Al-Quds Al-Arabi

«نشيد الرجل الطيب» للروائي الأردني قاسم توفيق: رواية القضايا الإنسانية المتشابكة

-

■ قد يتوهــم القارئ لعنوان رواية «نشــيد الرجل الطيب» أنه قد يبحر في رواية مليئة بالموســيق­ى والإنشــاد والمشــاعر، والعلاقات الإنســاني­ة الدافئة، إلا أنه سيكتشــف منذ صفحاتها الأولى أنه إزاء رواية مثقلة بالقضايا والمشــكلا­ت، والأفكار، والعلاقات المتشابكة والظلم والفســاد، وخــراب الذمم والخيبــات، والكثير مــن حقائق الحياة التي تولد القهر والبؤس، وتدفع للموت كملاذ أخير. وتزخر الرواية بكثير من القضايا والأفكار التي يمكن تناولها، وقد آثرت أن أقتصر على أهمها:

التجارة والتهريب

تفتح الرواية ملــف التجارة بين الدول، ومــا يواكبها من عمليات تهريب ورشــوة وقتل، من خلال شــركة «محمد العبد» الذي بدأ من الصفر، ثم كبر حتى أصبح امبراطوراً للتجارة، يتحكم في أســطول يتنقــل بــن دول المنطقة، بالإضافــة إلى صفقاتــه الخارجية، حيث يشــتري ويبيع ويودع في بنــوك أجنبية، ولم يكتــف بتجارة النفط والفواكه والإســمنت ومواد البناء، بل دخل مجال تجارة الأســلحة وتزويــد الفرقاء المتصارعــ­ن في أي دولة، وكما هــي العــادة؛ فــإن التهريــب والرشــوة رديفــان للتجارة بــن الــدول، حيث يتــم تهريــب المخدرات والحشيش والســجائر والخمور والعطور وغيرها، ورشوة رجال الجمارك والحدود عنــد الضــرورة، مــا يــدر دخــا إضافياً للســائقين، والملايين لغــازي العبد، الذي لا يتورع عن التخلص من أي ســائق يرى فيه تهديداً لمصالحه أو تجاوزاً لحدوده، وكان هــو وأبــوه يمثــان الرأســمال­ية القذرة، والشــهوة المتوحشة للثراء بأي وســيلة، وإن كان على حســاب المبادئ والقيم وتجاوز القانون.

ثقافة القمامة

كشــفت الرواية عن جوانب مظلمة فــي المجــال الثقافي، وهي ملموســة على أي حال، فمن ذلك، لجوء بعض الفنانــن، خاصــة العراقيين لعرض أعمالهــم للبيع فــي متجر «نشــيد الرجل الطيب» لصاحبه مســعود الصانــع، لعجزهــم المالي عــن إقامة معــارض خاصة بهــم لارتفاع الكلفة، وشــيوع الشــللية، كما أن بعضهم لجأ مضطراً لبيع لوحاته لفنانين آخرين وتوقيعها بأســمائهم، وعرضها على أنها لهم، وهذه الحالــة موجودة فــي أكثر من مجال، ســواء في الفنــون أو القصة والرواية والشعر وغيرها، لأن الوضع المزري للثقافة يُعلي من شأن الاسم على حساب المنتج، بوجود الشُلل التي تهلل وتسحج.

ومــن خلال مؤسســة العبــد الثقافيــة التــي يديرها بهــاء الابن الثانــي لمحمــد العبــد، أبانــت الرواية عن جانــب آخر، حيــث إعلاء الثقافة الســطحية، وتســويق ثقافة القمامة، حيث تهتم المؤسســة بموضوعــات هامشــية بعيدة عن الشــأن العــام، وتزويــر الثقافة، وتلميع الفارغين، ومن الأســاليب المتبعة: «أن يُستقبل كاتب مغمور بحفــاوة، ويُقدَّم كما لو أنــه واحد من الأدباء الكبــار، وتجاهل زائر

مهــم له قيمته الأدبية الرفيعة. يجلــس بين جمهور الحاضرين دائماً مجموعة من الأشــخاص الذين يتم تلقينهم أسئلة تحاول الحط من قيمة الضيف غير المرغوب فيه، مثل أن يلقوا عليه أســئلة شــخصية محرجة أو يحاولوا تقليل قيمة ما يكتبه، أو حتى اتهامه.»

كمــا عمدت المؤسســة إلى غربلــة المكتبة من الكتــب التي تخالف توجههــا، حيــث «أن الكتب التي تحمــل أفكاراً تخالــف النهج الذي أنشــئت من أجله المؤسســة؛ كانت معارة طوال الوقــت، ولم يتمكن التلميذ الجامعي، أو الباحث الأكاديمي، أن يحظى بفرصة استعارة أو قراءة هذه الكتب الحاضرة في ســجلات المؤسسة، والغائبة عن رفوفهــا». وحتى تكتمل مهمة المؤسســة ودورها المشــبوه، تحولت إلى ما يشــبه المقهى، حيث يكثر «الجدل والحديث في كل شيء عدا مــا يخص الثقافة. مقهــى برجوازي أنيق، كراس فاخرة، شاشــات عــرض زاهية، ندوات عن الليبرالية الزاهية، وأدب الأطفال المشــوه؛ لكن بلا تدخين». وما لبث المؤسســة أن أغلقت أبوابها، بعد أن كثرت المؤسســات والهيئات الصغيرة التي تنافسها، وسحبت جمهورها، وكلها تسعى جاهدة لنشر فيروس «الثقافة مقلمة الأظافر» فانتشر الغثاء، وظهر مئات الروائيين والشعراء والفنانين.

الحياة الحزبية

التجربــة القاســية لمســعود الصانــع، واتهامه بعضوية الحزب الشــيوعي لمجرد قراءتــه لبعــض كتب الحــزب، قادتــه بعد ســنوات إلى أحضــان الحزب الشــيوعي، ومكــث فيه عشــر ســنوات، ثــم مــا لبث أن تركه بعد تجميده. ومن خلال رؤية مســعود الصانــع، وهــي رؤيــة تصدق علــى كثير من الأحــزاب، فإن الحــزب تحول إلــى عصابة، يمــارس القمع والإقصــاء، ولا يؤمــن بالرأي الآخــر، ويناقض أفكاره الأساســية، ويقدس الأفــراد، ويبعــد المنافســن والصادقــن والمخلصــن. وكان مســعود علــى قناعــة بأن الرفاق «ينكلون برفاقهــم بأعتى مما تنكل بهم الحكومة». والحيــاة الحزبية هي تنازل عن الأنا والوعي الذاتــي لمصلحة الحــزب، والإيمــان المطلق بكل أدبياتــه وأفكاره، وأن يكــون العضو مجرد فرد فــي قطيع، يؤمر بالطاعــة والتنفيذ الأعمى، دون نقــاش أو اعتــراض، وهذه كانت الســبب في القطيعة بين مســعود وحزبــه عندما اعترض على كتاب «بريســتروي­كا» لغورباتشــ­وف، حيــث رأى أنــه لا يتفــق والأدبيــا­ت الشــيوعية، وأنــه يدعــو إلــى الاحتكام إلى الديمقراطي­ة التي تتناقض معها، وكشــف مسعود أن غورباتشــو­ف في كتابه، أفصح أنه كتبه بناء على طلب الناشــرين الأمريكيــ­ن، ما جعــل أعضاء الخليــة التي تناقش الكتــاب أن تثور عليه، وتطرده من الجلسة، ومن ثم تجميده. ومن الممارســا­ت الحزبية التي رواها مســعود، أن الحزب أوقفه عن إقامــة المحاضرات التثقيفية، وعلم لاحقــاً أن الرفاق لم يعجبهم إعجــاب الآخرين بــه، خاصة الرفيقــات. كما قام الحــزب بتجميده بتهمة التشــهير، لأنه تســاءل عن إجراءات الحزب بشأن اعترافات أحد الرفاق، الذي كشف للمخابرات كثيراً من الأسماء والمعلومات. كما يتذكر مسعود بأســى ما حدث مع صديقه «الزين» الذي ترشح لانتخابات النقابة بأمر من الحزب، لكنه خسر الانتخابات بتآمر من الحزب، عندما شعروا بأنه سيحصل على أعلى نسبة من الأصوات تفوق نسبة الرئيس الحزبي.

القابعون في الظل

ليس إيماناً بنظرية المؤامرة، لكــن قناعة بالحقائق التي لا ينكرها إلا أعمى البصيرة، فثمة قوى خفية تحكم العالم، وهي تحرك الرموز الظاهرة كأحجار شــطرنج، ولا يســتطيع أحد أن يفلت من قبضتها، فمحمــد العبــد كان مجــرد أداة في يد إحــدى هذه القــوى، تحركه وتوجهــه وتأمــره بما يفعل وكيــف يفعل، وكانت مــن وراء تجارته بالسلاح لتسليح الميليشيات والجماعات المتناحرة هنا وهناك.

وهذه القوى كانت تأمر كبار التجار في بغداد ودمشــق وبيروت وغيرهــا للتجســس لصالــح الإســرائي­ليين، ولــم يجد غــازي العبد مناصــاً مــن أن يرضــخ للتعامل معهم، فالمــال رب يُعبــد، أقوى من المبادئ والقيم.

كما أن بهاء العبد الذي كان يقيم في أمريكا، كان أحد أدوات هذه القوى في حروبها الثقافية، وهي التي نســبته لإدارة مؤسسة العبد الثقافية في عمان، ليســهل لها التحكم وتوجيه الثقافة كما تشــاء، وبمــا يحقق أهدافهــا في تمييــع الثقافة وتســخيفها، وإبعادها عن الحياة العامة والمجال السياسي ومصالح البلاد والعباد.

وبعد، فإن «نشيد الرجل الطيب» منشورات الضفاف والاختلاف ‪224 ،2021‬ صفحــة، روايــة حفلــت بالإضافة إلى ما ســبق بقضايا وأفكار كثيرة منها: الحرب، الســام، الخلود، عقــدة أوديب، الحب والــزواج، العلاقــات الأســرية، القبضــة الأمنية، وغيرهــا. ومع أن عمان الأردنية كانت الفضــاء المكاني للرواية، إلا أنها تمثل أي مكان في أي دولة عربية، لتشــابه القضايا والمشكلات التي لا تختلف بين دولة وأخرى. وهذه الرواية هي الإصــدار الأحدث للروائي الأردني قاســم توفيق، الذي أصدر من قبل عدداً مــن الروايات منها: «ماري روز تعبر مدينة الشمس» 1985 «أرض أكثر جمالا» 1987 «عمان ورد أخير» 1992 «ورقة التوت» 2000 «الشــندغة» 2006 «حكاية اســمها الحــب» 2009 «البوكــس» 2012 «رائحــة اللوز المــر» 2014 «صخب» 2015 «حانــة فوق التراب» 2015 ««زف الطائر الصغير» 2017 «ميرا» 2018 بالإضافــة إلــى مجموعات قصصيــة منها: «آن لنــا أن نفرح» 1977 «مقدّمات لزمن الحرب» ،1980 «ســامًا يا عمّان ســامًا أيتها النجمــة» 1982 «العاشــق» 1987 «ذو القرنــن» 2009. ونال قاســم توفيــق جائــزة كتــارا للرواية المنشــورة عــن روايته «نــزف الطائر الصغير » دورة 2018 .

٭

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom