ذكرى يوم الأرض تعود ولسان حال الفلسطينيين: «هنا على صدوركم باقون كالجدار»
غدا للمرة الخامسة والأربعين
بعد الهزة الأرضية السياسية التي عصفت بالأحزاب العربية داخل أراضي 48 بانقســامها وتراجعها فــي انتخابات البرلمان الإسرائيلي)الكنيســت( الرابع والعشــرين، يحيي فلسطينيو الداخل غدا الثلاثاء الذكرى الســنوية الخامسة والأربعين ليوم الأرض تحت عنوان «يوم الأرض عنوان الوحدة الوطنية».
وكان يــوم الأرض التاريخي قــد وقع في 30 مــارس/ آذار 1976 بانتفاضة شــعبية اشــتعلت في أراضــي الجليل والمثلث والنقب والساحل وحتى الصفة الغربية وقطاع غزةـ احتجاجا على هجمة إســرائيلية جديدة لمصادرة ما تبقــى من أرض بيد فلسطينيي الداخل.
وفي خلفية أحداث يــوم الأرض كانت الحالة الفلســطينية العامة بحالة مد وطني ومنظمة التحرير الفلسطينية في صعود، علاوة على نمو الجيل الثاني ما بعد النكبة من شباب لم يتأثروا بصدمة نكبة 1948، كما يؤكد عدد من المؤرخين ممن يبحثون عن جذور هذا النهوض من الرماد ومــن الحصار المزدوج المفروض على فلســطينيي الداخل من قبل العالم العربي وإسرائيل على حد سواء.
وليلة يوم الأرض الأول خرجت في منطقة البطوف )سخنين وعرابة ودير حنا( مســيرات شــعبية مندّدة بالمصادرة، تحدى فيها الكف الفلسطيني في الداخل المخرز الإسرائيلي.
وفــي محاولة لإطفــاء النار فــي بدايتها بالنــار والحديد والصدمة والترويع، دفعت الســلطات الإسرائيلية الجيش الى جانب الشــرطة، فأطلقت النيران على المتظاهرين واستشــهد الشاب خير الدين ياسين من عرابة، وما أن شاع خبر استشهاده في صباح الثلاثين من آذار حتى تفجرت الجماهير الفلســطينية غضبا واحتجاجا بالمســيرات والمواجهات، فاستشــهد خمسة آخرون )محســن طه من كفركنا، وخديجة قاسم شواهنة ورجا أبو ريا وخضر خلايلة من سخنين، ورأفت علي زهيري من مخيم نور شــمس، كان استشــهد في مدينة الطيبــة، وأصيب المئات بالرصاص والهراوات.
يعتبــر «يــوم الأرض» أبرز الأيــام النضاليــة التي خاضها فلســطينيو 48، بل هو علامة فارقة في تاريخهم منذ نكبة1948 من ناحية مســيرة بقائهم وانتمائهم وهويتهم ومجمل علاقاتهم اسرائيل وبأشقائهم الفلسطينيين والعرب.
رغم قيام السلطات الإســرائيلية بأعمال التهجير والتطهير بقي في أراضي 48 نحو 150 ألف فلسطيني امتلكوا نحو مليوني دونم، ســرعان ما فرضت عليهم المواطنة الاسرائيلية وبطاقات الهوية. بيد ان ذلك لم يقهم شــر عمليات متواصلة من الســطو المســلح على اراضيهم بلغــت ذروتها في مطلــع 1976. وخلال ذلك كانت الســلطات الاســرائيلية تدأب على إســباغ «الصفة القانونية» على عمليات المصادرة او «الاســتملاك» بالاســتناد الى قوانــن الطــوارئ والمعروفة بقوانين التســوية والإغلاق والأرض البور وغيرها. كما تم تشريع قانون تصديق الإجراءات والتعويض في عام 1953 للغرض ذاته.
وتفيــد معطيات «لجنة الدفــاع عن الأراضي» ان اســرائيل صــادرت نحو مليون ونصف مليون دونم )عــدا منطقة النقب( مــن أراضي العرب الذين بقوا على أرض الوطن منذ قيامها حتى عــام 1976 فلم يبق بحوزتهم ســوى نحو نصــف مليون دونم فقط، وهذا لا يشــمل طبعا ملايين الدونمــات من أملاك الغائبين وأراضي «الجفتلك» وهي المساحات المسجلة على اسم «المندوب الســامي» منذ عهد الانتداب الإنكليزي ولــم يكن «التطوير» إلا هدفا معلنا للتســتر على أهــداف صهيونية ترتبــط بمواصلة تطبيق فكرة الدولة اليهودية وتهويد الجليل وتضييق الخناق على فلسطينيي 48 حفاظا على «الميزان الديمغرافي» الذي سعت الحركة الصهيونية والســلطات الاســرائيلية لتكريسه لصالح أغلبية يهودية ثابتة ومطلقة.
في المقابل كانت اسرائيل تتطلع للقضاء على الكيان القومي للمواطنين العرب والحرص علــى التعامل معهم كطوائف دينية فقط، ولذلــك قامت بمصــادرة نحو 70 ٪ مــن الأراضي التي امتلكوها منذ 1948 حتى 1976 مســتغلة أجواء واحكام «الحكم العسكري» الذي فرضته عليهم مذ قامت حتى عام 1968.
ويؤكد دون بيرتس صاحب دراســة «حقائق عن اسرائيل» الصــادرة عــن مكتب الاســتعلامات في نيويورك ان مســاحة الأراضــي العربية التي صودرت حتى عــام 1963 تراوحت بين مليون وثلاثة ملايين دونم اســتنادا الى المصادر الاســرائيلية الرســمية كما يقول. اما المشــروع المركزي الذي جاءت مصادرة الـــراضي العربية لخدمته، فهــو المعروف «بمشــروع تطوير الجليل». ويرى النائب السابق المحامي محمد ميعاري أحد رموز الحركة الوطنية في حديث لـ «القدس العربي» ان الحقيقة هذه شــكلت مصدر قلق دائم للحكومات الاســرائيلية المتعاقبة التي استحدثت في مطلع السبعينيات مشروع « تطوير الجليل» بغية تغيير الواقع الديمغرافي فيه فأنشأت مدينتي كرمئيل ونتسيرت عليت في قلب الجليل ووسط مجمعات عربية كبيرة في منطقتي الناصرة والشــاغور في نهاية الســتينيات، ولم يختلف حال المثلث والنقب اللذين تعرضا الى السياسة الاسرائيلية ذاتها.
وأشــار النائب ميعاري ان يوم الأرض أحدث تغييرا جذرياً ومهما في تعديل نظرة العالم العربي الذي تجاهل فلســطينيي 48 ولطالما اعترت معاملته لهم الريبة والشــكوك والازدراء الى حد اعتبارهــم «خونة» الى ان بدأت تتبدل هــذه المعاملة وفتح الكثير من الأبواب العربية على المســتويين الرســمي والشعبي أمام فلسطينيي 48 عقب ذاك اليوم النضالي المشهود.
إحياء ذكرى ملهمة
وأقرت لجنة المتابعة العليا داخل أراضي 48 ورؤساء بلديات مثلــث يوم الأرض، واللجان الشــعبية، في اجتمــاع عقد أمس إحياء الذكــرى الـ 45 بمســيرة مركزية في مدينــة عرابة، مع المسيرتين التقليديتين من سخنين ودير حنا، ووضع الأكاليل في مدن وقرى شهداء يوم الأرض.
وافتتح الاجتمــاع مرحبا رئيس بلدية عرابــة، عمر نصار، الذي قال إن مبنــى البلدية الجديد مقام على أراض المل )المنطقة 9( التي سعت الحكومة الإســرائيلية لمصادرتها، وكانت القشة التــي قصمت ظهر البعير، وفجرّت معركــة يوم الأرض، وصولا الى اليوم، حيث استعيدت الأرض بالنضال والكفاح.
وقال رئيس لجنــة المتابعة محمد بركة» إننــا عبرنا مرحلة قاسية على جماهيرنا العربية، في الحملة الانتخابية البرلمانية، ويجــب أن تكون ذكرى يوم الأرض مناســبة لإعــادة الوحدة الوطنيــة وتنقية الأجواء، لأننا أحوج ما نكون اليها ». وأضاف» نحن في عرابة، التي ســقط فيها شــهيد يوم الأرض الأول خير ياسين يوم29 آذار 1976، وعرابة قدمت على مر السنين الشهداء والتضحيات في كل معارك شعبنا.»
مسيرتان في البطوف
كما أكد رئيسا سخنين ودير حنا ومندوبو المركبات واللجان الشــعبية على المعاني الوحدوية العميقة ليــوم الأرض وعلى ضــرورة رص الوحدة الوطنية بالذات فــي يوم الأرض، وترك مخلفات الانتخابــات البرلمانية الأخيــرة، والعمل على ضمان نجاح المسيرة التقليدية، لتكون انطلاقة نحو مرحلة جديدة، في الوحدة الوطنية لمواجهة آفة العنــف والجريمة وهدم البيوت، بالأخــص في النقب، وتضييــق الخناق على مســطحات قرانا ومدننا ونواجه المخلفات الاجتماعيــة والاقتصادية والصحية لآفة كورونا.
وقرر الاجتماع ضــرورة الالتزام بالوقايــة الصحية، ورفع الأعلام الفلســطينية وحدها، والشــعارات التــي تقرها لجنة المتابعة. كما أكــد المجتمعون علــى قرار المتابعة العليا بشــأن تخصيص حصص دراسية في جهاز التعليم العربي حول معاني يوم الأرض. وستنطلق مسيرتان من سخنين ودير حنا لتلتحما مع مســيرة عرابة في الشــارع الرئيســي، ولتنطلق المســيرة الموحدة الكبرى نحو سوق عرابة، حيث يعقد مهرجان سياسي وطني عند الساعة الرابعة بعد الظهر. وكما في كل ذكرى، سيتم وضع أكاليل الزهور على أضرحة شهداء يوم الأرض، في سخنين وعرابة ودير حنا وكفر كنا والطيبة.
الارتباط العضوي بين الشعب والأرض
يشــار الى أنه منذ عام 1976 حتى عام 1982 أحيا فلسطينيو 48 ذكرى يوم الأرض السنوية بشكل صامت وبدون إضرابات، ومنذ 1982 حتــى اليوم تــراوح إحياء الذكرى الســنوية بين الإضراب العام والمواجهات، وبين رعاية بعض النشاطات التي كانت بالغالب تقتصر على مهرجانات خطابية في المثلث والنقب والجليــل وزراعــة المزيد مــن الأراضي بالزيتون فــي محاولة لتحصينها من مخاطر القضم المتواصل.
وفي كتابه «يوم الأرض.. ما بين القوميّ والمدنيّ ـ ســيرورة وتحوّل» يقول الدكتور نبيه بشــير إن هذا الحدث شكّل مفصلاً مركزيا ومحورا أساســيا في تطور الوعي الجماعي لدى المجتمع الفلســطيني، وفي علاقة هذا المجتمع بالدولة الإسرائيلية.. وقد بقي يــوم الأرض يوما وطنيا يغذّي ويحيــي الذاكرة الجماعية الفلسطينية.
وحسب بشــير فإن يوم الأرض لا تنبع أهميته من كونه يوم تحد للســلطة المغتصبة فحســب، وإنما لكونــه يتمحور حول المركب الأكثر أهمية في الوجود الفلســطيني تاريخيا وإنسانيا وحضاريا، ألا وهو العلاقة العضوية بين الشعب والأرض.
ويرى المؤرخ الفلســطيني مصطفى كبها أن يوم الأرض جاء كحلقة مهمة من حلقات النضال الوطني الفلســطيني التي بدأت مطلع العشــرينيات، وذلك منذ انتفاضة الشيخ شاكر أبو كشك ضد الهجرات اليهودية في يافا والمناطق المحيطة، ثم هبّة البراق، وحتى ثورة الشيخ عز الدين القسّــام )1935 ـ 1936( وغيرها. ورغم ذلك يعتبر كبها يوم الأرض مفصلا مهما في تاريخ الشعب الفلســطيني بالداخل، لأن إضرابه ومظاهراته ساهمت إلى حد كبيــر في إيقاف مخططــات مصادرة الأراضي، كمــا أنه أوصل صرخة الفلسطينيين في الداخل إلى فلسطين كافة وإلى الخارج، وأعاد وضعهم على الخارطة النضالية بعد أن كانوا يعانون من آراء مسبقة بشأن اندماجهم في واقع الاحتلال، معتبرا أيضا أن أحداث يوم الأرض كانــت تعبيرا كبيرا عن الصراع على الأرض والحيز المكاني.
كأننا عشرون مستحيلا
يقــول كبهــا لـــ «القــدس العربــي» إن مصــادرة أراضي الفلســطينيين وترحيل الفلاحــن عن أراضيهم بــدأ منذ نهاية القرن التاسع عشر وقبل النكبة بكثير، وجاء يوم الأرض ليشكل مفترقا مهمــا لوقف هذه السياســة. ويعتقد كبهــا أن مصادرة الأراضي كانت من أبرز أنماط التمييز التي مارســتها إســرائيل بحق الفلسطينيين في الداخل، التي كانت دافعا أساسيا لتشكيل أولــى التنظيمات المقاومة لسياســات الاحتــال، وأفضت إلى مظاهرات يوم الأرض ومحطــات مقاومة أخرى لاحقا. مذكرا أن ســلطات الاحتلال اعتمدت في مصادرتها لمساحات واسعة من أراضي الفلسطينيين على قوانين ولوائح متعددة، ورثت بعضها من سلطات الانتداب البريطاني وأجازت هذه القوانين لإسرائيل مصادرة الأراضي ذات الملكية الشــخصية لدواع أمنية أو تحت دعوى «خدمة الصالــح العام» دون أن يعطــي صاحب الأرض حق منع مصادرتها. ورأى كبها في مظاهرات يوم الأرض امتدادا للصراع الأول بين الفلســطينيين والاحتلال وهو «الأرض» الذي كان نواة معظــم المواجهــات الدامية بين فلســطينيي الداخل وإســرائيل، كما وقع لاحقــا في مصادمات أراضــي الروحة في خريف 1998 ومصادمات أم الســحالي عــام 1999 وكما هو في جوهره في الضفة الغربية والقدس أيضا ولاحقا في هبة القدس والأقصى عام 2000. أربعة عقــود ونصف مرت منذ يوم الأرض التاريخي ولا يزال الفلســطينيون يســتلهمون من أحداث هذا اليوم قوة لمواجهة الاستيطان الإسرائيلي، ويستذكرون تجربة توفيق زيّاد وما زالوا يرددون قصيدته وسيرددونها غدا: