Al-Quds Al-Arabi

حرب على النيل

- ٭ كاتب مصري

■ جفت الأقــام وطويت الصحــف، ولم تعد من قيمــة كبيرة ولا صغيرة لتكرار الكلام المعاد المزاد عن مفاوضات سد النهضة الإثيوبي، ولا عن وســاطة رباعية دولية من الاتحاد الافريقي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحــدة والأمم المتحــدة، دعت إليها الســودان ثم مصر، وكررت إثيوبيا رفضها مرارا، وعلى لســان آبــي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي نفســه، وأصرت على رعاية الاتحاد الافريقي وحده، وهو لا يملك فرصة الفصل في نزاع مصر والســودان علــى النيل مع إثيوبيا، وفشــل تماما في عام ولاية ســيريل راما فوزا رئيــس جنوب افريقيا، ولا يبدو دوره المحتمل أفضل، مــع انتقال الولاية الدورية إلى فيليكس تشيســكيدي رئيس الكونغو الديمقراطي­ة الأقرب سياســيا إلى مصر والسودان.

وما من معنــى مضاف لتكرار التأكيد على تضرر مصر والســودان كارثيا من الســد الإثيوبي، المقرر له احتجاز نحــو 74 مليار متر مكعب من المياه عبر ســنوات ملء خزانه، الذي تقــول إثيوبيا إنه ضروري لتوليد الكهربــاء، وبقيمة إجماليــة تدور حول ســتة آلاف ميغاوات ســنويا، ثم تتحدث اليوم عن أوهام ســيادة على النيل الأزرق، وعن حقها في التصــرف بالمياه، مع أنها تفشــل بالاســتفا­دة من نحو ألف مليار متر مكعب مياه أمطار تســقط عليها ســنويا، ومــع أن نهر النيل أطول الأنهــار الدولية، وتحكمه كغيره اتفاقات مياه أممية، ثم اتفاقات الأطراف المعنية نفســها، التي يحلو لأديس أبابا تســميتها بالاتفاقات الاســتعما­رية، رغم أن إثيوبيا لم تكن مستعمرة وقت توقيع الاتفاقات البينيــة، وأهمها اتفاق 1902، الــذي وقعه مينليــك الثاني امبراطور إثيوبيا، وكان الطرف الثاني ســلطة الاحتلال البريطاني الحاكم لمصر والســودان وقتها، وجرى بالاتفاق اقتطاع مســاحات من السودان، أهمها منطقة «بني شــنقول» المقام عليها الســد اليوم، وتقديمها هدية لامبراطور إثيوبيا مع أكــداس من الذهب، في مقابل امتناع أثيوبيا عن إقامة أي ســدود أو إعاقات على منابع النيل، وإعطاء مصر والسودان «حق الفيتو» على أي إنشاءات إثيوبية تعوق جريان النيل.

ثم جــرت في النهــر والسياســة مياه كثيــرة، ورحــل الاحتلال البريطاني، وجاء الاســتعما­ر الأمريكي الجديــد، ليرث امبراطوريت­ه، وحرصت السياســة الأمريكية المعادية لعصر جمــال عبد الناصر على خنق مصر نيليا، وحرّضت إثيوبيا على إقامة سد عند المنابع عام 1958، وهو ما لم يتم بســبب صلابة عبد الناصر، ومكانة مصر العظمى وقتها في ســيرة الكفاح الافريقي، واســتمر التأثير الحاكم للموقف المصري بالقصــور الذاتي، عبر عقود بعد رحيل عبد الناصر، إلى أن كادت مصر تفقد تأثيرها الافريقــي تماما، وبالذات بعد محاولــة اغتيال الرئيس الأســبق المخلوع حســنى مبارك في أديس أبابا، أواســط تسعينيات القرن العشرين، دبرت المحاولة جماعة عمر البشير الرئيس السوداني المخلوع أخيرا، ووجدتها إثيوبيا فرصة لابتزاز واستتباع حكم البشير المحاصر، واســتولت فعليــا على مناطــق «الفشــقة» الخصبة داخل حدود الســودان، وأطاحت بنصوص اتفاق 1902 لترسيم الحدود، ثم اســتثمرت عزلة مبارك افريقيا، وتزعمت عمليــة تحريض دول منابع حوض النيل، وعقد «اتفاق عنتيبــي» عام 2010، الذي يلغي الاعتراف بالحقوق التاريخية المقررة، وهو ما رفضت مصر والســودان التوقيع عليه، وكان الاتفاق المذكور توطئة لإقامة السد الإثيوبي، الذي تعددت تسمياته من سد الحدود، إلى سد الألفية إلى سد النهضة، وزادت طاقة تخزينه المقررة مرات، ومن دون أن تكون ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، كما يشــاع هي السبب، فقد بدأ الخلل في زمن مبارك الراكد، وإذا كان حجر أســاس الســد وضع في أوائل 2011، فلم يبدأ البناء فعليا، إلا فــي عام 2013 وقــت حكم الرئيــس الإخواني محمد مرســي، ولم تصادق إثيوبيا برلمانيا على «اتفــاق عنتيبي» إلا في أوائل عام 2013، مع ردود أفعال كاريكاتيري­ة من ســلطة الحكم المصري وقتها، أشــهرها عبث اجتماع تهديد هزلي مذاع على الهواء مباشــرة، استغلته إثيوبيا لمزيد من الترويج لما ســمته عجرفة وعدائية المصريين، ومع زوال حكم الإخــوان بثــورة 30 يونيو/حزيــران 2013 وما تبعهــا، ومخاضات التحول العنيفة في مصر، ذهبت القاهرة للتوقيع على «إعلان مبادئ» فــي مــارس/آذار 2015، لا يعترض من حيــث المبدأ على إقامة الســد الإثيوبي، ويدعــو لمفاوضات مصرية ســودانية إثيوبية حول مراحل ملء وتشغيل وإدارة السد، وباتفاق قانوني ملزم، يضمن عدم الإضرار البالغ بمصالح مصر والســودان المائية، ويتيــح للأطراف الثلاثة حق طلب الوســاطة على طريقة وســاطة أمريكا في زمــن دونالد ترامب، التــي انتهت إلــى اتفاق وقعت عليــه مصر وحدها فــي أواخر مارس 2020، بينما انســحبت إثيوبيا، وامتنعت السودان وقتها عن التوقيع، ثم جرى اســتئناف جولات تفاوض متقطعة برعاية الاتحاد الافريقي، بعــد أن خرقت إثيوبيا قواعد إعلان المبادئ، وشــرعت في الملء الأول لخزان الســد، ومن دون اتفاق الأطراف المعنيــة، وهو ما أدى لعواقب فادحة على الســودان بالذات، دفعت الخرطوم إلى تنسيق موقفها مع مصر، والتصميم على عدم الســماح بالملء الثاني من دون اتفاق، وهو الملء المقرر إثيوبياً خلال موســم الأمطار في يوليو/تموز 2021، أي في الموعد نفسه، الذي جرى فيه الملء الأول أواسط 2020، ورغم اعتراض القاهــرة والخرطوم، تبــدو أديس أبابا مصممة على المــلء الثاني في موعده، باتفاق أو بدون اتفاق، وهو ما يزيد كمية المياه المحتجزة خلف الســد الإثيوبي إلى 18 مليار متر مكعب، وبما يهدد حياة نصف الشعب السوداني، ويؤثر بشدة في تدفقات مياه النيل إلى مصر، والأخيرة هي الأكثر اعتمادا على مياه النيل، وبنســبة تزيد على تسعين في المئة من إجمالي مواردها المائية، وقد نزلت مصــر إلى ما تحت خط الفقر المائي من ثلاثة عقود مضت، أي منذ كان عدد ســكانها عند 55 مليونا ونصف المليون، فنصيب مصر المقرر مــن مياه النيل يبلغ 55.5 مليار متر مكعب ســنويا، وخط الكفاف المائــي دوليا عند حدود ألف متــر مكعب للفرد الواحد سنويا، وعدد ســكان مصر اليوم يمضى إلى الضعف، ويقترب من حاجز المئة مليون والعشرة ملايين فوقها، وهو ما يعني بلوغ مشكلة المياه في مصر حدود اختناق حرجة، لا تحتمــل أذى مضافا يأتيها من التعنت الإثيوبي.

المــراد إذن ظاهر بغيــر التباس، وهو وضع رقبــة مصر والمصريين تحت حد الســكين، وقد تختلف أو تتفق مع الحكم الحالي، لكن مصريا وطنيا واحدا، لا يقبــل تعطيش مصر، ولا انتقــاص قطرة واحدة من مياه النيل، فالقضية أكبر من كونها مسألة أمن قومي، إنها قضية وجود بالمعنى الكامل للكلمة، قضية حياة أو موت، وقد جرّبت مصر الرســمية كل وســائل الاتفاق بالحســنى، وأوضحت للمجتمع الدولي مخاطر ما يجري، وبح صوتها وهي تشــرح وتنبه وتحذر، ولم يعد لديها سوى ســبيل آخر، ربما يفســره تصاعد مطرد للهجة المصرية الرســمية في الأســابيع الأخيرة، وظهور مصطلحات دبلوماســي­ة جديدة من نوع «لن نقبل بفرض الأمر الواقع» في إشارة مباشرة إلى عدوانية السلوك الإثيوبي، ومن نوع إعلان الرئيس السيســي نفسه أنه «لا تفاوض بلا نهايــة» وهو ما قد يعني أننا نقترب من حافة الهاوية، وأن الحرب التي لم تكن تريدها مصر، قد تفرض عليها، مع استكمال محسوس وضمني لاســتعداد سياســي وحربي، جرى تحصينه باتفاق مصري سوداني كامل، وبوضع «خط أحمر» جديد عند منابع النيل، فقد كان بوسع مصر دائما أن تضرب الســد المشــؤوم، وكانت تعرف دائما من وراء التعنت الإثيوبي، وتديــر تحركا ذكيا في الكواليس، وتعــدد بدائلها الميدانية اللازمة في لحظة الحســم، وتدرك مدى هشاشــة التكوين الإثيوبي، وتعرف كل شــاردة وواردة في إثيوبيا المفككــة المتحاربة عرقيا، وإلى أن بدأ العد التنازلــي في القصة كلها، واقتربت ســاعة الصفر، فليس عند المصريين أغلى ولا أعز من النيل، وطوال تاريخ مصر الألفي الممتد، لم تدم شــرعية بقاء لحاكم يفرط في مياه النيل، ولم يفعلها أحد وراح سليما منذ عهود الفراعنة، ولا يملك أحد ترف ونزق فعلها، إلى أن يرث الله الأرض، ولم يعد من وقت لعتاب ولا لحســاب في ســلوك ومراحل التفاوض العبثــي، وأصبح وجود مصر اليوم أمانة في رقبة جيشــها وقيادته العليا، بعد أن جرى استنفاد كل سبل الدبلوماسي­ة والسياسة، وانتهينا إلى إعلان حرب خنق مصر من الباب الإثيوبي، ولم يعد لمصر ســوى أن تردّ العدوان وتردعــه، وأن تكتب مشــهد الختام في حرب النيل، إلا إذا تراجعت إثيوبيــا فجأة، وقررت تأخير الملء الثاني لحين التوصل إلى اتفاق ملزم وشامل، تقبل به الخرطوم والقاهرة.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom