Al-Quds Al-Arabi

اللغة الفصحى بين خطابات قيس سعيد ولهجة العرب الأوائل

- ٭ كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»

■ في بدايــة ظهور الرئيس التونســي قيس ســعيد، كانت لغتــه الفصحى مبعثــا لإحياء الروابــط العربية المشــتركة، وإضفاء رونــق أدبي إلى الخطاب السياســي العربي، بلاشك أن الفصحى فيها من الثراء والبيان والجمال الكثير، لكن مع مواصلة الاستماع لخطاباته، خصوصا اللقطة الشــهيرة الخاصة بتســليم الرسالة، بدا وجه آخر لاستخدام الفصحى، بنطق متزمت وتحريك متكلف، مع نغمات الخطابة المكررة المســتقاة من نمط تاريخي، وبــدت الكلمات محشــوة بالافتعال. هذا النمط من الفصحى المفتعلة، ذكرنا بالشــائع من خطابات شــيوخ الجوامع والقادة السياســيي­ن المفعمة بالإنشاء، وبالنطق الفصيح المتشــدد بالحركات. ليس فقط القادة والخطباء، بل حتــى عامة الناس أمام الإعلام والجمهور، تراهم يحاولــون الالتزام بلغة فصحى، وإن صعب عليهم الالتزام بقواعد الإعراب.

هذا الترادف بين الفصحى والمجال الخطابي لا الخاص، قــد يكون الغاية منــه تقديم لهجة مفهومــة للعرب، على اعتبــار أن الفصحى هــي لغة العــرب الأصلية ولهجتهم الاولــى، لكن هل هي كذلك؟ على ســبيل المثال، أشــهر ما يقال عن العربية الفصحــى إنها «لغة الضاد» باعتبار أنه الحــرف الذي يتميز العرب بنطقه، لكــن لو لاحظنا نطق معظم العشــائر العربية في جزيرة العرب، وشمالا نحو عشائر العراق وسوريا، وحتى عرب تونس، لوجدنا انهم ينطقون حــرف الضاد ظاء. ولوجدنا أن مشــكلة الضاد والظاء عســيرة وقديمة عند العرب، فتجد مؤلفات كاملة عن قضية نطــق الضاد ظاء، فابن كثيــر مثلا يجيز نطق الضاد ظاء بالقرآن بســبب شيوعها عند كثير من العرب، ولأنها مكتوبة، تجد أن معظم مــن تحدثوا بالامر تختلف تعريفاتهم، هل يقصدون الدال المفخمة، أم الذال المضخمة، عموما يعني هذا أن كثير مــن العرب قديما )وليس اليوم فقط( كانوا ينطقون الضاد، ظاء. طبعا من أعقد المســائل في النظر بلهجة العرب قبل الإسلام، أنه لا توجد أي وثيقة تظهر طريقة نطق العرب للفصحى، والقرآن نفســه كتب بســبعة حروف، أي لهجات، وحتى الشعر الجاهلي طعن فيه طه حسين وشكك بوجوده. ومن اللافت هنا أن نشير إلى أن صلب الحديث هو عــن الفصحى بمخارج حروفها وحركاتها، حــركات نهاية الكلم وفي بحــر الكلمات، لأن العامي والفصيح قد يتفق في استخدام الكلمات العربية، لكن تختلف حركات الكلمات والنطق وتركيب العبارات. ما لاحظته من مراقبة كلام عشــائر العرب )وما وجدت ما يؤيده في دراســات حديثه وكلام فقهاء النحو قديما( أن النطق بالفصيح )بالتحريك( ثقيل على اللســان العربي، فمــن الصعب أن تكــون الفصحى في الســليقة، بل تبدو مصنوعة للمجال الجاد، بمعنــى أنها غير محكية بالحياة العامة، بل تســتخدم كلغة أدبية نموذجية بين الشــعراء والمحافل. وســأذكر تاليا مقتطفات من دراســتين لم يتم تسليط الضوء عليهما للجمهور العربي، رغم أنهما رسائل لدراســات عليا، واعتمدتا علــى كبار مراجــع اللغة من سيبويه وابن جني والفراهيدي والسيوطي.

دراسة أولى عن )إسكان المتحرك بين النحاة والقراء( وفيها أمثلة عن إسكان أواخر الكلم وداخل الكلمة نفسها، وتعزي الدراســة الإســكان لما كنت اعتقده قبــل أن اقرا الدراســة ) وهو ثقل التحريك على اللســان( وهذا ليس كلام صاحب الدراســة، بل كلام كبــار فقهاء النحو الذين يجيزون الإســكان، وهذا يعني أن كثيــرا مما يعتبر نطقا فصيحا اليــوم لم يكن كذلــك عند العــرب، وقد اختلف النحاة في إجازة التســكين، فهناك من أجازه بسبب )ثقل الحركات المتتالية داخل الكلمة نفسها( ومنهم من لم يقبل به كابــن المبرد، واعتبره لحنا، لكن الســيوطي يعارضه ويقول إن )هــذا ليس بلحن وقراءتهم ثابته بالاســاني­د الثابتة الصحيحة(. وتذكر الدراســة كلمــات في القرآن مثل )يعدهم، ويشعركم، بارئكم، بعولتهن، يعرفكم(. كلها كلمات فيها تلاحق للحركات داخل الكلمة نفســها، وكلها جاءت في عدة قراءات بتســكين بعــض الحروف داخل الكلمة «لمنع تلاحــق الحركات الثقيل على اللســان» كما يقول فقهاء اللغة في عذرهم.

دراسة أخرى أكاديمية تقول، إن العربية الفصحى هي )لغة مشتركة( ويستخدمها العرب في المجال الجاد، وإذا عادوا لقبائلهم تحدثوا بلهجاتهم. تنتقد الدراسة العلماء القدماء، وتنقل عن الدكتور تمام حســان إنه يعيب على القدماء )اضطــراب منهجهم( وانهــم خلطوا بين لهجات مختلفة و)حاولوا إيجاد نحو عام لها جميعا(.

كما تتحدث الدراســة عــن قضية بالغة فــي الأهمية، ويمكن ملاحظتها بالفرق بالنطق بين سكان المدن والقرى العشائرية اليوم، فتقول إن حياة الحضر والمدينة تحسن النطق وتحرص على الوضوح، أمــا لهجة البادية فتميل إلى )الســرعة في النطق وإيجاز الكلام(. تتفق الدراسة مع ما بدأنا فيه حديثنا، بأن اللغة الفصحى «لا يصطنعها العرب في حياتهم اليومية».

في النهاية، فإن التساؤلات هذه كلها نبعت من مراقبة الفرق بين نطق ولهجة العشــائر العربية، وهو قد يؤدي لنتيجة تشــير إلى أن لفظ العربي الآن في مناطق عربية لا تــزال نقية لم تتبدل كثيرا حتــى اليوم، خصوصا نجد ومحيطها، والعشــائر التي خرجت منها للعراق وسوريا، قبل أقل مــن ثلاثة قــرون، وعند ملاحظة إيقــاع النطق ونمطــه، ومقارنته بين نطــق عرب الجزيــرة الأقحاح، صعودا نحو عــرب بــوادي الأنبار والشــامية صعودا

نحو عرب الفرات والقرى، ســنتوصل لمسطرة سماعية، قاعدتها أنه كلما تعمقت العرب فــي الصحراء والبداوة، كان لسانها يستصعب النطق الفصيح، وحركات الإعراب وتحريك أواخر الكلم، ويســتثقل الحركات المتتالية داخل الكلمات نفســها، أي أنه يســتثقل الفصيح الذي يخطب به أئمة الجوامع والقــادة وخطاباتهم العصماء. ودعونا نسال هذا السؤال البسيط:

لو جاء أحد بعد ألف عام، وأراد أن يعتمد على المنشور والمكتوب فقط، ليعرف لغتنا اليوم، فســيعتقد، ربما أننا كنا نتكلم الفصحى بشكل يومي محكي! لأنه سيرى الكثير من حواراتنا، كحوارنا هــذا، مدون بالفصحى.. بينما إذا اســتمع لتســجيل فيديو لحديث بين الناس، فلن يستمع للفصحــى، ولكن لم يكن هناك تســجيل صوتي قبل ألف عام، ومع ذلك ومع وجود التســجيل اليــوم، فإن معظم الناس يتحدثون الفصحــى أيضا أمام الكاميرا! فقط امام الكاميرا، ويكتبون بالفصحى على صفحات الجرائد.

وإذا اســتمع أحدنــا اليوم لــكلام فلان، الــذي قاله بالعامية، وأردنا تســجيله في تقرير مكتوب فســنكتبه وننقحه غالبا بالفصحى وليــس العامية، فما بالنا كيف قد سجل الرواة بعض كلام العرب قبل ألف عام، ربما أنهم كانوا ينقحونه ويضعون له الحركات والنحو، كما يفعل الخبير اللغوي الــذي يدقق الان هذ المقــال! وربما هناك ســؤال يجدر بالمختصين باللغة الإنكليزيـ­ـة، هل يختلف بناء الجمل في اللغة الانكليزيـ­ـة بين الفصحى والعامية، بمثل هذا الاختلاف في العربية؟ لعل هذا التساؤل المقارن يمنح اجابة لســياق تطور اللغتين.. وأيضا نسأل السوال نفسه بطريقة أخرى، إذا كنا اليوم، نتعلم اللغة الفصحى منذ نعومة أظفارنا في المدارس، لمدة 12 عاما، ونستخدمها في الكتابة كل يوم، فلماذا إذن مازلنا، رغم ذلك، لا نتكلمها في حياتنا اليومية؟ لماذا اســتاذ اللغة العربية والشاعر الفصيــح والخطيب المفــوه، و«الحيــوان الفصيح» كما يسميه محمد عابد الجابري، لا يستخدمون الفصحى في حياتهم اليومية؟

إذا كنا نتعلم اللغة الفصحى منذ نعومة أظفارنا في المدارس ونستخدمها في الكتابة كل يوم، فلماذا إذن ما زلنا لا نتكلمها في حياتنا اليومية؟

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom