Al-Quds Al-Arabi

صلاح نيازي... سيرة ذاتية بعذوبة الشعر

-

■ الناصرية المدينة في جنوب العراق، ولــد فيها صلاح نيازي، مثل ترنيمة عذبة، ورنين قافية، وشــوق وابتهال، في سيرة نيــازي «غصــن مطّعم في شــجرة غريبة» الصــادرة فــي بغــداد عــام 2013، عن دار ميزوبوتامي­ا.

مدينــة الناصريــة، هــي أربع مــدن في اليوم الواحد، تســتيقظ صباحاً استيقاظ مريض، لا تقوى على غســل وجهها، وفي الظهيــرة تبيض فيها الشــمس الســمتية، فتنام وهي تنــزّ عرقاً، لدرجة الموت، وعند العصر يدبّ فــي أوصالها الغزل، فتندفع إلى النهر الذي هو سلال من طيور ونهود، وفيه يمشّط النخيل سعفه المضفور، وفي الليل تغنــي غناءً حزيناً، ممتلئــاً بالقلوب الجريحــة، والتــأوه والنجــوم، والقمــر وخذلان الزمان.

نيازي يكتب ســيرته كأنمــا فيها يودع مدينتــه الأثيــرة، الناصريــة، وهــو يبتعد عنهــا، متشــبثاً بعــروق النخــل الممتــدة إلــى عمــق الفــرات، يغــور في مســالكها، يتوجــه إلــى الســماء أن لا تطفــئ ريــاح اليأس أحلامه. شــجرة الرازقي وورودها الصغيرة البيضاء كاللؤلؤ الرطب، لم يشمّ عطــراً كعطرها، وهــو الجوّاب والمســافر نحو الأصقاع، ثمة شعور بالذنب، وتأنيب الضميــر، لِما فارق الشــجرة؟ يقول: لكني أُقتلعــت عنهــا مجبــراً، لــو كانت تقــرأ أو تكتب لبعثــت لهــا رســائل الآن، بالتأكيد أنها أنثى مســحورة، أحسّــها للآن تعرش

فوق صــدري، فراقها علــيّ أمضى فراق، كان يجب أن تُســجل كأحــد أفراد العائلة في دائــرة الأحوال المدنيــة. صلاح نيازي يلــوذ بالشــجرة مــن طوفان وشــيك، هو يفــزع نحو بــاد الضباب، بحثــاً عن أيما مــكان لا يبعد عن تاريخ نســجته العصور حول وجه الناصرية السومري، وشعرها الليلــي الأثيث، وفرعها الفائــق الاكتمال. تشــكّلت معلومات نيازي مما كان يسمعه من خرافــات ومن أغان، ومــا أكثرالمغني­ن في مدينة الناصرية، ومن تهاويد ونواح، وفي المدرســة حفظ الأناشيد والقصائد، وظهــرت الحاجــة إلــى النثــر فــي درس الإنشاء، في الدراســة الأولية، قرأ البيان والتبيين للجاحظ، كانت تجربة مريرة، لم يكملها، لكنه تعلم منها، ان إتقان الأدب يحتاج إلى عناء وجدّ ومثابرة.

الكتاب الذي قرأته بلهاث حقيقــي، يقــول نيــازي: وعلــى ضــوء القمــر هو )ســيرانو دي برجراك(، ترجمة المنفلوطي، رشّ هذا الكتاب في جســده لــذة حزينة، لم يجــد له مثيــاً في مــا بعد، إلا حين تعــرف على دستويفســك­ي. انكبّ على حفظ الشــعر القديم منذ صباه، محاولاً كتابة الشــعر بعسر شديد كما يقول: الكتابة وحدهــا تدلّــك

نحلها، عند الظهر تنام بحماقة وعصبية، في الليل تنفلت وتغرق في الحب، شــارع أبي نواس أكبر معرض للرجال المحبطين، وللنساء من ذوات العيون الجارحة. كلية التربية كرنفال آخر، لأصــوات الطالبات فيها رقة الرذاذ مهما كانت اللهجة، كانت فترة الدراسة أهم خميرة في حياة نيازي الأدبية. الهــروب بالجلد، أقصى ما يمكن من طمــوح، واللعنة على مســقط الرأس، قطع صلاح التذكرة من بغداد إلى لندن عن طريق القطار، بلا لغة ولا فلوس، الهروب، النجــاة، الابتعاد عن الكابــوس الذي بدأ يخيم على العراق أوائل الســتينيا­ت، في لنــدن بــدأ يكتشــف عيوبه، حينمــا يعيد صياغة مــا ترجَمه من اللغة العربيــة، أصعــب الأيــام على الغريــب هو يوم الأحد، المدينة تمــوت جزئياً، تزداد الغربة أضعافاً، وجد طريقه للعمــلفــ­يإذاعــة ، فيهــا تعــرف علــى الأديــب الســوداني الروائــي الطيــب صالــح، كان يتحاشــاه أدباً، يقول نيازي: فــي الواقع ليس أدبــاً مئة فــي المئة، لكــن كنت أخشى أن يفتضح لديه جهلي، علــوم الطيــب عافيــة، كعافيــة الغذاء تنتشــر في كل الجســد، الجلســة معه مهدئة للأعصاب، لم أســمعه مرة يتحدث عن نفسه

ليتميــز عن غيــره، يخالفك الــرأي بألفاظ مســالمة، وابتســامة متــواددة، كثيــراً ما يــروي قصائــد طويلــة بكاملها عــن ظهر قلب، لشعراء إنكليز.

فــي لندن تحققت لــه رغبتــان، الأولى، أنه دائمــاً ما يحذر من عيوبــه، ويتمنى لو أنك عجــزت عن اكتشــافها، وذلــك دفاع جيــد من عــدة دفاعــات يلجــأ اليهــا المرء ليتخفــى، والثانيــة تخوفــه مــن الريــادة والقيادة، يتطير من كل تكتل أو تحزب من أي نــوع، لم تكن له رغبة في النشــر، وفي الوقت نفســه تهالك على النشر، لا يعرف كيــف يعبّر عن هــذا الإحســاس الغامص المتناقض.

يختتــم نيازي ســيرته بتســاؤل مثخن باليــأس، ما الفائــدة من كل هذا؟ الشــيء اليقين في حياتــي الآن هو الحيرة! الحيرة التي رافقتني مع أول كتاب مدرســي، هي ميراثــي الأول والأخيــر، بحــثَ جلجامش عن الخلــود فأصابنا بعــدواه، وأنا أفتش عمــا ينســيني حيرتــي. نيــازي... هي ذي غربة روح الجنوبي الحزين، أواه ما أقسى الحيرة على وجوه المنشدين!

٭

 ??  ?? على فقــرك الأدبي، ونقاط ضعفك، نشــر أول قصيــدة له في جريدة «الفيلســوف» التي كانت تصدر في العمارة. استحوذت ثيمتــان علــى معظم أشــعار صــاح، هما الــوداع واللقــاء، فــي أهــم مــا كتــب من قصائد.
أكمــل نيــازي الدراســة الإعدادية في بغــداد، عندمــا بــدأت في الخمســيني­ات تجتــرح معجــزات صغيــرة فــي الفــن المعماري، والتشــكيل والشــعر الحديث، بغــداد بالمقارنــ­ة إلــى الناصرية، أســرع إيقاعــاً، وأكثــر حيويــة، تســتيقظ بغداد متعبة تعب عروس باكتمــال لذتها، وفي الضحى ينشط
صلاح نيازي
على فقــرك الأدبي، ونقاط ضعفك، نشــر أول قصيــدة له في جريدة «الفيلســوف» التي كانت تصدر في العمارة. استحوذت ثيمتــان علــى معظم أشــعار صــاح، هما الــوداع واللقــاء، فــي أهــم مــا كتــب من قصائد. أكمــل نيــازي الدراســة الإعدادية في بغــداد، عندمــا بــدأت في الخمســيني­ات تجتــرح معجــزات صغيــرة فــي الفــن المعماري، والتشــكيل والشــعر الحديث، بغــداد بالمقارنــ­ة إلــى الناصرية، أســرع إيقاعــاً، وأكثــر حيويــة، تســتيقظ بغداد متعبة تعب عروس باكتمــال لذتها، وفي الضحى ينشط صلاح نيازي
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom