Al-Quds Al-Arabi

التنوير والرؤية الجذرية للعالم

-

■ التدقيق في الأهمية القصوى، التي تكتسيها الرؤية الجذرية للعالم، يقودنا حتما إلى مجال الرؤية الوســطية، التي تعتبر شرطا أساسيا من شروط ترســيخ قانون الاعتدال. إلى جانب تأثيرها الملموس، في تحقيق قسط عال من التوازنات، التي تســتدعيها الظرفية السياسية، الدينية، أو الثقافيــة. لكن، حالما تتجاذب هذه الظرفيــة رياح الخلط والتحريف، خاصة منها رياح الظلامية والتجهيل، فــإن الرؤية الجذرية تصبح أكثر إلحاحــا، بوصفها أداة ناجعة لإعــادة ترتيب مكونات المشــهد، في أفق التحيين الفعلي والموضوعي لمكوناتــه ومقوماته، لذلك، فإنها ضمن هذا التصور، تكون بمثابة محو فعال، يطال مختلف الزوائد التضليلية، التي يحدث أن يبتلي بها الخطاب، نتيجة مــا يتخلله من تزييف انتهازي، أو تحريفي.

ولعل الاشــتغال الجذري لهــذه الرؤية، هو الذي يســمح إلى حد ما، بإعــادة النظر في مــا تعودنا على اعتبــاره أمرا مألوفا ومكرســا. علما بــأن منهجية التكريس، غالبــا ما تتحقق بضغط من هاجس التســامح التواصلي، الداعــي إلى توخي مواقف مرنة، تجاه الإشــكالا­ت العالقة، بحثا عن حلــول ملائمة لإكراهات الراهن. وهــي المنهجية التي تتخلص بها المحظورات عادة من عنف ســلبياتها، لتأخذ طريقها الآمن، في اتجاه فضاءات القيم المعتمدة من قبل الأعراف السائدة.

وكما هو معلوم، فــإن غض الطرف عن الخلفيــات الكامنة في تفجير الخلافات، حول القضايا العالقة، بدعوى اعتماد رؤية وسطية فضفاضة، - وفي أحايين كثيرة مشــبوهة - غالبا ما يؤدي إلى تكريس ممارسات، وخطابات هجينــة، ذات تداعيات كارثية. هنا تحديــدا تتمثل ملحاحية الرؤيــة الجذرية، إنها تجدد رؤيتنا لأشــياء الــذات والعالم، من خلال تمزيقها لغشاوة المألوف والمعتاد، ومن خلال نفضها لذلك الغبار المتراكم على ظاهر المســلمات، مســلطة بذلك ما يكفي من الضــوء الحارق، على بياضات الحقائق المغيبة، كي تنهض من رمادها.

وبالرؤية ذاتها، يمكن قراءة المسارات التي تمرّ بها الخطابات الكبرى، صعــودا وهبوطا، على ضوء مــا يلازمها من انتكاســات أو طفرات. كما أنها تمدنا بآليات اســتجلاء العوامل الخفية والمعلنة، المؤدية إلى إشهار ســاح الرؤية الوسطية، لاسيما في جانبها المتعلق بـ»قيم الاندماج» بما هي دعوة ضمنية، لتفــادي أي ممانعة ضدها. ذلــك أن طقوس الحداثة المفترى عليها، تستدعي، التقيد بمسلكياتها، وتصوراتها وأعرافها، التي يتعــذر دونها، تحقيق مطلب الاندماج في أي من فضاءاتها. وهو ما يعني وجوب تقــديم تنازلات متتالية، فــي هذا الإطار. ومــن المؤكد أن المنطق الوســطي، غالبا ما يتدخل كي يضفي على هذه التنازلات مشــروعيته­ا ومصداقيتها، انســجاما مع الاعتبارات الداعية إلى ممارســة وتكريس «ثقافة» التفهم والتفاهــم الكوني، مهما كانت قســرية وإجبارية، إلا أن هذه الصــورة التوفيقية والتلفيقية في آن، والمزهــوة بألوانها القزحية البراقة، لا تلبث أن تتبخر فور إعلان الرؤية الجذرية عن حضورها، حيث تتراجع المبررات المطروحة من قبل التوجهات الاعتدالية، مفسحة المجال للإشكاليات التي طالها التدجين، كي تستعيد حيويتها وحركيتها، في أفق اجتراحها لآفاقها المستقبلية.

نخلص من هذا الاســتنتا­ج، إلى أن الرؤية الجذرية للعالم، تســتمد مشروعيتها من استراتيجيت­ها المتميزة بتفنيدها لكل الاختلاقات المفتقرة لــروح الموضوعيــ­ة والعقلانية. كما أنهــا تمنح الحق في إعــادة تقييم الثوابت التي تقرها الرؤيــة الاعتدالية والتوفيقية، حيث يرتفع الاكراه، مخليا الطريق أمام حركية الفكر والممارســ­ة، كــي تعيد النظر جذريا في جوهر الاختلاف أو الائتلاف المســكوت عنه. علما بأن إعادة النظر هذه، تشــمل مجموع مكونات البنية العقلية التي تتشــكل وتشتغل بها الذات المهتمة، في مقاربتها للمجــالات المعنية بها، أي أنها تحدث زلزالا حقيقيا، أينمــا حلت وارتحلت، في عمــق القضايا التي دأبت الســلطات المتنفذة على احتكارها. ســواء تعلق الأمر بالمجال الديني السياسي، الفكري، أو الإبداعي. وبفعل هذه القــوة التدميرية التي تمتلكها، تصبح بالنســبة للقناعات الســكونية بمثابة عدو حقيقي، ينبغي العمل على محاصرته، بكل ما يســتدعيه مفهوم المحاصرة من عنف ووحشــية، عبر اختلاق كل الذرائع الكفيلة بذلك.

إنهــا تصبح من هذا المنطلق، عرضة لســهام الرماة، الذين يضطرون مؤقتا إلى تجاوز خلافاتهم وصراعاتهم الداخلية، من أجل التآزر للإجهاز عليها، ويحضرنا في هذا الشأن، ما لا يتســع المقام لذكره من توصيفات الإدانــة والتبخيس، التي تضع الرؤية الجذريــة في قفص يضيق بركام هائل من عرائــض الاتهام، ولكل جبهــة مناوئة، معجمها المنســجم مع «قداســة « ثوابتها التي تتحصن بها، ســواء كانت ذات مرجعية دينية، فكريــة أو إبداعية. وبالنظر لكون الرؤية الجذرية تســتهدف الأنســاق المكرسة، فســيكون من الطبيعي أن تتهم بـ»العدمية» وبتجرد خطاباتها من حس المســؤولي­ة، ما يشــجع أحلاف الرماة على حشــرها في زاوية النزق، التهور، والفوضى، وشــطط طمس مساراتهم «النموذجية» التي تعتبرونها مفضية دون غيرها، إلى الأهداف المنشــودة. إنها تبعا لذلك، متهمة من قبل هؤلاء بإلقاء بوصلة «اليقين» في النار، قصد تسييد الوعي «العدمي». ما يجعلها مطــاردة بالرفض المطلق من قبــل الأوصياء على الثوابت، لكونها تشــعرهم بفراغ جعبتهم من أي وعي براهنية للأشياء، ومذكرة إياهم بعجزهم عن طرح الأســئلة، الكفيلة باســتحداث البدائل المنفتحة على المستقبل.

إنها تبدو من هذا المنظور، جد انقلابيــة، من خلال دعوتها التحفيزية إلى تجديد آليات اشــتغال الفكر التنويري، الذي يتجدد به منطق طرح الأســئلة الفاعلة في تجديــد صيغة الوجود. هكذا إذن، تطمح بشــغفها الممنهــج، إلــى الانتقال بالخطابــا­ت من بــؤس الســكونية، وفجاجة الاستنســا­خ، إلى أراض بكر من أراضي القول. مؤكدة بذلك على ضرورة القطع مــع أزمنة الرتابة، التي تحتمي الخفافيش بظلمتها، ســواء كانت منتمية إلى المعســكرا­ت المعدنيــة، التي تمارس فيهــا الأيديولوج­يات، سلطتها، أو إلى فراديس عقائد اليوتوبيا.

من هنا يمكن القــول، إن الرؤيــة الجذرية للعالم، هــي بمثابة إنذار بانهيارات وشيكة، وتواطؤات مؤشرة لاحتمال السقوط الشامل في عمق هاوية ما، بلا قرار، لكنها إلى جانب ذلك، تنبه إلى إمكانية إشراق شمس الخلاص، شــرط المبادرة بقلب الطاولة، التي لا تعني بالضرورة المراهنة على التخريب المجاني لمجموع مؤثثاتها. وبتعبير آخر، إن حركيتها موجهة أساسا للإطاحة بالعوائق، بما هي أنساق وأنظمة استنفدت صلاحياتها. إنها شبيهة بالضوء الفاضح لسكونية التكريس وأبديته. كما هي المؤشر على حضور مخاضات، وإرهاصــات، تخص هذا المجال أو ذاك، ثم إنها لا تمارس هدمها على ما هو قائم، فقط بغية مواراته في مقابر النســيان، بل أيضا، من أجل تحفيز العقل على تحمل مســؤوليات­ه التاريخية. الشيء الذي لا يتحقق إلا على أســاس الإلمام بخبايا ما هي بصدد هدمه وبنائه، باعتبار أن الأنساق المستهدفة بالتخريب، تظل حاضرة في الظل، كما في قلب الدائرة التفكيكية، المختصة بتجريدها من استمراريته­ا.

وبالنظــر للنزعة الاســتفزا­زية التي تتميز بها الرؤيــة الجذرية، فإن تبنيها يقتصر على دوائر جد ضيقة مــن النخب، ما يجعلها موضع اتهام من قبل الأغلبية الوسطية والاعتدالي­ة، التي لا تتورع عن التعريض بها، واضطهادها، من أجل إجهاضها بكل السبل المتاحة وغير المتاحة، إلا أنها، وضــدا على كل أنواع التضييقات المحتملة، تســتطيع أن تؤكد حضورها بشــكل أو بآخر، كلما توافرت الشروط لذلك، سواء على المدى القصير أو البعيد، باعتبار أنها تنبثق من بين صلب الحتمية وترائبها.

٭

 ??  ??
 ??  ?? رشيد المومني
رشيد المومني

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom