Al-Quds Al-Arabi

نصوص فائقة التركيز: قراءة في كتابات القاص العراقي طالب حميد

-

■ نصــوص القــاص طالب حميــد، تُحيلنا إلى ما كتبــه الحكيم الآشــوري )إحيقار( على لســان الحيوانات. وهــي نصوص بالغة الدقــة والتركيز والاختزال والكثافة في الســرد. فالاقتصاد في لغة السرد يعني الإمســاك بالمعنى بأقل المفردات. وهذا يتطلب اليقظــة في ممارســة فعل الســرد، وعدم الذهاب فــي النص في اتجــاه الإنشــاء والزيادة في اللغة. لعل التنوّع الذي اختــاره المؤلف لكتابه كمحتوى، يتشــكل من أجناس ثلاثــة غير متباعد بعضها عن بعض، يعنــي قدرة الكاتب على احتواء مكونــات هذه الأجنــاس، كما يــدل بالمعطى العام تماســك هذه العلاقة التي مبعثها تلازم النصوص )القصة القصيــرة جداً/الهايكو/ومضات( في إطار تعبيري محكوم بالكثافــة والتركيز أصلاً. لذا نجد المقاربة واردة بينها. لذا ستكون قراءتنا للنصوص ضمن اختصــاص العنونة حصــرا وليس اختلاف بعضها عن بعض.

القصة القصيرة جداً

نصوص حميد تلازم التنوّع والنظرات الشــاملة التي تختزل الســرد والوصف، مــن باب الحذر

والاحتراز من الوقوع خارج منطقة الدهشة المطلوبة من أداء النص. ونقصد بالدهشة ما تخلفه الضربة المحكمة، التي هي رســالة النص. يكون اعتماده في صياغة نصــه على جملة خصائــص تتعلق بكتابة مثل هذه الأجناس. وهي خصائــص عامّة، غير أن التميّز هنا يتعلق بذات المكوّن للنص. بمعنى الهوية السردية التي نفترضها في النصوص، وفي نصوص الكتاب هذا. فالتركيز ســمة واضحة فــي الكتابة، بمعنى الحرص على عدم الوقوع في إنشــاء اللغة، لأن لغة الســرد تكون خارج وداخــل بنية الكتابة )اللغة(، غيــر أنها تغــادر تفاصيلهــا وتعقيداتها البلاغية والتركيبة النحوية. فلغة )القص، الشعر( هنا متجانسة مع الرسالة التي أخذ بها القاص، عبر التركيز ومغادرة الإباحة الواســعة في التعبير بكل شــيء غير ملزم، ما يفقد النص وحدته المتماسكة، فالتركيز هنا وحدة متحكمة ورئيســية وأساسية. أما الكثافة، فنقصــد بها كثافة بنية اللغة والمضمون المــراد توصيلــه من خــال النص. الكثافــة تعني الاختــزال في اللغة الواصفة، والمعنى الذي تشــهد له الصوّر اليومية والأحــداث صغُرت أم كبرت. أما في ما يخص المعنى، فإن الكاتــب عمد واعتمد على الإمســاك بتجربته في رؤية المشــاهد، فهو صاحب رسالة ومهمة اجتماعية، ورؤى فلسفية للواقع، لذا كانت رســالته في الاعتماد على تنوّع المضامين والصوّر الحياتية خير ما يمنح نصوصه العمق والشــمولي­ة في الاختيار النابع من المعايشــة. ولعل أهم ركيزة ومكوّن بارز في النصوص، هو الضربة التي توحي بالهدف والغرض من كتابة النص. وفي هذا تعددت الأغراض، وســاحت في حقول كثيرة تلتزم قــوة النقد الموضوعي، الذي يقدمه القاص كرســالة. وقد ولّد هــذا المكون في نظرنا جملــة أغراض منها المقارنــة والمقاربة بين المشاهد والأحداث، وبالتالي ولّد نوعاً من تجسيد المفارقة التي تهدف إلى تشريح الواقع بأقصر جملة تعبير في اللغة والســرد. ولنا في هــذه المكونات والخصائص عيّنات من هذه النصوص، نورد منها:

في نــص «مولــود» القائل «بعد انتظــار طويل ومراجعات لعدد من الأطباء استبشــرت الســيدة أخيراً بما قاله الطبيب، فهي الآن حامل في شــهرها الأول. كانــت الفرحــة عظيمة، ليس لها فحســب، وإنمــا لزوجها الــذي انتظر هذا اليوم ســنين. لقد كبرت الفرحة بعد مرور أشهر، حيث ظهر أن المولود ســيكون ذكراً. وهذا ما كان يطمح إليــه الوالدان.

بعد مرور تسعة أشهر حانت ساعة الولادة وتم نقل السيدة إلى المستشــفى. اجتمع الأهل لسماع الخبر السار. بعد مرور عدة ســاعات خرج الطبيب يعلن للأسف.. لقد ولد الطفل ميتاً.»

وللنظــر إلــى الكيفيــة التــي أدار بهــا القاص موضوعه، وما هــي الدلالات الصغــرى والكبرى، وماذا حصل مــن تركيز وكثافة. أمــا نص «الوهم» فيقول: «عصفور فــي قفص، يحلم بالخروج لفضاء اشــرأبت له الأعناق طويلاً. وحين سنحت له فرصة بامتلاك الحرية التي تمناها كثيــراً، أدرك أن فرحه بعالمه الجديد لن يدوم طويلاً. إن حياة القفص أشد رحمة من عبث الحرية.»

واضحــة الدلالة السياســية والوجودية، وهذا يســري على كل النصوص؛ كونها تتناول الظواهر والســلوك الاجتماعــ­ي، بمــا فيــه مــن مفارقات وتناقضات، وعلامات تُشــير إلى نــوع من الصراع الاجتماعي، وتشخص التردي الحاصل في المنظومة بشكل عام، أي أن النصوص ملتزمة بهموم إنسانية كبيرة تعالجها بإيجاز متناه، في تشكيل النصوص، والكثافــة اللغوية والســرد. كما تقــف في الصف الأمامي من كتابات الرواد العراقيين والعرب في هذا المضمار من الكتابة.

شعر الهايكو

تميّــز شــعر الهايكــو كمــا أكــدت الدراســات والترجمــا­ت للنصــوص، علــى أنه نــص موجز العبارة واســع الدلالــة. وأرى أن الشــاعر طالب، التزم شــروط هذا المنحى في كتابة الشعر. كما أنه كان أكثــر إيجازاً من كتابة القصة. ولعل ما يدور في ذهن الكاتب من جهة، والهموم التي يعيشها يومياً، كانت دواله لكتابة شــعر ملتزم مع اختلاف نسبي في الشكل وتركيب الجمل. في الشعر يوجز العبارة ويستخدم المرآة في عكس صورتين متناقضتين، أي أنه يــرى الوجه والوجه الآخر عبر موجز مكثف في العبارة الشعرية، ولا تختلف اهتمامات الشعر عن اهتمامات القصة. فالكاتب والشــاعر في ذات طالب حميد مســكونة بهمّ كبير، يشــكل وحداتــه تباعاً، وخطوة إثر خطوة. فمتخيله الســردي والشعري يعتمد على الفحص الدقيق للظواهر التي يعيشــها مع أقرانه، ويتحسســها كمبــدع ومنتج للنص. إن حساســيته الســردية والشــعرية، تقوده باتجاه لملمة كل ما يراه ويحســه في قالب نصي، يعتني من خلاله بالتركيب على شــتى أُصوله ومســتلزما­ته. إن الفضــاء الذي تتركه القصيــدة الواحدة لا يقف عند حدود وجودها النصي، وإنما تدفع القارئ إلى تفعيل متخيلــه هو الآخر. وهذا يــدل على متحقق لمعادل موضوعــي وفني خالصين. إن الاســتجاب­ة للنص تعني قوته وإمكانيته الذاتية. وهذا يســري على القص كما يسري على الشعر.

ومضـــات

في هــذه النصوص أجــد أنها تقترب من شــعر الهايكو، ولا تبتعد عن فضــاء القصة القصيرة جداً كثيراً. فهما يصبــان في معين واحد، بــل توأمان لا يفترقان في الخصائص إلا قليلاً. فقط أجد أنها كثيرة الاهتمام بالإيجاز حد التشــكل من مفــردات لغوية معــدودة، وجملتين قصيرتين، لكــن الاختيار يبدو بليغاً، يدفــع لاحتضان معنى كبير. وهي خاصية كل نصوص الكاتب، التي أجد فيها حاضنة لاســتقبال ما يمكن استقباله من مشاهد، وصياغتها وفق قدرة فنية تنحاز لذات الكاتب. بمعنى أنه يســعى لبلورة هويته الســردية. وأعتقد جازماً إن معرفته الكبيرة باللغة الإنكليزية وفّرت له هذا المناخ الذي اتســعت لــه المطالعة الواســعة ومعرفة الكثيــر من المعارف التي بنى ويبني عليها كتابــة نصوصه. إن كتابات طالــب حميد التــي اطلعت عليها دفعــة واحدة في كتاب مخطوط، أثارت لديّ كقارئ كثير من الدهشــة والتعلــم. وهو قليل كمــا أرى في واقعنــا الثقافي. فالنصوص التي تقدم معرفة بســر تشكيلها، وسعة معارفها تقــف في الصف الأمامي، ضمن تاريخ كتابة النصــوص. كثرت الكتابــات وقلّــت الجدية في ما نكتب، غير أن الموهبة الذاتية تدفع لنا.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom