Al-Quds Al-Arabi

الجسد والروح: كتابة الأزرق

-

■ بــن نَفَســن، بين جســدين، بــن مغامرتين تكتبــان الأزرق، قصيدتــان تجــاوران الأزرق، وحميمية الصــوت الذي يتلبســه الأزرق، حميمية النفــس، الأزرق فــي خفتــه، متحــررا مــن الثقــل، ذرات متصدعــة فــي الضــوء هــي الشــفافية. قصيدتــان تحــاولان أن تتهجيــا مــا يســائلهما، يناديهمــا، يهجــس فــي أعماقهمــا، القصيدة في مواجهــة أزرقها، الذي يســتبطن الزخم الوجودي والمعرفي الــذي يحركها، أو يناديهــا. بين أزرقين، بين قصيدتين، بين ديوانــن، بين ضفتين، وعالمين شــعريين يأتلفــان ويختلفان. إنــه أزرق الممكنات، أزرق الأنفاس، أزرق المخيلة، الأسود الذي يقع على الأبيض، اللامحدود، شــكلٌ للكلمات، إنه الكتابة، إنه حياة الشاعر، بل كينونته ذاتها.

أزرق بين زمنين، بين رغبتين

بين أزرق «هــذا الأزرق» لمحمــد بنيس، «وقصة الأزرق» لجون ميشــيل مولبوا، هناك هذه المفارقة الزمنية التــي يطرحها عنوانا الديوانين، ففي «هذا الأزرق» هناك اسم الإشــارة «هذا» الذي يشير إلى الأزرق، قريبــا وحاضرا، ملتصقــا باللحظة، حتى وهو يســتدعيها من الذاكرة يســتحضرها خفاقة جياشــة ممتلئة بالحضور، تمنح المسـّـرة وتضيء الكتابة.

يكتــب محمــد بنيــس أزرقــه ليحتفي ولينشــد لحظــات الامتــاء والتحقــق، ترقــص اللغــة بــن جنبيه، فــي اليد التي تكتب تعاقــر أزرقها، تراوده تارة، تســتله أخرى من بين الصلب والترائب، تلك اليد التي تكتب تســابق ما يرنحها ويســكرها، في هذا الأزرق المشعشع، وهو يتوزع هناك وهنالك في النفــس وما حولها، يمتزج فيه ما يهجج الجســد، وما يأخــذ الروح لتتغنى بمــا يخطفها، ويجذبها، أزرق الافتتــان والخطــف، يســتدعيها ويعليهــا لتلتقط وهج اللحظات والوجود والامتلاء، حتى وهــي تعاقــر العــدم والغياب، فــي صمت ضاج بحيواتــه لا تملــك إلا أن تشــتعل بمــا يناديهــا، ســكرى مترنحة، راقصــة مجنونــة، مخطوفة، منخطفــة، تحتفي، تبارك، تنشــد هذا الذي يبقى ويؤسسه الشعراء.

أمــا في ديــوان «قصــة الأزرق» لجون ميشــيل مُولبْــوَا، فمــا يتبــادر لأذهاننــا لأول لحظــة هــو استرجاع لقصة انتهت وتأتي الكتابة، أو القصيدة لتكتب ذكراها، لتكتب أشــياء الذكرى، ولتعبر عن هذا الفــراغ الذي تتركه الأشــياء التي ترحل، فهي كتابــة أو قصيــدة للذكــرى، مرتبطــة بماضيهــا وبإشــكالي­ة محدوديــة الــذات أمــام اللانهائــ­ي، نقصانهــا، وفراغهــا، أحيانــا تمتــد غيــوم الذات الكالحــة لتغطي بهذا الاســترجا­ع المعتــم نصاعة الأزرق، فنجدنا أمام ذات ممرورة معتمة تهرب إلى البحر لتتخفف مما يثقلها، يقول مولْبوا: «يقف أحدنا أحيانا قرب البحر. يبقى هنــاك لفتــرة طويلة، يحدق فــي الأزرق، جامدا، متيبســا كما لو في كنيسة، لا يعلم شيئا عما يثقل كاهله ويمسك به، ضعيفا، مذهولا من شساعة البحر، يتذكر ربما ما لم يحدث أبدا، يسبح في حياته الخاصة، يترك البحر يتكشف في داخله: ينمو البحر وفق رغبته، يقرع مثــل عصا الأعمى، ويقوده ببطء حيث الكلمة الأخيرة للســماء وحدِها، حيث لا يمكن لأي شخص قول أي شيء، حيث لا توجد أي خصلة من العشــب، ولا تنمو أي فكرة، حيث يصدر الرأس صوتا أجوف بعد أن يبصق روحه.»

فــأزرقُ قصيــدة مولْبوا هــو أزرقُ ذاتٍ تشــكو ما ينقصهــا، تكتب الأزرقَ لتمــأ فراغا يصرخ في الرأس، أزرقَ الألم، يقول الشاعر: «لا تعتقد أن هذا الأزرق خالٍ منَ الألم ليس البحر دافئا وهادئــا كحلم الطفل المعلق في الغرفة، فوق السرير بين الدمى والمجوهرات.

عندما يتوقف قلبنا عن الخفقان، نتطلع إلى البحر في برك الشارع، من أجل أن نلعق بؤسنا، ومن أجل أن نهدي رغبتنا شبيها للسماء. أحيانا ننظر في أعين من يشــبهوننا آملين أن نعثر على البحر ونغرق فيه للحظات.نفرك بشــرتنا في الغرفة ببشرة الآخرين بحثا عن كهرباءٍ زرقاءَ وعن صعقتها الجميلة.

نتبادل من وقت لآخرَ مع أشباهنا إشاراتٍ دخانيةً ســخيفةً، أذرعنا متدلية، نقف بمفردنا على الحلبة ماضغين غبارها المبلل بدمــوع خفية: بضع كلمات، بضع جمل، هي قليلة جدا تحت النجوم.

أزرقُ في الرأس، حبرٌ في الفم، حتى آخرِ الساعة. صوتٌ أبيــضُ، صوت ملطخ، يَــدْرَأُ الموتَ، ويتزوج الممات، منصتا بلا خوف إلى تكســير عظام السماء

والبحر .»

إن هــدف كتــاب «قصــة الأزرقِ» هــو تحديــدا استكشــاف هــذه النظرة، هذه المواجهة الفريدة للإنســان مع مظاهر اللانهائــ­ي، هذا الحــوار المتردد الذي يســتمر في الحــب وفــي مواجهة المــوت، وكذلك تحــت أقبية الكنائس أو على شواطئ البحر. بقدر ما هو تأمل، ســنقرأ في هذه الصفحات قصيدة هذه المحدودية الحديثة التي تتلمس بحثا عن المقدس في عالم فقد أي فكرة عنــه، لكنه لا يزال محتفظــا بالرغبة فيه. على غــرار آلهة الإغريق التســعة الذين يترأســون الفنون، توجد هنا تســعة فصــول قصيرة، تجمع كل منهــا تســعةُ نصوص، والتي تدعــو عن طريق التــوازن الــذي تمنحه الكتابــة إلى إيجــاد وإعادة اكتشاف هذا الامتلاء الذي طالما تم البحث عنه.

أزرقُ.. لون الفكر والشعر

لــم يكن الأزرق لونا أو روحــا غريبة في كتابات الشــاعر محمد بنيس، بل حضر فــي جل دواوينه الشــعرية، بما هو تأمل وإنصات ومجاورة فكرية وشعرية للأسئلة والعوالم التي تحبل بها كتاباته الشعرية.

أزرقُ كأنمــا هو نهــرٌ لا يكف عــن الجريان، يمد قصيدته بمائها، يجري كي يمنح للأعماق فســحة للتفكيــر في ما يســكنها، أو يقولهــا في ما يصعب البوح به، أو يتعذر قوله، في هذا الجيشان للأعماق والجســد وهــو يســتقبل صباحاتــه، فــي خلوته المتأملة والصعبة، وهو يقلب في ما يسكنه ويؤرقه في أزمنــة الشــدة، والنقصــان، وتشــابك الطرق غيــر المؤديــة. أزرقُ هنــاك ليمنــح للنظــرة وهجها ودهشــتها، وهي تــرى إلى ما لا يرى، أو تســتعير لســانا لهذا الذي يتعــذر قوله والقاطــن في ذرات الهــواء، في ما يبقى، في الغســق حيث يتوارى ما يشكل الوجودَ الحقَّ والعميق، ليكون دور الشاعر أن يقتفي آثار ما يرحل ويسمي هذا الغياب.

إنــه هــذا الأزرقُ جســدٌ للقصيــدة وهــي توزع وجودهــا الذُّرِّيَّ فــي العالم، كلَّ صباح، أو مســاء يدرب الشــاعر عينيه وأعماقه على تنفس والتقاط أنفاســها المنتثــرة في الهــواء، وفي مــا يغيب في الذاكرة والطفولة، وجوها وروائح، أمكنةً وطبيعةً، ليمنــح وليقــول هــذا اللانهائــ­يَّ الممتــد والمخترق

الأزمنةَ والأمكنةَ. يقول في قصيدة «تسمية»: إلى عيني يأتي أزرقُ في ركن منها يجلس مستترا بالصمت كما لو كان يردد شبهَ حضورٍ يبعد عني من أنت أيها الأزرقُ سمعت يدي تسأل لكنَّ داخلي أهزوجةً هي ما ملكتُ وأنا أنصت إلى شك سميته صديقي جسد في وسط ليل في وسط صمت هذا الأزرقُ نادى علي نادى صديقي.

 ??  ?? محمد بنيس
محمد بنيس
 ??  ?? جون ميشيل مولبوا
جون ميشيل مولبوا

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom