Al-Quds Al-Arabi

تونس: المحرومون من الحق في الماء

-

■ ما أكثر ما ننسى، أو نتناسى، أنه لم يعد للإنســاني­ة ما يكفيهــا من الماء وأن معظمنــا في بلاد العــرب قد صار مهددا بالعطش. إذ إن تزايد الهدر وســوء التدبير والتوزيع بلغ مدى ســيؤدي، في غضون عشر ســنين، إلى تفاقم العجز المائي العالمي )الهوة بين الحاجة والموارد( إلى حدود 40 بالمائة. وليس أدل على أهمية الماء للإنســان وعلى وعيه بقيمته وأسبقيته على بقية شــروط الحياة من أنه قد سخر جهودا علمية وموارد مالية كبرى لطلب المــاء ولو في المريخ. فقد أتت الصور التي أرســلتها المركبة الفضائية “برســفيرنس” أخيرا بمزيد من الأدلة على أن كوكب المريخ كان غنيا بالمياه )قبل 3 مليارات و800 مليون سنة(. إلا أن المفارقة الأليمة هي أن هذه الإنســاني­ة الحريصة على بذل كل ما أمكن رجاء اكتشــاف موارد مائية في الكواكب القصيّة هي الإنســاني­ة ذاتها التي تبدّد المياه أو تلوثها أو تسيء استخدامها على كوكبها الأرضي الصغير. فقد تبين من التقرير السنوي الذي أصدرتــه الأمم المتحدة في 22 من هذا الشــهر، بمناســبة اليوم العالمي للمياه، أن الإنسانية لا تفعل كل سنة سوى تعجيل وتيرة السقوط في كابوس الكارثة المائية.

ذلك أن مليارين ونصفا )ثلث الإنســاني­ة( محرومون من الماء الصالح للشرب وأنهم يلقون أشد العنت في الحصول عليه، حيث يضطر حوالي 230 مليونا )معظمهم من النساء والصبايا( لقضاء أكثر من نصف ســاعة يوميا في جلب الماء من أقرب بئر أو حنفية عمومية. وتقدّر اليونيســي­ف أن هذا يعنــي أن جلب الماء يقضم من حياة النســاء 200 مليون ســاعة في اليــوم، أي ما مجموعه 22800 ســنة! أما منظمة الصحة العالمية فإنها تسجل أن 829 ألف نســمة )منهم 300 ألف طفل دون الخامسة( يهلكون كل عام جراء الإسهال الناجم عن نقص مياه الشــرب المأمونة وانعدام مرافق التطهير وخدمات الصرف الصحي. ويبدو، ظاهرا، أن الإرشادات الصحية للتوقّي من جائحة كورونا يســيرة التطبيق عند جميع البشر، إلا أن الواقع البائس أن أكثر من 3 مليارات نسمة يعيشون أو يتعلمون أو يعملون في أماكن لا إمكان فيها لغســل اليدين. بل إن الماء والصابــون منعدمان في 40 بالمائة من مشــافي البلدان الفقيرة ومستوصفاته­ا.

ويعرّف العجز المائي بتدنّــي موارد الفرد عن 1700 متر مكعب ســنويا. إلا أن الوضع في بلداننا أخطــر لأن ثلاثة أرباع العرب يعيشون تحت خط شــحة المياه )أقل من 1000 متر مكعب( بينما يعيش نصفهم )خصوصا في مصر وليبيا( في ما هو أسوأ: أقل من 500 متر مكعب. لكن الخطر لا يحدق بالبلدان النامية فقط. بل إن مناطق مثل الغرب الأمريكي وجنوب إســبانيا وإيطاليا وفرنسا وبعض أقاليــم الصين ســوف تواجه الخطر ذاتــه في غضون عشــرين سنة. وليس العجز المائي مشكلة يســهل التكيّف معها، بل إنه من الأزمات الجســام التي قد تنجم عنها نتائج غير قابلة للحســبان. ومن أمثلة ذلك ما ذكره الخبير ريتشارد أوكونور من أن موجة القحط والحرائق التي اجتاحت ســهوب روســيا عام 2010 قــد أدت إلى انخفاض شــديد في صــادرات القمح، فكانت النتيجة أن ســعر الخبز تضاعف ليفضي آخر المطاف، بالتضافر مع عوامل أخرى، إلى اندلاع الثورات الشعبية العربية.

لكن بدل أن يتعزز الأمن المائي في تونس بعد الثورة الشعبية فإنه قد تزعزع، مثلما تبين دراســة ميدانيــة أجرتها الباحثتان الجامعيتان نعيمة الفقيه ومنال البكري ونشــرها هذا الأسبوع المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعي­ة عن أزمة المياه في منطقة القيروان: «بدأت منذ الثــورة لتزيد حدتها في الفترة الأخيرة بشــكل لم يعد الأهالي قادرين معه على التحمل. ذلك أن هؤلاء إنما يعيشــون، على غرار سكان مناطق أخرى في تونس، أزمة عطــش راهنة تهــدد وضعهم الصحــي والحياتي وتجعل القيروان عرضة لمزيــد من أحداث العنف والشــغب والحركات الاحتجاجية التي تهدد بدورها أمن تونس واستقرارها».

وقد وجه المنتدى، ممثلا برئيسه عبد الرحمن الهذيلي، رسالة إلى بدرو أروخو أغودو، مقرر الأمم المتحدة المعني بحق الإنسان في الحصول على مياه الشرب المأمونة وخدمات الصرف الصحي، قال فيها: رغم أن الحق في الماء وفي خدمات صرف صحية هو من أساســيات حقوق الإنســان، فإن «ملايين الأشخاص في تونس محرومون من هــذا الحق، خاصة منهم ســاكنو المناطق الريفية والجهــات المفقرة من البــاد وعديد الفئات الهشــة». فقد عاين المنتدى خلال زياراته الميدانية مظالم مختلفة وتداعيات مؤسفة لغياب هذا الحــق لم تواجههــا الدولة إلا بالصمــت والتجاهل والملاحقــ­ات الأمنيــة والقضائية. ودعا المنتــدى الخبير الأممي إلــى «زيارتنا في تونس من أجل الاطلاع على ما ســلف ذكره من إشكاليات )..( بالإضافة إلى التواصل عن قرب مع شبكة الفاعلين )..( ودعــم مجهوداتنا من أجل تكريــس الحق في الماء وخدمات الصرف الصحي للفئات الأكثر حرمانا وتهميشا». ٭ كاتب تونسي

 ?? مالك التريكي٭ ??
مالك التريكي٭

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom