Al-Quds Al-Arabi

رسائل المؤرخ أيلبير أورتايلي عن تركيا اليوم

حكواتي إسطنبول

-

■ فــي فترة الثمانينيـ­ـات، كان المؤرخ التركي أيلبيــر أورتايلي قد عــرف من خلال أطروحته «أطول قرن من الامبراطور­ية» في إشــارة للقرن التاســع عشــر، الذي عرف تطورات كبيرة على صعيد الحياة السياســية والاجتماعي­ــة العثمانيــ­ة، ورغــم أنّ هذا الكتــاب لم يكن الأول الــذي صدر له في هذا الســياق، إذ ســبقه كتاب آخر صدر في عــام 1980 بعنوان «النفوذ الألماني في الإمبراطور­ية العثمانية» إلا أنّ كتاب القرن الأطول، كشــف آنذاك عن إدراك كبير من قبل هذا المؤرخ لحساسية تلك الفترة، ولطبيعة الفاعلين الجدد، الذين أخذوا يلعبون دوراً في الحياة العامة مثل، مدحت باشا وغيره من الإصلاحيين في البلقان، أو العالم العربي.

مع ذلك، لن يتعرّف القارئ العربي على هذا المؤرخ، وتحديداً على هــذا الكتاب، إلا بعد مــرور عقدين وأكثر تقريباً، مــع صدور الطبعة العربية بعنــوان مختلف «الخلافــة العثمانية: التحديــث والحداثة في القرن التاســع عشــر» وطُبِع يومها عــن دار قدمس بالتعاون مع الملحقيــة الثقافيــة التركية في دمشــق، التي كانت قــد تولّت مهمة دعــم بعض الترجمات عن التركية، بدعم مــن وزارة الثقافة التركية، مــا مثّل فرصــة لبعض دور النشــر للســير أكثر في خطــوة ترجمة الروايــات والمؤلفــا­ت التاريخيــ­ة التركيــة، وربما بــدت هنا حظوظ أورتايلــي أفضل من غيره من المؤرخين الأتراك، فرغم تأخره، إلا أنه وبعد ســنوات قليلة مــن الخطوة، ترجم الكثير مــن كتب هذا المؤرخ غزيــر الإنتــاج للعربية، وهي كتب صــدر معظمها عن الــدار العربية للعلوم، بترجمــة الراحل عبد القادر عبد اللــي، وجاءت متنوعة في موضوعاتهــ­ا، وغالبــا ما ركــزت على التاريــخ الثقافــي العثماني، والعلاقــا­ت العثمانيــ­ة الأوروبية. ولــم يتوقف الاهتمــام بمؤلفاته على ترجمة هذه السلســلة، وإنما سيشمل كتابه الماتع عن «الغازي أتاتــورك» الذي أعاد فيه قراءة جــذور هذا البطل القومي، من خلال ربطه بالتاريــخ العثماني، فهو لــم يعد، وفقاً للســرديات الجديدة، ذئب الأناضول )في إشــارة للبعد القومــي التركي(، بل هو الغازي والجندي العثماني الأخير، الذي اضطر إلى إلغاء الخلافة لأســباب جيوسياســة وتكتيكة، كما يذهب لذلك أستاذه أينالجيك، ما يعني إعادة الوصل مع التاريخ التركي الطويل.

التاريخ التركي الطويل

ولعــل الجميل في مــا كتبه أورتايلــي في الســنوات الأخيرة، أنه عوضــا عــن الاهتمــام بالقــرن التركــي الأطول )فــي إشــارة للقرن التاســع عشــر(، كان يســافر بنا إلى شــوارع إســطنبول ومقابرها وحماماتهــ­ا والحيــاة العامة في المدينة منذ القرن الســادس عشــر. كمــا أنه كشــف، فــي كتابــه الأخير، عــن أســلوب آخر مــن الكتابة التاريخية، أقرب ما يكون للأســلوب الروائي منــه للكتابة المنهجية، التــي ميّزت كتبه الأولى، وهو ما دعا بعــض القراء والمتابعين له إلى وصفــه بـ»الحكواتي» كونه لم يعد يكتب، كما يفعل المؤرخون عادة، إلــى كم كبير من المراجع، وإنما يعتمــد على خلاصات ما قرأه وكتبه علــى امتداد عقود طويلة، وهو ما قلل وفقا لهؤلاء القراء من قيمة ما يكتبه.

ويبــدو أنّ أورتايلي بدا مدركاً لهذه الإشــكالي­ة، لكنــه خلافاً لهذا النقد المتســرع، لا يــرى أنّ أســلوبه الجديد فــي الكتابــة التاريخية أمرا ســلبيا، بل على العكس من ذلك، فهــو يرى أنّ واحدة من أزمات الكتابــة التاريخية، تكمن في عدم قدرة بعــض المؤرخين على تجاوز الأســلوب التقليدي، فـ»التاريخ باعتباره نوعا من أنواع الكتابة ليس علم فيزياء، وليس علم طب، بل هو فن، ونوع آخر من الإبداع» ويبدو من خــال هذا الــكلام كأنه يعكس حالــة القلق التي تبديها أقســام التاريــخ، مع دخول علوم ولاعبين آخرين علــى هذا الحقل من علماء الأنثروبول­وجيا والألسنيات، الذين كان لهم دور بلا شك في انفجار حقل التاريخ الفرنســي، وولادة مدرســة الحوليات، كما يرى جاك لوغــوف مثلاً، كما أنّ النظر للكتابة التاريخية بوصفها فنا، تكشــف أيضا الحيرة التي بات يشــعر بها بعــض المؤرخين حيال ما يكتبونه مقارنــة مع بعض الروايــات التاريخية، التي ظهــرت أيضا كمنافس ســردي، يحظى بمتابعة كبيرة من قبل الجمهــور، إضافة إلى ظهور أفــام الوثائقيــ­ات وغيرهــا مــن أدوات التاريخ الشــعبي، إن صح التعبير، كمنافس جديد يكسر احتكارهم لسرد الأحداث.

وســيعود أورتايلي ليعبر عن هذه الإشــكالي­ة فــي كتاب صادر له حديثــا بالعربية «العصــر الذهبي للأتراك» ترجمــة مجد صالح، من خلال التســاؤل حول كيف تصل المؤلفات التاريخية للجمهور؟ وفي ســياق الإجابة عنه، يــرى أنّ ذلك مرتبط بالمؤرخ، الذي عليه إنشــاء نص يمكن للجميع الاســتفاد­ة منه، بدلاً مــن التركيز على النصوص الأكاديميـ­ـة التــي بالكاد تُقرأ. ولــن يقف عند هذا الحــد، بل نراه في مقدمتــه لهذا المؤلَّف يؤكد على عدم ضرورة وجود أقســام لدراســة التاريخ، بل على الطلاب الصغار دراسة أقسام مثل الهندسة والطب والحقوق أو أي مجال آخر، وبعدها بســنوات يمكن للمهتمين إكمال دراساتهم العليا في هذا الحقل «لأنه أشبه بالجريمة، أن نأخذ شابا في الثامنة عشــرة من العمر ونجبره على دراســة التاريخ» بل يجب تنشــئته على الكتابة التاريخية بعد إدراكه لعدد من العلوم والأفكار الأخــرى، كمــا أنه يؤكد فــي هذا الشــأن على ضــرورة أن لا يقتصر اهتمامنــا على عالــم العثمانيين مثــا، وإنما يــرى أنّ أي إدراك له لا يكون، دون التأسيس لتاريخ عالمي مواز في المقابل، وهنا يبدو عاتبا بعض الشيء على المؤرخين الأتراك، الذين لا يدون اهتماما بتأسيس تاريخ ثقافي عالمي، بل يقتصرون في دراساتهم على دراسة المصادر المحلية.

الحكواتي الأكاديمي وتركيا اليوم:

وعودة إلى كتابه الاخيــر المترجم للعربية، والصادر بالتركية عام 2017، يظهر هذا المؤرخ الأكاديمي، حسـًـا حكواتياً يُحسد عليه ربما، فهو يقرر هنا الســفر بنا عبر عوالم الأتراك، ولأن طريقة الكتابة ظلت هاجســا مرافقا له، لذلك ســيعتمد هنا أسلوب الســؤال والجواب، بــدءا بغزوات المغول وتيمورلنك، وما أفرزته من ظروف لظهور قوى جديــدة، ومن بينها العثمانيون، ليقف بنا عند أبواب القســطنطي­نية )إسطنبول( عام 1453. يومها كان يقود جيوش الأتراك شاب صغير في العمر، 21 عاما، لكنه بدا آنذاك يعرف العالم بشــكل جيد، ولذلك نــراه في معركة غزو أو فتح هذه المدينة، لن يقتصر على الحديث عن مجريات المعارك، وما عرفته من لحظات طاحنة للعثمانيين فقط، بل

يكشــف لنا أيضاً أنّ أبناء المدينة الأصليين لم يسلموها بسهولة، بل قاتلوا بشراسة، حتى إنّ ملكها )قسطنطين الحادي عشر باليولوج( فضّــل أن يُقتــل مع جنوده عوضا عن تســليمها، ما دفــع الفاتح إلى إقامة مراسم دينية له، تقديراً لموقفه الشجاع.

والممتع في ما كتبه أورتايلي هنا، أنه سيقترب بنا أكثر من مشهد ما بعد الدخول، وشــخصية هذا الشاب الذي قاد المعارك وانتصر، قبل أن يأتي حفيده )سليم يافوز( وابن حفيده )سليمان القانوني( ليؤسســا لأكبــر امبراطوريـ­ـة إســامية وعالميــة فــي فتــرة القرن الســادس عشــر. ومما يذكره عن محمد الفاتح، أنه بعد أن استولى علــى المدينة جعلهــا عاصمة لــه، لكن المدينــة كانت بحالة ســيئة، لدرجة أنه لم يتمكن من المكوث فيها إلا بعد ســت أو ســبع سنوات، ولذلك أمر الباشوات بإعمار منطقة من المناطق، لكن بشرط أن يبني مسجدا صغيرا، وإلى جواره حمام وبعض الدكاكين، ثم أخذ الحي يتطور وأطلِق عليه اســم الباشــا الذي قام بإعماره مثل مراد باشا وإســحق باشا. كما سنّ بعد دخوله مراســم أخرى للقصر، فوضع مجموعة مــن القواعــد تنظم كيف يأكل الســلطان، وكيف يشــرب، وكيف يســتيقظ وينــام، كما رفض تنــاول الطعام مــع الآخرين من باب تمييز نفســه عن حكام العصور الوسطىن الذين كانوا يتناولون طعامهــم مــع جنودهم. كمــا نكتشــف أنّ الفاتح كان يــدرس تاريخ رومــا، وأنّ معرفتــه بإيطاليــا وجغرافيتها فاقت كل مــن يحيطه، و أتقــن العربية والفارســي­ة واللاتينية، كمــا أنه أقام علاقــات وثيقة مع علماء الإنســاني­ات فــي ذاك العصر. ولعل في إشــارة أورتايلي الأخيــرة هنا، رســالة مبطنــة عن الوضــع التركي الحالــي، إذ اعتاد في الســنوات الأخيرة على إرســال رسائل شــبيهة للرئيس التركي أردوغان، الذي عــادة ما يصفه مؤيدوه بـ»الفاتح الجديد» وكثيرا ما توضع صوره إلى جانب صــور تخيلية عن محمد الفاتح، بينما يبدو أورتايلي من خلال أســلوب الحكواتية، الذين كانــوا أحياناً ينقلون واقعهم اليومي، ويرسلون رســائل نقد للسلطات المحلية في زمنهم عبر سير الأبطال الشــعبيين، وكأنه يقول إنّ الرئيس التركي، خلافا للفــاتح الأكبر، ليس قريبا اليوم من علماء الإنســاني­ات، وإنما أحاط نفســه برجال الأعمال ورفاقه المطيعين، بينما أزيح المثقفون الأتراك وأفكارهم عن دائرته ورؤيته لتركيا الحالية.

٭

 ??  ?? محمد الفاتح
محمد الفاتح
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom