Al-Quds Al-Arabi

كم عمر الكذب؟ النظام المصري بين الترهل والأزمات الكاشفة

- ٭ كاتب مصري

■ الصــورة، تلك اللقطة الثابتة فــي الزمــن التي نؤطرها وقد نكبّرها ونســلط الضوء عليها ونصيح بأعلــى أصواتنا للفت الأنظار إليها، فهي واجهة دكاننا وبضاعتنــا التي نروج؛ الصــورة والانطباع، الذي ننجــح إلى هذا الحد أو ذاك في خلقه وغرســه في أذهان من حولنــا، وأحياناً في أذهاننــا نحن بصورةٍ شخصية، شد ما نحتاج إلى ذلك.

الصورة أولاً، وفي عالم السياسة والمكانة الدولية، فــإن قيمة الصــورة والانطباع لا تقدر بثمــن، فعــن طريقها تتخلــق الهيبة ويســتقر النظــام ويترســخ النفــوذ، فلا يســتطيع نظــامٌ ولا يملــك طاغيــةٌ طموح ورفاهية أن يبــدو ضعيفاً، أو يخلق انطباعاً بانعدام القدرة والكفاءة، ولعل ذلك يفســر كثيــراً من الضربــات الســريعة، وعمليات الاغتيال والتخريب، التي تلجأ إليها أنظمةٌ، كالإيرانية والكيــان الصهيوني، لبث الرعب والتأكيــد علــى الهيبــة للإبقــاء على هذه الصــورة، وما لجأت إليــه أنظمة البعث في طبعتيها الســورية والعراقية مــن تصفيةٍ للمعارضين في الخارج، وما لجأ إليه ســابقاً على ســبيل المثــال، الاتحاد الســوفييت­ي، والكتلــة الشــرقية حينهــا مــن عــروضٍ عســكريةٍ، وعملياتٍ مخابراتية صار بعضها شهيراً لإخفاء الفشل والصدأ.

الصورة أولاً ولكن ليس آخراً، وبالتأكيد ليــس للأبــد، إذ آجــاً أو عاجــاً، وما لم يكــن ذلــك البلد في كوكــبٍ معــزول، فإنه ســيُختبر، وســتتعرض قدراتــه الحقيقية للتحــدي والامتحــا­ن، خاصةً لــو كان في بقعةٍ ســاخنةٍ ومهمةٍ مــن العالم، وقد يتبين أن تلــك «الصورة» قديمةٌ للغاية، شــاخ من

فيهــا وترهلوا، ناهيك مــن أن تكون مفبركة في بعض جوانبها، أو من الأســاس، عبثت بألوانها وتفاصيلها يد مزورٍ محترف.

والشاهد أن السيســي لم يأت بانقلابه، إلا وقد تعرضــت «صورة» مصر المســتقرة القادرة، لاختبارٍ عنيفٍ هزها حتى الجذور، في نظر كلٍ من مواطنيها والعالم الخارجي، ويكفي أن نقرأ ما تراكم من شهاداتٍ للساسة الأمريكيين، إما في صورة مذكراتٍ أو تسريب لندرك كــم الدهشــة التي ســيطرت عليهم لمرأى حجم السخط وتضعضع النظام الذي حســبوا منظومته الأمنية الضخمة منيعةً؛ على ضوء ما تكشف من كم التبديد والسرقة والفســاد، أفاق المصريون على واقعٍ بائسٍ مترهلٍ رث، يتناقض مــع صورة الذات التي يعتزون بها، وربما تشكل السلوى الوحيدة في واقعٍ لا تني صعوبته تزداد، وتســحقهم بمنتهــى القســوة والخشــونة، خاصةً في ظل أزمات الكهرباء والوقــود وغياب الأمن )المصطنع جلها( ثم جاء تحدي الإرهاب )في سيناء بالأخص( ليؤكد أن الضعف والترهل وانعدام الكفاءة، طال المؤسســة العسكرية الضخمة، التي تبتلع قدراً ضخماً من ميزانية الدولة.

منــذ البداية أدرك السيســي كــم الضرر النفســي الذي لحق بالناس نتيجةً لاهتزاز )وربما ســقوط( هذه الصــورة، فعمد إلى اللعب على هــذا الوتر مفرط الحساســية، متملقــاً ذلــك الاحتيــاج النفســي للعــزة والمكانــة، واعداً بمصــر «قد الدنيــا وأكبر من الدنيا» وســلك الطريق الأســهل فاندفع يبني مشــروعاتٍ ضخمــة، تــرمم الهيبة، وتداوي الذات الجريحــة وإن كانت ضئيلة الجــدوى، أو منعدمتهــا، وعلــى رأســها التفريعة الجديدة لقناة الســويس، وأغرق الناس بإعلامٍ ومسلســاتٍ تصب في القناة نفسها. كما في الاقتصاد رُدم العجز الضخم والمتنامي بالاســتدا­نة، فقد ردمت الهوة بين الواقــع الحقيقي المترهل، والقــدرات الكلية المتواضعــ­ة بالكذب والكذب، ثــم المزيد من الكذب، مشفوعاً بسيطرةٍ كلية على كل منافذ الإعلام، وصل حد الشــراء الفعلي والتملك لها والدعوى الصريحة «ما تســمعوش كلام حد غيري» أي كذبٌ واحتــكارٌ تام للرواية، بحيث تتســيد واحدةٌ فقــط: رواية النظام الذي أســكت وحبــس الأصــوات الأخرى، بما قد يكــون لديها من رواياتٍ وشــهاداتٍ ورؤىً مغايرة. في السياســة الخارجية لجأ السيسي، المحافظ مزاجاً ومن ثم نظاماً، إلى الحذر حتى فــي عداواته، فاختار أن يضرب في ليبيا حيث التكلفة بسيطة والعائد كبير، من حيث ترميــم «الصورة» والهيبة والمكانة في الإقليــم، إلا أنه لم يتورط في اليمن مثلاً؛ ربما أوشك على الاندفاع إلى المستنقع الليبي، لما تشــكله تلك الحــدود الطويلة والعلاقات المتشــابك­ة المتداخلة من ضغطٍ محتملٍ على نظامه، ومن ثم أعصابه، لاســيما في ضوء العداوة )التي صــارت شــخصيةً أحياناً( بينه وبين إردوغان ودعمه لجماعة الإخوان المســلمين بقنواتها الإعلامية، التي تبث من تركيا مشــككةً وكاســرةً لاحتكاره الرواية، ومن ناحيةٍ أخرى لما تمثله السوق الليبية من فرصةٍ للاقتصاد المصري، والعمالة الفائضة، إلا أنه توقف أو أوقف بمعنى أدق.

يجوز أن النظام صعد وزايــد كلامياً، إلا أن ذلك لم ترافقه إجــراءاتٌ عدائية حقيقية ومكلفــة فــي أي جبهــةٍ، فاســتمر التبادل التجاري مع تركيا على ســبيل المثال الأقرب والأكثر دلالةً؛ لقد اختار السيســي ألا يحرج نفســه ويفضــح الوضــع الحقيقــي لمصر،

ريثمــا يتمكن مــن ترميم نظامــه، ولما كان العالم الخارجــي والغرب تحديــداً، وعلى رأســه الولايات المتحدة مشــغولٌ في المقام الأول بالتحــدي الآتي من الشــرق الأقصى ومن الصــن بالأخص، فقد اتفقــوا جميعاً، شــرقاً وغرباً، في إجماعٍ شحيح على تثبيت الأنظمة، انطلاقاً، إما من قناعةٍ ترفض فكرة التغييــر الثوري كالصين وروســيا مثلاً، أو لاســتنتاجٍ بأن هذه الشعوب لا يلائمها، ولا تستحق غير تلك الأنظمة، وهؤلاء الزعماء؛ ثم جاء الوباء فشــغلهم عنهم المزيد. فبغض النظــر إذن، وفــي فرصةٍ تاريخيــةٍ فريدة، طفا نظام السيســي خارج نطاق الجاذبية، والتحديات السياســية الوجودية، فأمريكا وروســيا والصــن وإســرائيل والمملكــة الســعودية تريده، فما تضير تركيا ولا ثمن ضخم لمناطحتها سياســياً، لاسيما وأن دولاً أوروبية تحاول تحجيم تركيا أيضاً. لذلك لم يقع السيسي تحت ضغط الحاجة إلى تغييرٍ حقيقي فــي هيكل الدولــة، وكيفية توظيف الكوادر وشــغل المساحات الشــاغرة فظل يعتمد ويلجأ إلى الاستعانة في ذلك بالمصادر نفســها، وعلى رأسها المؤسســة العسكرية، ثقةً منه وإرضاءً لنهمها، ولأن ذلك ببســاطة مبلغه من العلم، فهــو لا يعرف غير أو أفضل من ذلك. لكن الجغرافيــ­ا، ومن ثم التاريخ لا مهرب منهما، فهما يفرضان واقعاً وســياقاتٍ وخياراتٍ محــددة، ومصر فــي مركزها في قلــب العالم، وعلــى مفترق طرق الشــرق والغــرب، وعلى أحد أهم شــرايين التجارة العالمية، لابد أن تُواجــه بتحدياتٍ، إما آجلاً أو عاجلاً، وإن من شــأنها أن تفضح الواقع. أحياناً تكون هذه التحديات وجودية، كسد النهضــة مثلاً، الــذي قد يهــدد حصة مصر التاريخية من المياه، أو قد يســتغل كوسيلة ضغطٍ ما احتاجت الإرادة السياسية الدولة أو الإقليميــ­ة لذلك، لابتزاز مصر، أو قد يكون التحدي عارضاً تماماً كجنوح الســفينة في قناة الســويس، بما كشــفه من عدم المقدرة على التعامل مع كوارث تهدد أحد أهم مصادر العملة الصعبة، بما يعيد طرح الأســئلة عن جدوى مــا ردم من مليارات الــدولارا­ت في تفريعةٍ لا جدوى منها.

إن الكذب أسهل، وقد يكون مريحاً أحياناً، وكذلك خداع النفس، لكن الواقع لن يلبث أن يكشف ويفضح، لاســيما لو تمت الاستكانة للكــذب والتمــادي في التــردي والتفريط: حينذاك لا يصبح الســؤال ما إذا كان الكذب سينكشف بل كم سيطول؟ كم عمر الكذب؟

السيسي لم يأت بانقلابه، إلا وقد تعرضت «صورة» مصر المستقرة القادرة، لاختبارٍ عنيفٍ هزها، في نظر مواطنيها والعالم الخارجي

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom