Al-Quds Al-Arabi

متى نُشاهد فيلماً عن «العشرية السوداء» في الأوسكار؟

-

■ أفرج عن قائمة الأفلام الُمرشحة للأوسكار هذا العام، وتضمن صنف الأفــام الأجنبية فيلم «أين تذهبين، يا عايدة؟» للبوسنية ياسميلا جبانيتش. تعود المخرجــة في عملها الأخيــر إلى صيف 1995 الذي شــهد مجزرة سربرينيتسـ­ـا، من خلال تتبع يوميات شــخصية عايدة )ياســنا دروجيتش(، التي تعمل مترجمة في ثكنة قوات حفظ السلام في سربرينتسا، التي كانت تشــغلها وحدة عسكرية هولندية.

ينطلــق الفيلم من لحظة اجتيــاح جيش صرب البوســنة للمدينة، وتفرق النــاس هرباً إلى غابة مُجاورة، بينما فضل الآلاف منهم الاحتماء بقاعدة قوات حفظ الســام، مصرة علــى تركيز كاميرتها في عديد المشــاهد على شــخصية الجنرال راتكو ملاديتش، قائد جيش الصــرب، الذي خطط لتلك الجريمــة، ممتثلة للتفاصيــل التاريخيــ­ة، وإلى واقعته الشــهيرة حــن ظهر وهو يــوزع الحلوى علــى ضحاياه، قبل أن يغدر بهــم. كما لم يفتها في «أين تذهبين، يا عايدة؟» الإشــارة إلى الميليشيات الموالية للصرب، التي قدمــت خدماتها في مذبحة راح ضحيتهــا ما لا يقل عن ثمانية آلاف شــخص. بينمــا قلــق عايدة يتصاعــد، على طــول الفيلم، في محاولاتها إقنــاع الهولنديــ­ن توفير الحماية للســكان، وإجلاء زوجها وابنيها، تظهر شــذرات من ذلــك التاريخ الدامي لسربرينتسـ­ـا، نشــاهد ملاديتش وجيشــه وهم يقتحمونها، مع أن البلدة كانت ضمن المناطــق المحمية، لكن ســوء فهم بين قوات حفظ السلم، وســوء تنسيق أوجدها تحت رحمة القتلة، ولم تسرف ياســميلا جبانيتش في شرح أسباب احتلال المدينة، والخلفيات التاريخية لذلــك الأمر، ملحة على حصر ســيناريو الفيلم في الممهدات التي ساقت إلى تلك المجزرة، قبل أن ينتقل الفيلم في نهايته إلى مشهد عايدة وهي تبحث عن رفات ابنيهــا وزوجها، بين أكــوام العظام التي لم يتعــرف الناس على هوياتهــم، إلا بعد إخضاعهم لتحليل الحمض النووي.

وثّقت ياســميلا جبانيتش فــي فيلمها واحدة مــن أفظع لحظات حرب البوســنة والهرســك في تســعينيات القــرن الماضــي، ومن يُشــاهد «أين تذهبين، يا عايدة؟» لاســيما المشاهد الجزائري، لا بد أن يخطر على باله مشــاهد مــن مجازر مماثلة، في بن طلحة والرايس وغليزان وغيرها، ويتبادر الســؤال في هذه اللحظة: لماذا نجح البوســنيو­ن في التصالح مع ذاكرة حربهم الداخلية، وحولوها إلــى صور وأفلام، بينما نحن فــي الجزائر نجحنا في طمر تلــك الذاكرة، كما لو أن شــيئاً لم يحصل في التســعيني­ات؟ بينما مجتمعات تداوي محنها باســتعادت­ها في الصورة ومناقشــته­ا، نســتمر فــي الجزائر فــي محوها قســراً كي تظــل ذاكرة التســعيني­ات، أو ذاكرة «العشــرية السوداء» كما يُطلق عليها، تطوف في العقول سراً، تشوش علينا النظر إلى أنفسنا وإلى حاضرنا.

من عنوان الفيلم، أفصحت ياســميلا جبانيتش عن نواياها، فقد اعتمدت عنواناً باللاتينية، مقتبساً من التراث المسيحي، وجملة «أين تذهبين؟» وردت في المســيحية بصيغــة المذكر، حين ســأل بطرس اليســوع عن وجهته، فأجابه بأنه ذاهب إلى روما كي يُصلــب مرة أخرى، كما أن هــذا العنوان ليس موجهاً إلى بطلــة الفيلم وحدها، بــل يتوجه إلى أهل سربرينتســ­ا بأكملهم، الذين لا يزالون عالقين في تاريخ تلك المجزرة، التي لم يشفوا منها، فوجه المدينة لا يزال نفسه لم يتغير، في واحد من المشاهد يظهر ضحايا محبوســون في قاعة كبيرة أشــبه بقاعة ســينما، أفرغت من كراســيها، وهو مكان لا

يزال قائماً لحد الساعة وقد تحول إلى مركز ثقافي، بل إنه يقيم كل عام مهرجاناً محلياً للسينما، حيث سال دم الضحايا، يحييه أناس خلفوهم. ركز «أين تذهبين، يا عايدة؟» على الجنرال ملاديتش، الذي انتهى أمره في محكمة لاهــاي مداناً كمجرم حرب، توظف المخرجة مشــهداً مهماً، حين تصادف عايدة على بــاب ثكنة قــوات حفظ الســام، جندياً من قوات صرب البوسنة، يســألها عن حالها ويتودد إليها، بينما رفاقه يشــحنون الحافلات بالمسلمين البوسنيين، قصد تصفيتهم، نعرف من محادثتهما أنه كان تلميذاً عندها وأنها كانت مدرســة، ونفهم بالخصــوص أن القاتــل والمقتول حينــذاك كانا جيرانا وأصدقاء، كانت حرب أخوة، ألا يوجد شبه في هذا التفصيل مع ما حصــل في الجزائر في ذلك الوقت، تحديداً من منتصف التسعينيات؟

لا نكف طوال الفيلم عن الركض بصحبة عايدة، التــي حملــت الفيلم علــى كتفيها، وهــي تحاول قدر المســتطاع تجنيب عائلتها ركــوب الحافلات التي قــادت الضحايا إلى المجزرة، مســتفيدة من بطاقتها المهنية، كونهــا مترجمة لدى قوات أممية، تترجم كلام العســكريي­ن الهولنديين، غير مقتنعة بما يقولون، تعلم أنها كانــت تكذب عن أصدقائها وعن أقاربها، الذين كانوا ينتظرون قدرهم، فهمت عايدة مثلما فهم البوسنيون صيف 1995 أن العالم قد تخلى عنهم، فهل يأتي ترشيح الفيلم للأوسكار بمثابة اعتــذار مبطن؟ مع أن حالة البوســنيي­ن لا تختلف عن حالة الجزائريين، الذين تغاضى عنهم العالم في ســنين الجمر في تلك الفترة عينها، لكننا في الجزائر لم نهتم كثيــراً بكاميرا تعيد تصوير ما جرى، وبقيت الأفلام الجادة التي قاربت العشرية السوداء تعد على الأصابع.

منذ اللقطــات الأولى من الفيلــم يرتفع الإيقاع بشــكل متســارع، عايدة في محاولاتها البائســة قصد إنقاذ مــا يمكنه إنقاذه، والآلاف من ســاكنة سربرينتســ­ا ينتظــرون منتهاهم علــى يد جيش ملاديتش، قــد نتوقع في لحظة مــن اللحظات أن معجزة سوف تحدث، أن تتدخل يد إلهية، في إنقاذ الأطفال والأبرياء، لكن لا شــيء يحدث، كل شيء كان مخططــاً له مــن طرف صرب بوســنة، بل إن قوات حفظ الســام كانوا أنفسهم ضحايا، لا حول لهم فــي تغيير ما نوى عليه الجلاد، تســير الأمور نحن المجزرة، والمقابر الجماعيــة، وينتهي مصير بوسنيين إلى ما انتهى إليه مصير جزائريين، علقوا في حرب لا شأن لهم بها، سال دمهم، لكن الضحايا في البوسنة والهرسك، نالوا حظوة أن هناك من لا يزال يتذكرهم، عكس الجزائريين الذين دفنا جثثهم ومعهم ذكراهم، ومن يُغامر بالكتابة عن العشــرية السوداء، أو تصوير عمل عنها، سوف ينتصب في وجهه جيش من المتناغمين مع جوقة الســلطة، أن تلك المرحلة للنسيان، ويجب عدم العودة إليها ولا إحياء جراحها، متغاضين عــن أن جراحها لا تزال ماثلة أمام الأعين ما لم نوثقها أو نجابهها بأســئلة ونقاشــات حية، لا أن نســارع فــي وأد صوت من يُبادر إلى استعادتها.

 ??  ?? «مشهد من فيلم أين تذهبين يا عايدة»
«مشهد من فيلم أين تذهبين يا عايدة»
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom