار، محمد مظلوم وباسم المرعبي. وحتى أولئك الذين لم ينشــروا إلا القليل إلا أن بداياتهم أفصحت عن قوة شــعرية ونضج مبكر، مثــل أحمد عبد الحسين، رغم ظهوره المتأخر، بسبب سنّه. أو الذين، على العكس من ذلك، أي الذين تأخروا في تبلور أصواتهم، وإن كانوا ظهروا معا مع أقرانهم، مثل الشــاعرين السبعينيَين رعد عبد القادر الذي نشر أفضل نتاجه في التسعينيات، وعقيل علي المتميّز منذ بداياته، لكنه أهمل نشــر شعره. ومن المفيــد التنويه بأنّ تجربته في القصيدة تختلف عمّا آلت إليه تجربة شــعراء مرحلة الثمانينيا­ت، الذين يذكّر اندماجهم الجيلي، بما دعــوت إليه، من قبل وفي أكثر من مناسبة، باعتماد التحقيب النصّي بدل الجيلي. لذا أشير هنا إلى أن اســتخدامي لمصطلح «جيل» هو من باب ما هو متعارف عليه، من دون التســليم بــه، أي إلزامية الإقرار بظهور جيل شعري جديد كلّ عشر سنوات.

كان للسِّمات الأسلوبية المؤثرة في مرحلة الثمانينيا­ت، ما يجمعها مــع منجز الســتينيي­ن. وبصــرف النظر عن المقارنة النصّية، كما حدث مع المرحلــة الآنفة الذكر، فإنّ المقارنة تصحّ، هنا، على مســتوى الروح الشعري ونزعة التمرد والتطلع إلى القطيعة الشعرية، خاصة مع قصيدة الرواد، وهي السمات الأهمّ المشتركة بين شعراء الجيلين. لذا كان ستينيّو الانشــقاق، تمييزاً عن ستينيي السلطة، كسامي مهدي وحميد ســعيد، هم الأقرب إلى الثمانينيي­ن في نصوصهــم ونشــدانهم الحرية، لاســيما وأنّ جلّهم كانوا يعيشــون في المنفى. ويمكن الإشــارة هنا إلى من تعنيهم هذه السطور، وهم: صادق الصائغ، صلاح فائق، ســركون بولص، الأب يوسف ســعيد. من ناحية أخرى تجب الإشارة إلى شاعر مثل حســب الشيخ جعفر الذي لن يكتمل الحديث عن الستينيات من دون حضوره وبما حققه من ريادة في القصيدة المدوّرة، غير أنه على أهميته لم يكن روحاً مُلْهماً لشــعراء مرحلــة الثمانينيا­ت. ومع انتشار نصوص ســتينيّي المنفى، في السنوات الأخيرة، بفعل وسائل التواصل الحديثة، وبشكل خاص نصوص صلاح فائق وسركون بولص، وباستقراء تأثيرات فائق بشكل خاص في العديد من الشعراء، حدّ نسخ قصيدته، يمكن أن يكــون ذلك مؤشــراً على انتشــار نموذج هذه القصيــدة. على أن الزخم الذي عُرف به الشــعر العراقي منذ الرواد وحتى بداية التســعيني­ات، أخذ بالفتور حتى ليمكن القول إن ثمة فراغاً زمنياً يناهز العقدين قد شــهده تاريخ هذا الشــعر. غير أن ظهور شاعر مثل علي محمود خضير موثقاً حضوره بمجموعتــه الأولى الصادرة عام 2010، إضافة إلى شــعراء مثل حيدر عبد الخضر وصادق مجبل، وهم أمثلة على تنوّع المشــهد الشــعري، يُستعاد الأمل بالوعود التي يختزنها الشعر العراقي على الدوام، حتى وإن تباعدت أو أبطأت.

 ??  ?? باسم المرعبي
باسم المرعبي
 ??  ?? علي جعفر العـلاق
علي جعفر العـلاق
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom