Al-Quds Al-Arabi

لماذا يتقدم الكفار ويتأخر المؤمنون؟

-

■ لطالما ردد الكثير من العرب والمســلمي­ن مقولة إن أوضاع الأمتين العربية والإســامي­ة قد تدهورت بمجــرد أنهما ابتعدتــا عن الإســام. وبالتالي فهم يعزون ســبب تأخر العرب والمسلمين إلى اضمحلال شأن الدين في الحياة بشــكل عام. لكن الحقيقة أن الدين لم يتلاش مطلقاً من حياة العرب والمســلمي­ن، بل يبقى كامناً في أصغــر تفاصيل حياتهم بمختلف مجالاتها. وأكبر دليل على ذلك الأسئلة التي يطرحها المســلمون على المفتــن ورجال الديــن وأهل الذكر في البرامج الإعلامية، وخاصة أثناء شــهر رمضان المبارك. ومن شــدة اهتمــام النــاس بالدين تراهم يسألون عن أدق التفاصيل، فهذا يسأل إذا كان يجوز له أن يشم رائحة الماء أثناء الصيام، وذاك يسأل إذا كان رش الماء على الوجه في رمضان يفسد صيامه، ناهيك عــن الأســئلة المتعلقة بالعلاقــا­ت الزوجية وتفاصيلها الدقيقة في شهر الصوم.

ولا يمكن في الوقت نفسه أن تلوم الأنظمة العربية والإســامي­ة علــى ابتعادها عن الإســام أو تنفير الشــعوب من الدين، بل على العكس من ذلك نجد أن الأنظمة وخاصة التي ترفع شــعارات علمانية كاذبة كالنظام السوري، نجدها تخصص ميزانيات مهولة لبناء المساجد والمؤسسات الدينية وتخريج الوعاظ والجماعات المتدينة بأنواعها كافة. لا بل إن البعض يتهم النظام الســوري مثلاً بأنه بنى مئات الجوامع، بينما لم يبن ســوى بضع جامعات. ولو فعلاً نظرت

إلى عــدد الجوامــع ودور العبــادة وقارنتها بعدد المعاهد والمؤسســا­ت التعليمية لوجدت أن الأخيرة أقل بعشــرات المرات. وقد شاهدنا الرئيس السوري نفسه قبل فترة وهو يمالئ رجال الدين، لا بل إنه تنكر للأصول الســرياني­ة والعربية لســوريا، واعتبرها بلداً إســامياً من رأسه حتى أخمص قدميه. كما وعد الحضور من الشيوخ والعلماء بمزيد من الدعم لنشر الدين. ولطالما ســمعنا بعض منتقــدي النظام وهم يتهمونه بأنه يبالغ في إرضاء الإســاميي­ن والتزلف لهم. فإذا كان النظام «العلمانجي» السوري يقدم كل هذه العروض الدينية، فما بالك بالدول التي أسلمت كل جوانب الحياة منذ نشــأتها كالنظام السعودي مثــاً، الــذي وصل فيه عــدد حملة الدكتــورا­ه في الشؤون الدينية إلى عشــرات الألوف، فلم يبق أي تفصيل بســيط في الأحاديث إلا وقدم أحدهم رسالة دكتــوراه حوله. ولا ننســى مئات المليــارا­ت التي أنفقتها السعودية على نشر الدين داخلياً وخارجياً.

ولا ننســى أن الأحــزاب الإســامية وصلت إلى السلطة في أكثر من بلد كالمغرب والسودان وتونس. وقــد حكم عمر حســن البشــير الســودان بقبضة إســامية لعشرات الســنين. وحتى البلدان التي لم يصل فيها الإسلاميون إلى الســلطة كانت ومازالت تخصص ميزانيات هائلة للشأن الديني بغض النظر عن توجهاتها السياســية. باختصار إذاً، فإن الذين يزعمون بأن العصور القديمة كانت مزدهرة بســبب الدين ليسوا على صواب. هل كان العصران الأموي والعباســي مثلاً مزدهريــن لأســباب دينية، وهل التخلف الحالي في العالمين العربي والإسلامي سببه تلاشي الشــأن الديني في الحياة العامة، أم إن هذه شــماعة يرفعها البعض للتغطية على الفشل العربي والإسلامي في مجاراة الأمم الأخرى؟

تعالوا ننظر الآن إلى الصين التي تستعد لاستلام مشعل القيادة الدولية من أمريكا تكنولوجياً ومالياً واقتصاديــ­اً وربما ثقافياً في قادم العقود. ما هو دور الدين في الحيــاة العامة في الصين؟ طبعاً صفر، لأن غالبية الشعب الصيني بلا دين كي لا نقول ملحدين. وتبلغ النسبة أكثر من تسعين بالمائة. بعبارة أخرى، فــإن هــذه النهضة العظيمــة التي حققها الشــعب الصينــي خلال فترة وجيــزة لا علاقة لهــا بالدين مطلقاً، وأن الذين حققوها هم بالأصل لا دينيون، أو بالمفهوم الإسلامي هم «كفار» ليس لأنهم ينتمون إلى أي دين آخر، بل لأنهم ليس لديهم أي دين أو مرجعية دينية أصلاً. قل ما تشــاء عــن الصينيين وعاداتهم وجرائمهم، لكن البلاد الإســامية ليست أفضل حالاً فــي عاداتها وتقاليدهــ­ا وجرائمها بحق المســلمين أنفسهم.

باختصار المشكلة ليســت مشكلة دين، بل مشكلة عقليات وسياســات وأنظمة بالدرجــة الأولى، فلا تنسوا أن الغرب الذي يعتبره البعض كافراً يمارس أفضــل الجوانب الموجــودة في الإســام. ولعلكم تذكــرون مقولــة المصلــح الإســامي الشــهير محمــد عبــده: «رأيت فــي أوروبا إســاماً بــا مســلمين وفي بلدنا مسلمين بلا إسلام». ولا تنسوا القول الإسلامي الشهير: « إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.» أي أن القانــون أقوى من التعاليم الدينية أحياناً في ضبط البشر وتهذيبهم.

ومن المفارقــا­ت الكبرى الملموســة أن أكثر الدول تقدمــاً وازدهــاراً اليوم هــي الــدول «الكافرة» أي منظومة الــدول العلمانية واللادينيـ­ـة، وإلا لماذا أن أكثر من يهرب ويلجأ لهــا ويحتمي بحكامها «الكفار والمشركين» هم العرب والمسلمون أنفسهم لا بل كبار زعامات الإســام السياســي ورموز التطرف الذين وجدوا عند هؤلاء «الكفار» العدالة والأمان أكثر مما وجدوها عند أمراء المؤمنين وخلفاء الله في الأرض.

باختصــار كفاكم التباكي علــى العصور القديمة وربطها بالدين، والنواح على العصر الحالي وجلده لأنــه ليس قائمــاً على الديــن. التجربــة الصينية اللادينية تدحض هــذه النظريات كليــاً. لماذا تقدم الذيــن تعتبرونهم كفــاراً، وتأخــر «المؤمنون» بين قوسين طبعاً؟

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom