Al-Quds Al-Arabi

استعادة شعرية تنسخ الوجود الطارئ

الفيلم الفلسطيني «ملح هذا البحر»

-

■ بمناسبة يوم المرأة العالمي الذي يوافق يوم 8 مارس/آذار من كل عام، أعاد مهرجان ليدز للسينما الفلســطين­ية عرض الفيلم الفلســطين­ي «ملح هذا البحر» للمخرجةوال­شــاعرة الفلسطينية آن ماري جاسر. الفيلم إنتاج مشترك صدر عــام 2008 ورشــح لجائزة الأوســكار عن فئــة الأفلام الدوليــة، كما نال عدداً مــن الجوائز فــي مهرجاني ميلانو ودبــي، وغيرهما. قام بأداء الأدوار الرئيسية فيه الممثلة الفلسطينية الأمريكية سهير حماد بدور «ثريا» والممثل الفلسطيني صالح بكري بدور «عماد».

العودة والحق

علــى الرغم من أن موضــوع الفيلم ينهض على موضــوع العودة الذي يبدو مشــتركا في أكثر من عمل سينمائي فلسطيني، غير أن ما يميز هذا الفيلم منظــوره الإخراجــي، خاصة النظر إلــى تكوين فلســطين عبر وعي الأجيال، التي نشــأت بمعزل عن إدراكها لفلسطين ضمن التصور المادي المعاين، مع محاولة نســج صيغة خطابية تستدعي إعادة محاولة تعريف فلسطين لدى الأجيال التي نشأت خارج فضائها، حيث يثقلها وعي التهجير والمنفي. وإذا كانت المخرجة آن مارس جاسر قد ركزت على تحــرك الكاميرا عبر معاينة مدن فلســطينية كرام اللــه والقدس ويافا وحيفا وغيرهــا، فإن حبكتها بدت مفارقة للنموذج المستهلك لبعض الأفلام، في قراءة الجدلية بين الفلســطين­ي ووطنه المستلب، حيث يغــرق الكثير مــن الأعمال أحيانــاً بتفعيل النموذج الطوباوي المباشــر، والاستهلاك لبعض النماذج الأيقونية: كالتراب، والشجرة، والمفتاح، ورثاء الذات بوصفها نمــاذج حوارية غير فاعلة؛ ولهذا ارتأت المخرجــة أن تجعل ســياقات الفيلم قائمة على حدث غريب، بالتجاور مع لمســة هادئة أو رومانســية تؤطرها علاقة «ثريــا» المولودة في نيويورك بعماد الشــاب الفلســطين­ي الذي يعمل نادلاً في أحد المطاعم.

تعود ثريا إلى فلســطين بداعي المطالبة بميراث جدها مــن البنــك البريطاني، لمبلغ قــدره )150) جنيهاً فلســطينياً، كان في حســاب توفير جدها عــام 1948. تبــدو لنا ثنائيــة عماد وثريــا إطاراً جمالياً ينضح بما هو إنســاني، ومع ذلك فقد بدت لنا هذه العلاقة مكوناً خصباً لبناء المسرد الرمزي والحكائي والأيديولو­جي، على الرغم من أن القصة قد تبدو في بعض الأحيان متعالية في غرابتها، أو لا واقعيتهــا، لكنها تمكنت بطريقة ما أن تشــحن المشــاهد بطاقة حيوية، وأن تجعلــه يغرق في ما يمور بعقــل هذين الشــابين، وصديقهمــا الثالث )مــروان( حين قرروا اســتعادة مــال «ثريا» عبر

ســرقة البنك الذي أنكر ميراث الجد

مشهد من الفيلم

بحجة ضياع كل شــيء، فتنشــأ فكرة السطو بعد طــرد ثريا وعماد من عملهما فــي المطعم لتهجمهما على بعض اليهود، وهكذا يتمكنان من ســرقة ) 15 ألف دولار وســنتين(، وهو إرث جدها مع الفوائد، ومن ثــم يهربان مــن رام الله إلى داخــل الكيان الإســرائي­لي، أو الداخل لمشــاهدة مدينة القدس ويافا وحيفا ومعانقة بحر فلســطين في مشــهدية بدت لي على قــدر كبير من الإتقان على مســتوى التحفيز العاطفي، عبر أداء مزج بين شعرية الأداء، وتمظهر الأيديولوج­ية.

لم تظهر فلسطين ســواء أكانت الضفة الغربية أم الداخل، ضمن عملية تطرية أو تجميل، لقد بدت فلســطين كما هي، وكما رصدتها الكاميرا، فظهرت حيوات الفلســطين­يين فــي الضفة، كمــا هي بلا إضافات: بفوضاها، وحزنها، وفرحها وتناقضها، هكذا يســعى الفيلم إلى أن يؤطّــر مفهوم العودة، ونقــد الكيان الغريــب عند عودة ثريا، ولاســيما وصولها إلى فلســطين، مــع التركيز علــى عملية الاســتجوا­ب والتفتيش الدقيق، والاستفسار عن مكان الــولادة، ووجود جواز ســفر آخر، لينتهي الفيلــم في بناء دائــري على وقع الأســئلة عينها عنــد ترحيل ثريا، لكن مع إجابات مغايرة، أو بلغة تتعإلى علــى المفاهيم السياســية والقوانين، وما يمكن أن يقال عن هراء تفاهمات السياسيين.

تسعى المخرجة إلى تجســيد خطاب سينمائي قوامه، إن فلســطين في وجودها الكلي، وهويتها ستبقى في وعي شــعبها، والأهم أنّ الأرض تدرك ذاتها، بغض النظــر عن محاولات محــو تعالقها مع أصحابهــا الأصليــن. ولعل في إنــكار البنك لأمــوال جدها بســبب الفوضى، وضيــاع البلاد، ينطوي علــى دلالة بأن هذا التنافر بين المفاهيم، أو لنقل بين التفســيرا­ت لا يبدو مقنعــاً، فثمة خطاب الوعــي بالمكان من لــدن الــذات والتاريخ، مقابل وعي المؤسســة أو الخطــاب السياســي، وهكذا تتخذ المؤسســة المالية بطابعها الرأسمالي نطاقاً رمزياً، فهي تبقى قائمــة ككيان، لكن تضيع حقوق البشر؛ ولهذا يأتي فعل السرقة بوصفه تمرداً على تفاهمات المؤسسة أو السلطة، التي تبدو خاضعة لإملاءات مخجلة من الكيان الصهيوني، كما يتضح من لقاء ثريا بمســؤول الســلطة الفلســطين­ية، وعجز الأخيــر عن تقديم تفســيرات منطقية يكاد يماثل عجز «أبو الخيزران» فــي رواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني.

شاعرية الاستعادة

هكذا تمضي بنا آن ماري جاســر فــي خطابها الســينمائ­ي الــذي يتــوج جماليــة المســلك الأيديولوج­ي، ويخفف مــن حدته بعلاقة الثنائي ثريا وعمــاد الحالم بالهجرة إلى كندا للدراســة، والمتبرم من وجوده في ســجن كبير، فنقرأ في تقاطع هــذا الثنائي، نوعاً من الانســجام كمــا تفعيل الطاقــة الإيجابيــ­ة لعلاقة حب صامتة، أو لا تبدو مفتعلة أو صاخبة، إنما هي عفويــة وتلقائية جداً، كما هي أفعــال هذا الثنائي حين يغرقان في عناق شــعري مع مدن فلســطين، فتذهــب ثريا لزيــارة بيت جدها، وهنــاك تواجه من تســكنه، ونعنــي امرأة يهودية ســلبت المكان وذاكرته، في اســتدعاء لأجــواء رواية «عائد إلى حيفا» لغســان كنفاني، إذ تتيح السيدة اليهودية لهم الدخول والبقاء لفترة على هامش حوار ينشأ لدى المجموعة، ينتقد السياســيي­ن الذين يرفضون إحــال الســام، لكن ثريا ســرعان ما تســتعيد متخيلها للمكان، وتستشــعر حضور أسلافها فيه، أو روحهم، فتســأل عــن الأثاث وســبب اختفائه من المــكان، فتنفجر فــي وجه الســيدة اليهودية طالبة منها الاعتــراف بأن هذا البيت يعود لجدها، وتطالبها بالرحيل، وهكذا تنشــأ مفارقة مصدرها الحوار مع اليهودية التي تتهم ثريا بأنها شــخص يعيش في الماضي، وبأنها معتدية، وعليها الخروج من المنزل، فتستدعي الشرطة لطرد المتطفلين الذين تعاملــت معهم بلطف، حين ســمحت لهم بالدخول إلى بيتها، أو )بيتهم ـ بيت جد ثريا(.

تســتند المخرجة في صيغتها إلى ثلاثة عناصر أهمها: ســيناريو متقن ينهض على تشييد العلاقة مع المكان الذي يعد العنصر الثاني في الأهمية، ولا ســيما من حيث تمكين المشــاهد من رؤية فلسطين من زاوية بصرية أرشــيفية، لا تخلو من شــعرية مقتصدة، أو متوازنة، وهنا نلمح توظيف المشــاهد وتقنية الألــوان التي تبــدو في بعــض الأحيان مغرقــة في واقعيتها، حيث تبدو فلســطين كما هي لا تخضــع لأي تعديل، فنــرى مناخها الصحراوي واخضرارهــ­ا، كما عمق تاريخية المــكان، وما طرأ عليه من تشــويه طارئ، فتسرقنا الكاميرا لنمضي في معاينة التاريخ، وآثــار الذين رحلوا، كما نرى القــدس من زوايا متعــددة نتيجة اختيــار زوايا النطاق للكاميرا، وهذا ينســحب على يافا وحيفا، والأهــم أن حركة العدســة تجعلنا نســتغرق في مشــاهدة البحر، ومعانقة أمواجه، وكأن فلسطين خرجت من حزنها، واســتعادت ذاتها، فننسى أن ثمة محتلاً، وهذا يتضح عندما يتجاهل ثريا وعماد الغرباء من حولهم على شــاطئ البحر، فيتصرفان كأنهما جزء أصيل من المكان، فلزمن ما تناسيا أنهما تحــت الاحتلال، وأنهمــا من وجهة نظــر القانون متسللين أو لصوصاً.

ما يميز هذه المشــاهد اعتمادها على توليد طاقة مركزها الانغماس في المشهدية، التي يتقن الممثلان تجسيدها، وهنا نصل إلى العنصر الثالث، وأعني توظيف الموســيقى التصويرية والأغاني المواكبة لبعض المشــاهد، فتمتزج العناصر الثلاثة مع أداء الممثلين، اللذين يتقنان الصمت في بعض المشــاهد بغيــة إتاحة فرصــة للمشــاهد لأن يتأمل حضرة المكان، دون تشويش أو حشو لا قيمة دلالية له.

في مشهد يشي بالكثير، يمضي الثنائي إلى قرية الدوايمة ليعيشا في فسحة خارج الزمن، في أطلال مكان تاريخي، حيث يكونان حلم بيت في مكانهما الطبيعي، وفي هذا السياق تتكئ المخرجة على فعل تصوير المكان، بعدسة شديدة التميز والشاعرية، حيــث تمتــزج معانــاة الفلســطين­ي بحضــور المستوطنات، والجدار، والطبيعة، والسلب، وثقل التاريخ، وهكذا تبدو المشاهد متشابكة ومتداخلة، لكنها تقيــم نوعاً مــن الغضب، ولاســيما ونحن نشاهد عماد وثريا وهما يتشــوفان يافا من خلف الجبل والمستوطنا­ت التي تقطع الامتداد الطبيعي للنظر، ولفلسطين، وللتاريخ، وللزمن.

حين ينتقل عماد وثريا للداخل نقرأ في سلوكهما فعلاً متعالياً لتجاوز إشكاليات التعريف، ومفهوم الحق، حيث يعدّان فلسطين مجالاً طبيعياً لهما، هي الحق، ولهذا يقطفان حبات البرتقال من الشوارع، وكأن فعــل الاســتلاب قــد تعطل، مع تســاؤلات يجســدها الحوار، حين يصرخ عمــاد بثريا قائلاً: بتفكري فلســطين برتقال... شــو يعني فلسطين؟ هكذا نواجه أسئلتنا في اختزال هذا المكون برمزية لا تبدو لنا ســوى حالة شــعرية تحتمل الكثير من علامات الاســتفها­م، وفي حوار آخر تستدعي ثريا ماذا كان يفعل جدها وجدتهــا في يافا قبل النكبة، حيث تذكر أسماء الشــوارع، وذهابهما إلى سينما الحمراء، في ســرد متوتر، لنخلــص إلى مقولة إن الحياة قد سرقت من الفلســطين­يين، هكذا يتوقف الفيلم لمناقشــة هذا الاســتلاب أو الســرقة التي تتقاطع مع بنية المكان والتاريخ والزمن والحلم، مع أنها بدأت من مبلغ 150 جنيها لكنها شــكلت مفارقة أو مركزاً خطابياً أو منطلقاً لقراءة معنى الخسران لعالــم كان جميلاً، ولم يبق لنا ســوى ملح البحر الذي تحول إلى إحساس ما، ينضح بالتناقض في معرفة ذواتنا، والمكان والزمن.

لقد اتقنت المخرجة تعميق مشاهد للبحر ببلاغة مشهدية، كما اســتطاعت أن تخترق وعي المشاهد، لتحميلــه طاقــة انفعالية عميقة، فــا جرم في أن يطرح ســؤال الشخصيات عن شــعور الأنا، وهي تعود إلى المكان أو فلســطين؟ إنه ســؤال نتوقعه لو أتيحت لنا العودة، لقد اســتبقت المخرجة وعي الفلســطين­ي في رمزية عودة ثريا، في حين تملكت ما يمكن أن يتداعــى في وعينا عنــد العودة، عبر مشهد متشنج عندما يلقى القبض على ثريا وعماد، فتقوم قوات الاحتلال بترحيلها، وهكذا تواجه ثريا الاســتجوا­ب عينه الذي بدأ في المشهد الافتتاحي، لكن تتغير الإجابات لتحمل عبــارات: ولدت هنا، وأنا من هنــا.. لينتهي الفيلم الــذي صنع لتخليد ذكرى قرية الدوايمة، التي أمست أطلالاً لم يبق لها أثر، هكذا يبــدو هذا الفيلم بوصفه محاولة للكتابة فوق التاريخ الذي نســخ تاريخــاً آخر، ينبغي أن يســتعاد. إنها لعبة خطابية تسعى لأن تجعل لغة الفرد، الفلســطين­ي وهو يتخطى حدود الخطابات المؤسساتية، وأعراف عقلانية الساسة، وتفاهمات الدول.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom