Al-Quds Al-Arabi

الكِتَابَةُ والحِجَابَةُ

-

■ في التعريف المتواتر للكتابة أنها تمثيل للفظ بالخط؛ وهو ما يعني أن الكتابة نظام علامي يمثل نظاما علاميا آخر هو المنطوق. أنت تكتب حين لا تســتطيع أن تســمع، أي حين تتخاطب مع من كان بعيدا عنك، أو لمن يعسر أو يســتحيل أن تلتقيه في الزمان؛ لذلك يكتب السابقون للاحقين فإذا ما رحلوا تواصلت أصواتهم عبر الكتابة، ولا نعني تأليف الكتــب فقط، بل نعني أيضــا تحرير القوانين والشــرائع والمواريث، وغيرها من النصوص التي تحفظ العقائد والمواثيق والعهود وغيرها.

الأصل في الكتابة أنها تمثل شــيئا واضحا لا خلاف حوله، هذا هو المأمول أو المطلــوب من كل نظام تمثيل يهدف إلــى التواصل الواضح وغير المشــكل. لكن الكتابة ليســت كذلك، فيمكن أن تستعمل للتخفية والإلغاز والتســتر والإبهام، وهذه وظيفة تقوم بها الكتابة إلى اليوم في أكثر من إبداع، لذلك تكون الكتابة عنوانا للحجابة.

منذ 3500 سنة وفي بلاد الرافدين، بدأت الكتابة باستعمال الرسوم، أو الأشــكال وهي الكتابة التصويرية Pictogram ما تزال تستعمل إلى اليــوم في كثير من علامات المرور أو إرشــادات الطريق، كرســم الطائرة الذي يهدي الســالكين إلى المطار، أو رســم الغزال المنبه إلى وجود حيوانات برية في الطريق. بالطبع لم تكن الرسوم التصويرية الأولى بهــذه الدقة، ولا بالضبط اللذين نجدهمــا اليوم في العلامات المثيلة المعاصرة؛ لقد كانت رسوما تحمل أفكارا يمكن أن تكون الرسوم موحية بها، ولهذا كانت الكتابة في ذلك الوقت أيقونية، لأن الرســوم تربطها بما تمثله علاقات مشــابهة، فما يوجد في الرسم يمثل بطريقة المشــابهة تقريبا ما يحدث على صعيد الفكرة التي تمثلها الرسوم. في هذه الحالة كانت الكتابة، بما هي تمثيل للأفكار )بقطع النظر عن كونها تمثيلا للكلام أو لغيره( شفافة أو مبشــرة بمعانيها. هكذا أراد الكُتّابُ الأُولُ أن يكشِفُوا ويشِفّوا وهم يكتبون.

ليــس علينا أن نطمئن كثيــرا إلى هذا التســامح الموحي خطأ بأن الرســوم تعني أفكارها التي توحي بها مباشرة، لأن في الأيقونية، أي إدراك التشابه بين الشكل وما يمثله، درجةً من درجات التأويل، يمكن أن تلحق الأيقونة بالرمز. فعلى ســبيل المثال فإن رسم صورة رأس لا يدل على الرأس بالضرورة، بل قد يستعمل الرأس استعمالا رمزيا في معنى الإنســان، أو في معنى مجرد يوحي بالرئاســة والقيادة، أو في أي معنى ثقافي يمكن أن يُحَمّلَهُ رسم رأس في العصر أو المصر، اللذين اســتعمل فيهما الرســم التصويري. نقول بذلك إن الرمز نقل العلاقة التمثيلية الارتباطية إلى علاقة جديدة، تقوم على الاعتباط، بمعنى أن الــرأس الذي كان عليه أن يدل على الجزء العلوي من الجســد، ويدل عليه هو فقط، انتقل ليدل على معنى آخر لا علاقة مباشرة بينه وبين ما يمثله. هذه المسافة البعيدة )التبعيد أو التمسيف( بين الرسم وما يدل عليه، بواســطة الرمز يفرض ضربا من الحجاب على الدلالة الشفافة، أو على العلاقة الأيقونية للرمز التصويري.

ما تزال الرســوم الكتابية أو الرســوم - الأفكار تلعب دورا رمزيا في الثقافات المختلفة، ويمكن أن تظهر بأشــكال مختلفة مثل، الوشــم أو الرسم الشــعائري. الوشم الذي يكون الجسد سنده، أو بَرْدِيهُ كان كتابة رمزية لا علاقة لها أحيانا بمعرفــة الكتابة أو الجهل بها. في عام 1991 عُثر في جبال الألب على الحدود النمساوية الإيطالية على رجل الجليد أوتزي الذي يقــدر أنه عاش بين و3100 3400 قبل الميلاد وقد وجدت على جسده 61 علامة وشم يقال إنها كانت مرتبطة بالألام وقد تكون للتخفيف من حدتها، ويذهب بعض الدارســن إلى أن تلكم الأوشــام هي ضرب بدائي من الوخز بالإبر. ربما كان ذلك تأويلا لآثار قديمة بقراءة طبية حديثة؛ لكن الكتابة على الجســد أو الوشم، كانت أيضا ضربا من «الوخز بالإبــر» أو بالكتابة الدامية على اللحم الحي، تترك عليه خطوطــا. التفكير في أن تلك الوخــزات كانت نقاطَ كتابة على الجسد يجعلنا نعتقد أن الكتابة على الجسد كانت قريبة من عصر الكتابة على الأحجار وألواح الطين وغيرها فهل يعني أن الإنسان كان يكتب على جسده قبل أن يكتب على هذه الأسناد؟ وهل أن الكتابة على الجسد مما يعرف بالوشم كانت ضربا من الرسائل الذاتية التي يمكن أن يكون دورها حمائيا للجسد، بما هو وعاء للروح وغطاء؟

جســد آخر اكتشف، وكان مغطى بالرســوم الجميلة على الجسد، هو مومياء دير المدينة ففيها رسم عيني السمكة الهزازة التي تستعمل في الصيد، وفيها زهر اللوتس والأبقار ذات الزخارف المقدســة. هذه الرسوم برموزها التي مَا يزال بعضها إلى اليوم )عين السمكة والحسد( لا يمكن أن تحمل فيها الرســوم على أنها تجمل مثلما تجمل الأوشــام اليوم الأجســاد الفاتنة، أو تجعل الجسد مؤلفا من جمال وميتا جمال؛ كانت الأوشام هي توضع لطرد الشرور والأرواح الخبيثة. لا يستطيع أن يقول لنا من يرســم اليوم من الناس البسطاء عين سمكة على باب داره، أو على جســده ما علاقة عين الســمكة بطرد العين الخبيثة عن الأجساد والبيوت؛ بل إن كثيرا من الناس لا يعرفون متى أصبح لكلمة عين، باعتبارها اســما لعضو البصر هذه الدلالــة الرمزية التي تعني الأرواح الخبيثة؟ لا شــك في أن الثقافة التي أنتجت بالوشم هذا الرمز كانت تعتقد أن الشرور تأتي متسترة في أرواح شريرة قادمة من بعيد، وتحط بين قوم يمكن أن تتقاطع معهم ســبلنا. لكن ما فائدة هذا الرسم الشعائري، إن عشنا في ثقافة نعتقد فيها أن الشرور مرئية وموجودة بوضــوح في كل مكان، وإنه علينا أن نجابههــا مادامت ظاهرة عيانا؟ الكتابة بالوشــم هي إذن حجــاب بالمعنى الأول للكلمــة، لأنها تحمي محيط ما رسمت عليه من شرور. ما يلفت الانتباه أن الحجاب صار في تاريخ من التوقي من الشــرور بالكتابة، كتابا صغيرا يُحمل كما تحمل الأشياء التي تقي البشــر. فمن معاني الحجاب في العربية أنه «عوذة أو تميمة يحملها الشــخص لتقيه من الشــر والحســد»؛ بل إن بعض الثقافات الشعبية مثل، الثقافة التونسية تسمي الحجاب كتابا. ليس في الأمر إذن تــرادف بين الكتابة والحجابــة، إلا لأن الكتابة يمكن أن تحمي وتحجب بهذا المعنى: طرد الأشرار وحجب المكائد عن الإنسان. التصور العجائبي الســاند لهذا التصرف أن الكائنات الأخرى، يمكن أن تفك شــيفرات المكتوب وتبتعد عن حاملها أو أن للكتابة من السحر والقدرة في هــذه العوالم العجيبــة ما يمكنها من أن تطرد الأشــرار بمفعولٍ مَا لا نعلم عنه الشيء الكثير، أو لا يقال لنا بالوضوح الذي في ذهن كاتبها أو بالتعمية والوهم الذي في ذهنه.

لكــن أول فصول الكتابة مع الحَجْبِ وآخرها، هي تلك التي يشــكو فيها كبار المبدعين مــن أن الكتابة قد لا تُبين، بل هي تغمض أو تحجب. كان أبو العــاء المعري يعتقــد أن الحَجْب نابع أصلا مــن الكلام أنه يخفي فيقول: «إذا رُجِع إلى الحقائق فنُطْقُ اللسان لا يُنْبِئُ عن اعتقاد الإنســان، لأن العالم مَجْبُولٌ على الكذب والنفاق». وفي نشيد رولان وهو من أقدم النصوص الفرنســية، أن الكتابة هي انحدار إلى العدم، إلى نهاية القول لأنه ما من منفذ فيها على الحق والخلاص.

أخطر شــيء صنعتــه الكتابة الغامضــة، أو الحاجبــة للمعاني الواضحة، أنها خلقت الشــراح أو المفســرين الذي نصبوا أنفســهم وســطاء بين النص والمقاصد، أو قل نصبتهم المؤسســات التي تحب الغموض، وترعى الاختلاف المؤدي إلى الهيمنة. حين جاءت المدرسة الحديثة صارعت من أجل أن تكشــف الحجب عــن الكتابة، وأن تنزع عن هؤلاء الوســطاء أدوارهم المهيمنة. لكن ما يزال في المدرسة كثير من المتســللي­ن ببياض لباس المعلمين وبسواد الوســائط الكليرجية القديمة.

 ??  ?? توفيق قريرة
توفيق قريرة

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom