Al-Quds Al-Arabi

الناس في صعيد مصر

- كاتب مصري

■ لا أعــرف لماذا هذا الميــل الذي في روحي ناحيــة صعيد مصر. منذ الطفولة كنت أسمع كلمة صعيدي تتناثر حولي بين الكبار. كثيرا ما كانوا يقصــدون بها أصله، باعتباره من الصعيد كما نقــول باختصار. القائل عادة لا يعرف أن الصعيد من الصعود وجنوب النيل أعلى من شــماله. لكنها ارتبطت باللكنه التي تختلف عن لكنة أهل الإســكندر­ية وعن أهل الدلتا، لكن كثيرا مــا ارتبطت بالبؤس، في الوقت الــذي كانت الوكالة وهي الســوق الكبير في الإســكندر­ية في منطقة الحضــرة كل تجارها صعايدة. ومن ثم لم يكونوا كلهم فقراء.

شــاع الحديث أن الصعيدي يأتي إلى المدينة فيعمل في البناء وحمل المونــة، ويقتات المش، ثم ينتقل إلى البيع في الطرقات، ثم إلى فتح محل صغير ثــم إلى التجارة في الوكالــة. كان النوع الأخيــر أنيقا طبعا في ملبســه بما يتفق مع حالته. كان الصعايدة عــادة هم مادة الضحك فكل النكت التي سمعتها كانت عنهم، وصارت معظمها ولا أدري لماذا مرتبطة بســوء الفهم، ولم أكن أرى هذا فيهم أبدا، لكنه أمر شــائع في كل الأمم، فهناك دائما مدينة أو مكان تشيع عنه النكت.

لم أكن أعرف أني سأرى الصعيد يوما، حتى شاءت الظروف أن أعمل في الثقافة الجماهيرية فــي وزارة الثقافة، فطفت تقريبا بكل المحافظات من الفيوم إلى أسوان في السبعينيات والثمانينا­ت. وجدت جوار المدن الشهيرة التي تسمي المحافظة باسمها، قرى يغلب عليها فقر شديد وعلي أهلها أكثر مما رأيت في الإســكندر­ية أو فــي الأفلام، وأدركت كيف كانوا يستخدمونه للنفي أو الهروب يوما ما. شغلني الصعيد، وتابعت بعض الكتب التي كتبت عنه وعن أيامه مثــل كتاب «عجائز البلدة» لعمارعلي حســن، الذي يتحدث فيه عن الآلات والأدوات التي كانت تستخدم في البيوت الريفيــة مثل، الحصير والنــورج والربابة والزيــر والطنبور والمصطبة والَمنقَد والكانون والطشــت، وغير ذلــك الكثير، وكتبت عنه هنا. عشــت سنوات الســتينيا­ت من القرن التاسع عشــر مع الصعيد، وأنا أقوم بترجمة كتاب لوســي دوف جوردون «رسائل من مصر» حيث عاشــت في الأقصر. البؤس الــذي رآه أهل الصعيد في عهد إســماعيل باشا.. وهناك كتب أخرى كثيرة.

جــاء هذا الكتاب فــي طريقي وهو للباحث أيمن زهــري، الخبير في الدراسات الســكانية وصاحب أكثر من كتاب ما بين الرحلات والرواية وأحــوال المجتمع، الكتاب عنوانــه «الناس في صعيد مصــر ـ ذكريات الطفولــة» الصادر عن دار جزيــرة الورد في القاهرة. هو ســيرة لأيام الطفولة، طفولته كانت في الســتينيا­ت والسبعينات من القرن الماضي. لا يذكر اســم القرية لتكون في ما يبدو دليلا على غيرها. نال أبوه قسطا من التعليم جعله مدرســا وجمعته الظروف بأمه التي نالت قســطا من التعليم الثانوي في القاهرة وعاشــوا في بيــت الجد لأبيه في الصعيد. يصف البيت ومما يتكــون ويحتوي، لكن بين الوصــف يقول لك كانت الطيور تتنقــل بحرية بين الطابــق العلوي والســفلي. البيت يقع بين الحقول ولم يكن التيــار الكهربي وصلها بعد، والراديو يعمل بالحجارة الطورش ـ البطارية - والماء يصل مع الســقا الذي يحمل قربة مصنوعة من جلد المعيز. وما يســمى بالشارع هو ما تتواجد فيه المحلات التجارية تبيع السجائر والدخان والأدوات المدرسية والمشروبات الغازية وبينها البيرة. يمكن أن تتبسم بســبب البيرة لكن هذا كان عاديا في كل مكان، كان معظــم البيع على النوتة أي آجلا! ولم تكــن هناك أفران لبيع الخبز فكان يتم عمله في البيت «الخبز الشمســي» المصنــوع من القمح، بينما البيوت الفقيــرة تخبز «البتاو» المصنوع من الــذرة العويجة المخلوطة بالحلبة، المقاهي مسرح العلاقات الاجتماعية، كما يسميها، فيها الأكواب وغيرها يتم غســلها في جرادل بالمياه نفســها. الجلــوس على الحصر والشاي يتم على موقد من الكيروســن، ولا يشذ عن ذلك سوى مقهيين فيهما دكك للجلــوس وراديو حتى ظهر التلفزيــو­ن. الحلويات لم تكن بالتنوع الذي هــي عليه الآن فكانت طبيعية مثــل البلح والنبق ونبات أشــبه بالعنب اســمه عنب الديب والفاكهة الأخرى شــحيحة. البطيخ والشــمام يبــاع بالقطعة وثمنهــا تعريفة، أي نصف قرش، لأن ســعر البطيخة غال عليهم. في المحلات يباع الملبن وقطع الحلاوة السمســمية والحمصيــة وبســكويت مصر والطوفــي، ولم يكن وقتهــا أحد يعرف شــيئا عن تاريخ الإنتاج والانتهاء. كانت هناك حلاوة موســمية ليست البسبوســة والجاتوه والتورتة، لكنها البسكويت والغريّبة في الأعياد والكعك. كانت هذه هي حلويات الأفراح تضاف إليها فطيرة اســمها «أم الشــعور» من القمح، وكان من طقوس العيد تنــاول البلح المحفوظ في الأزيار والبلاليص والفول السوداني.

ثم يصف لك ســوق الخميس الذي كان فرصــة لبيع الأدوات المنزلية والزراعية والأقمشــة وبضائع نســائية، مثل «بنس» الشــعر والمرايا وغيرها، وفي آخر السوق مكان لبيع الماشية والحمير والماعز والخراف. كانت صعوبة الحياة تجعل الكثيريــن يعملون عمال تراحيل، أو أُجراء لدى الغيــر، وحتى طلبة المدارس يرحلون للقاهــرة في الإجازات ليس للترفيه، لكن للعمــل مع أقاربهم كباعة جائلين. من الجميل أن العادة في الأكل في المســاء كانت غالبا أمام البيوت، التي رغم الفقر فالطعام متاح لعابري الســبيل. لم تكن هناك مشكلة للتخلص من بقايا الطعام لأنه لم تكن هناك مخلفات، وإذا وجدت فتكون للدواجن. لا ينسى الأصوات من الطبيعة والشجر أو الحيوانات، مثل خوار البقر لكن صوت الطنبور كان إضافة وصوت وابور الجاز. يتحدث عن مناسبة ختانه، وكيف جلست أمه في الطابق الثاني مشــعلة وابور الجاز حتى لا تســمع صراخه وهم يختنونه. أما الصــوت الآخر الذي ارتبط به فهو صوت ماكينة الخياطة ماركة سنجر، وكانت هي الشهيرة ذلك الوقت، وكانت جزءا من جهاز أمه في الزواج. يتحدث عن دخوله الحضانة في الوحدة المجمعة في القرية، وكانت ســيدة مسيحية تسكن في شــق النصارى تصحبه ذهابا وإيابا فينقله إلى ما كان يســمع عن النصارى، من أنهم لا يستحمون ومزيتين، أي بهم رائحة الزيــت، لأن صيامهم عن الأطعمة غير النباتية مثل اللحم والســمن فكان طعامهم بالزيــت، لكن كانت العلاقــات طيبة والتلاميذ المســيحيي­ن أشــطر دائما، وكانت لهم محلات يرتادها للشــراء. كانت الحمير هي أكثر وسيلة مواصلات والانتقال بين المحافظات بالقطار حتى ظهرت سيارات البيجو 504 التي تتسع لســبعة أشخاص، لكن الفقراء ظلوا مع القطار، الذي مع التكدس الســكاني فقد رومانسيته. طبعا هو يتحدث عن قطار الدرجة الثالثة الذي كان بالفعل جحيما.

يبدأ الصيــف والإجازة المدرســية فتنتقل الأم والأب والأســرة إلى المحروســة، القاهرة، حيث عرف مجلات الأطفال. كان كثير من الرجال يهاجرون للقاهــرة بحثا عن عمل ومــن الخطابــات التقليدية خطاب الزوجات إلى الأزواج «نشــتاق إليك كما يشتاق الزرع للماء ولا ينقصنا إلا رؤياك، ونعرفك أننا بعنا القطنيات وأخوك محمد حيدخل على العيد – الدخول هو الزواج وكان عادة في موســم جني القطن - وأن الفلوس اللي بعتهــا مع زكريا وصلت إلــخ إلخ.» طبعا هذا قبل الســفرللخ­ليج وظهور شرائط الكاسيت وإرســالها مع الخطابات، أو بديلا عنها. بدأت إعارة المدرســن للخارج وهــي كما يصفها بجمال فتــرة معبأة برائحة النفط والــدولار­ات والنظارات البيرســول وحقائب السامســون­ايت وفانيلات المونتيجو الفرنسية. أعير والده إلى ليبيا عام 1975 وكان هو في السادسة الابتدائية وأخذهم معه، ودخل المرحلة الاعدادية هناك لكن أمه ماتت وهي تلد مولودا جديدا. عادوا في رحلة صعبة من مطار ســبها إلى بنغازي إلى أثينا إلى القاهرة، بجثمان أمه، بينما أبوه يحمل المولود الحي في مشــهد مؤثر لأن القطيعة كانت مع مصر، بعد معارضة القذافي لعملية السلام بين مصر وإسرائيل.

أفكار كثيرة في الكتــاب لكن الروح الروائية فــي التصوير والحكي تجعلك مستمتعا بالقراءة وأنت تنظر حولك قائلا هل أنتهي هذا كله حقا في مصر؟ أم لا تزال للبؤس أشكال أخرى في الصعيد.

 ??  ?? إبراهيم عبد المجيد ٭
إبراهيم عبد المجيد ٭

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom