Al-Quds Al-Arabi

من يصنع الإرهاب؟

- *كاتبة أردنية

حين تُجلد لا تنشــغل بالتفكير بألم الجلد، حــاول أن تغوص في أجمــل ذكرياتك وتعيشــها، إياك أن تعــدّ مع الجــلّاد ســياطه. إذا اضطررت للاعتراف فاعترف على الموتى والقتلــى والذين هم خارج البــاد. إذا كان موعــد التحقيق معك معروفــاً أو دورياً فامتنع عن الطعام قبله بيوم أو ســاعات طويلة، فذلك أســهل أن يغمى عليك بعد بضع جلــدات، الإغماء فرصة للهروب من العذاب.

فــي كل مراحل التعذيــب لا تكتم صرخاتــك، لأنها تؤدي إلى انفجار الرئتين، اصرخ بملء فيك، اسحب ما استطعت من الهواء إلى رئتيك. لا تخجل من نفسك حين تتوسل أو تســترحم، أنت في النهاية إنسان ومن لحم وعظم ومن مشاعر وأحاســيس. إن عدت من التحقيق وفي جسمك بعض الجروح، فلا تترك الجروح من دون أن تمسحها بأي سائل كان، بماء نظيف أو غير نظيف أو حتى بالبول إذا اقتضت الضرورة.

لم تكن الســطور السابقة ســوى مقتطفات من أحد إبداعــات القهر في ســجن تدمر، بذلها ســجين طبيب لإخوانه المعتقلين، ضمن ذكرياته الأليمة التي عاشــها في هــذا الجزء الأرضي من جهنم، والتي صاغها الكاتب نبيل العتوم في روايته «يســمعون حسيسها». لك أن تتخيل مقدار وحجم التعذيب الذي مورس على معتقلي ســجن تدمر الســوري، إبان حكم حافظ الأســد، ذلك التعذيب الذي أفقد المعتقلين الأمل في رؤية أديم السماء، وانحصر تفكيرهم في سبل تخفيف المعاناة، بما يغنينا عن سرد تفاصيل وقائع تعذيبهم.

وقريبا من ذلك، قرأت خبــراً مبكياً عن أحد المعتقلين في محاكمــة جائرة في دولة عربية، خبــراً عن ابتهاج زوجته وفرحتهــا العارمة إلى حد البكاء، ليس بخروج زوجها من محبســه، ولكن لتخفيف حكــم الإعدام إلى السجن 15 عاماً.يا الله، 15 عاما سيقضيها الرجل بعيداً عن أســرته وحريته تقابل بهذه الفرحة، فانظر إلى أي مدى اختُزلت الآمال بين أيدي الطغاة.

أمثال هؤلاء المعتقلين عندمــا يخرجون إلى الحياة، هل ســنندهش إذا قامــوا بتكفيــر الحاكم الــذي أمر بتعذيبهــم، وزبانيته الــذي نفــذوا، والجماهير التي صمتت عن تعذيبهم؟ هل ســنندهش إذا حملوا السلاح ضد النظام ومؤسساته؟

كثيرا مــا يجرنا الحديث عــن الإرهاب إلــى الفهم الخاطــئ لنصوص الديــن، باعتباره ســببا للتطرف والإرهاب، وهذا حــق لا مرية فيه، فمشــكلة الإرهابي المتطرف، أنــه خضع لتفســيرات خاطئــة للنصوص التي تتحدث عن الجهــاد وإنكار المنكر، وأحكام التكفير والحدود، ونحو ذلك، منــدون أن يرجع إلى الثقات من أهل العلم قديما وحديثا، غير أنه ليس الســبب الأوحد لوجود الإرهاب، فمن أبرز أســبابه التي يحجم البعض عن الخوض فيها العنف السياســي والقمع والتنكيل، الذي تمارسه الأنظمة المســتبدة تجاه المجتمع، فمن ثم تصنع الإرهاب.

جماعة التكفير والهجرة كيف نشــأت؟ نشــأت في سجون عبد الناصر التي شهدت أبشع جرائم التعذيب تجاه معتقلــي الرأي، فلم تتحمل مجموعة من شــباب الإخــوان هول التعذيب، فأعملــوا عاطفتهم في إصدار الأحكام، فكفروا النظام من رأســه وحتى أصغر جندي بســيط لا يقرأ ولا يكتب، بــل كفّروا المجتمع بأســره، على اعتبار أنه راضٍ بالكفر، وحملوا الســاح وأزهقوا الأرواح وسفكوا الدماء المعصومة، فمن صنع الإرهاب؟ الأنظمة المســتبدة هي التي خلقت النظرة الســوداوي­ة القاتمة للحياة والمجتمعات لدى الشباب المتدين، الذي كان يســير على نهج معتــدل إلى أن عانــى التضييق والقهر والقمع فأصابــه داء الانحراف الفكري. الأنظمة هي التي صنعت الإرهاب حين غررت بالشباب المتدين، عندما أعطتها أمريكا الضوء الأخضر لفتح الأبواب أمام هؤلاء الشــباب للجهاد في أفغانســتا­ن، الذين هرعوا بدافع الحميــة الدينية لنصرة الأفغــان ضد الاحتلال السوفييتي، فكان ذهابهم وإيابهم فترة الحرب مسموحا به، من دون التعرض لهم بــالأذى، فلما انتهت الحرب التي كانت ســببا في إرضاء الطمــوح الأمريكي بتفكك الاتحاد الســوفييت­ي، غدرت تلك الحكومات بالشــباب العائدين من أفغانســتا­ن، كانــت تنتظرهم المحاكمات الجائــرة والملاحقــ­ات الأمنيــة، وألجأتهم إلــى تبني طريق العنف المســلح ضد الدول وحكوماتها. الأنظمة الاســتبدا­دية صنعت الإرهاب والتطرف عندما حجّمت وقلّصــت دور العلماء فــي دعوة المجتمــع وتوعيته، فضيقت عليهم، بينما أعطت مساحات واسعة للدجالين والعلمانيي­ن وأدعياء التنوير، وحصرت مرجعية الناس في العلماء الُمسيســن، الذين جعلوا من أنفسهم أبواقا للنظام، يشرعنون ظلمهم بالفتاوى المضللة، ويبررون سياسات النظام تحت مظلة أولي الأمر، في الوقت الذي لم يســتطع كثير من الشــباب التمييز بين الاتجاهات الدينية المختلفة على الســاحة، ووقعوا أسارى لبعض الجماعات المتطرفة التي حادت عن الوسطية.

نعــم هذه الأنظمــة صنعت الإرهــاب عندما أغرقت الناس في الفقر والفاقة، ومارســت أبشــع صور الظلم الاجتماعي عليهم، فوجد الشــباب أنفســهم أمام آفاق مســدودة، وأحلام موؤدة، فأضحــوْا عرضة لاجتذاب الفكــر الضال، الــذي يهيئ لهــم ميدانــا يفرغون فيه ســخطهم وغضبهم على الأنظمة، التي أفقرتهم وسلبت أرزاقهــم وحاربتهم في أقواتهم. هــذه الأنظمة القمعية وأهل التطرف والغلو وجهان لعملــة الإرهاب، كلاهما يمثله، وكلاهما يمارس العنف السياسي الذي يتفق مع مصطلح الإرهاب من وجود عدة، سواء كان من الأفراد والجماعات تجاه الدولة، أو كان من الدولة تجاه الأفراد والجماعات، فعمليات الاغتيال التي تمارسها الجماعات المتشــددة إرهاب، والتصفية الجسدية والاعتقال الذي تمارســه الدولة ضد الأفراد والجماعات إرهاب كذلك. من أبشــع صــور الإرهاب التــي تمارســه الحكومات القمعيــة ويفتح الباب أمام صناعــة الإرهاب، هو جعْل هذا المصطلــح فضفاضا مطاطيا، ليشــمل كل معارض لسياسات النظام، ودمج الجماعات ذات المنهج السلمي مــع جماعات العنف المســلح في خطــاب واحد، وكأن الأنظمة تدفعها دفعا باتجــاه تبني العمليات الإرهابية وحمل السلاح. قطعًا أنا لا أبرر للإرهاب ولا للإرهابيين، فهم بلا شك أصحاب ضلال فكري وسلوكي، ولكن رأيت أن هناك إعراضا لجمع من أصحاب الأقلام عن التعرض للأنظمة المستبدة باعتبار أنها تصنع الإرهاب ومسؤولة عن وجوده، بل تســتخدمه أحيانا لمصالحها السياسية بصورة مباشرة وغير مباشرة. ولو أرادت هذه الأنظمة وأْد الإرهاب لفعلت، عن طريق الحوار الوطني، وتهيئة مناخ ديمقراطي يســتوعب حرية الرأي، ومد المساحات الخضراء لعمل المصلحين المعتدلين لتحصين الشــباب، وتحقيق العدالة الاجتماعيـ­ـة، فإنما ينبت الإرهاب من تلك الهوة بين الحكام والشعوب، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom