Al-Quds Al-Arabi

ثلاث تجارب مقدسية من الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر

-

■ بين حرفية المدرك للرســم، وعفويــة التعبير، لوحات من ثلاث تجارب تشــكيلية مقدســية بملامح معاصرة، كأنها الزي الرســمي للوطن، تنسج قصصا وأحلامــا، قصائد وأغنيات للشــمس فــي مطلعها، ليوم منشــود في ذاكــرة وأحلام كل الفلســطين­يين من رجال ونساء، أدباء وشــعراء، فنانين وفلاسفة، دكاترة وأســاتذة، طلبــة وتلاميذ، باعــة وصناع، عمال ومزارعين، في وطنهــم ومهجرهم، في يقظتهم وأحلامهم في تطلعاتهم وآمالهم.

العلاقة مع الوطن

عشق الوطن والتحليق في غِبْطة من سماء ألوانه، والارتباط بحقوله، بل التوحد مع أشجار تلك الحقول المتلألئة بفعل الضربات الأنيقة لفرشــاة الرسم عند الفنان الفلسطيني طالب الدويك ــ من مواليد القدس 1952 تخرج في جامعة حلوان القاهرة 1977، ويعمــل محاضــرا فــي الكلية الإبراهيمي­ة في القــدس، وفي كلية دار الندوة فــي بيت لحم ــ بألوان متناغمة وبأجــواء تعبيرية، فحركــة الصبيان فوق الأشــجار وهم يجمعون المحصول بمثابة تحليق في مســاء نسمات حقول الطفولة، طزاجة في التعبير وأناقة في المظهر ورصانة في المعنى لحب الوطن، كل هذا وأكثر تنضح بــه أعمال الفنان، وتصدح بــه ألوانه الصريحة في تناغم مفعم بحب الحياة والرغبة في المقاومة، مقاومة المحتل بتأكيــد الجمال، وتأكيد الوجود الفلسطيني على أرضه.

الســعي إلى البســاطة في التناول والطــرح، بالتركيــز علــى الحالــة التعبيرية مع مضمــون وفكرة جمالية تزهر وتدفــع نحو فهم أكثــر للقصص التي يدونها الفنان، فــي واقع يوميات متتالية من الســرد الملون لحياة الناس البسطاء، مدن تحتضن حارات عتيقة، وقرى، حقول ومراع، أشــجار الزيتون والبرتقال، جبال وسهول، لعب الطفولة مرسومة على الجدران، شقائق النعمان وبيوت تختبئ خلف الأشــجار، ورود ومزاهير، نســاء تجنــي الزيتون، في نزهة الثلج، أطفــال يلعبون في بياض الشتاء. مواسم الحصاد والزرع. رجال ونساء بالزي الفلسطيني، رسم الفرح بمختلــف ألوانه علــى مســجد القبة وحضوره الدائــم، الحطــة والطاقية والعقــال والكوفيــة الفلســطين­ية في حفلات وأعراس، أيام العيد، الأبواب والشبابيك والقناطر، موسم الرمان وجني الزيتون وصلاة العيد والتراويح في رمضان بليله وقدســيته، وجه امــرأة فلســطينية في دائــرة على هيئة شــجرة زيتون، الرمان، العنب، العناب، زهور برية في حقولها، رسومات على صاج الخبز، كل هذه مفردات لوحاتــه التي تنوعت في تعبيرها واجتمعت في حب الوطن والتغزل بمحاســنه وجماله.

تنتمي تجربة الفنان إلى المدرســة التعبيرية ذات الطابع الاجتماعي، تتصــل بالناس كافة، وتلامــس وجدانهــم الجمعي بخطــاب مقاوم للمحتل بأســلوب التيــارات الحديثة من فنون المقاومة، خصوصــا جدارياته الفنية التي كانت دائما تقارع الطغيان وترفع شــعارات المقاومة والتصدي للمعتدي، ويتخذ من هذه الجداريات فضــاءات رحبــة للتعبيــر عن حــب الأرض والارتباط بهــا، بالإضافة إلى ذلــك الفن عنده وسيلة من وسائل التعليم والترفيه عن الأطفال، ومشاركتهم رســم جداريات، كورش عمل فنية وتعليمية والبحث واكتشــاف مواهب جديد من اهتمامات الفنان طالــب الدويك، وبالتالي تصبح كل هذه الأعمــال جداريات تزين العديــد من الأمكنة في المدينة، من ميادين وســاحات ومدارس تســاهم في ترقية الذوق وتهذيب النَّشْءُ الجديد، وإضفاء الفرح على عيون الناس، فتجده يســاهم دائمــا بالأعمال التطوعية في رســم مثل هذه الجداريــا­ت في الكثير من المناســبا­ت الفنيــة والقومية في داخل فلســطين وخارجها.

في جانب آخر من إنتاجه الفني استطاع أن يوازن فيه بــن ما تم إنتاجه فــي الغرب وما هــو منتج في الشرق من حضارات ســابقة، فأصبح هنا توليف بين تأثيــر الثقافة الأوروبية وثقافة الشــرق في الأعمال كأنها أيقونات محلية مشرقية، أو رسومات الزخارف في حضارة بلاد الشــام القديمة، ومنمنمات مشرقية إسلامية يتخللها اللون الذهبي في الكثير من الأحيان، بنوع من الخطــاب الروحي المقدس، وكإشــارة إلى كل الأمكنة المقدســة في فلسطين التاريخية، وكل هذه الأعمال تتسم بالبعد الواحد بخلاف أعماله التعبيرية الأخرى، التي تقترب مــن واقعية ذات منظور روحي بألوان صريحة طازجة مفعمة بالمعاني.

يتنــاول الملابس الفلســطين­ية كنوع مــن التأكيد على الهوية الوطنية مثــل، الحطة والطاقية والعقال والكوفية الفلسطينية وملابس النساء، ذات الزخرفة الهندســية المميزة بتدرجاتها اللونية وتقســيمات­ها المتفرعة والمشجرة في ترتيب هندسي راق، مساحات ملونة للجمال والتعبير والهوية في آن.

كأنها الزي الرسمي للوطن

إشــارات وملامح تؤكد على أصالة المبنى والمعنى في أعمال الفنانة الفلســطين­ية أحــام الفقيه ــ من مواليد القدس فلســطين 1979 درست وتخرجت في جامعة كلية الفنــون الجميلة القدس 2003، حاصلــة على ماجســتير أثار مــن جامعة القــدس 2007 ــ ســرد لســيرة حب الأرض في نص بصري أنيــق مــن سلســلة أعمال مــا بين التجريــد وزخارف الــروح لغنائية تبدأ ولا تنتهي أبــداً، تفصيل «الثوب - اللوحــة» بمزاجية الفــن المعاصر وأصالــة الفن الفلســطين­ي بمفردات من الذاكرة الشعبية، لخيول وطيور وبيوت متعانقة فــي أجمل لون أزرق عندها، أشــجار الزيتــون والبرتقال والنخيل بينها تلوح أهاليل متعددة، فاكهة الجنة، مدينــة القدس في قلب كل لوحــة، نســاء ورجــال، أزهار وأطفــال ولعب تحت حبل الغســيل، تكوينات مجــردة من مثلثات ودوائر تســبح في دوائر أكبــر، كأنه منطق التناغم في الفن الإســامي الصوفي، حيــث التكــرار للمفردات فــي عالم بلا نهايــة، تماثل في بعــض أجزاء اللوحات واختلاف وتنوع في المناطق الأخرى، كل هذا حسب الحاجة الفنية للموضوع المرســوم .عندمــا تقترب الفنانــة أكثر مــن التجريــد يصبح الحكي في اللوحة بصوت عال وحس فني غاية في البلاغة التشــكيلي­ة عن هوية المكان وجســد الوطــن، بأفكار أقرب إلــى روح المعاصــرة منها إلى التمثيل والمحاكاة الأولى في مدارس الرسم الاجتماعية، التي اشتهرت بها أغلب شعوب المقاومة للاحتلال، حيث المباشــرة في الفكرة والتسطيح لكل موضوع على حســاب العمل الفني، لإبــراز القضية، بخلاف ما تنتجــه الفنانة، يرتكز على مجهود ذهنــي كبير، وخبــرة في توليــف نصوص بصريــة مخلصــة لفكــرة الجمــال، كأزياء متناغمة مع المعاصرة، ومتأصلة في جغرافية الوطن فلسطين، في بعض الحالات تقترب من الوصف المباشر والســرد التوضيحي لبعض كائنات من رجال ونساء، كأنها تائهة وغريبة عن مســاحاتها الملونة فــي جغرافيا صحراء الروح، التي تنســجها في بعض الأعمال ذات الخطــاب الذاتــي، عندما تتصــف بالخطاب المباشر لرســومات توضيحية تنتهي عند هذا الحد.

تجربة الفنانــة أحلام الفقيــة تجريديات بمنطــق تعبيري فــي أدائها، ألوانهــا المفعمة بالحيــاة، كذلــك مناطــق الظــال المقابلــة للفراغات في أطراف اللوحة، ازدحام المفردات في مســاحات وخلوها في مســاحات أخرى، تفاصيــل متناهية فــي الصغر فــي مربعات ملونــة ليســت بالضرورة تصطف بأشــكال

مصفوفات هندســية أفقيــة وعمودية، كمــا هي في أغلــب الأعمــال التجريدية التي تعتمد على تقســيم اللوحات إلى مربعات تتخذ منحى تصاعديا من أسفل إلــى أعلى، حيث ثقل الكتل والألوان في الأســفل، بل تتجه الأشكال عندها بالناموس الطبيعي المنفلت من القوانين الهندســية الصارمة، نمو طبيعي لبذرة كلما تحصلت على أســباب كافية للحياة، لتتخذ خطابها التعبيري العفوي ليصبح أكثر إقناعا برهافة المحتوى الذي يقدم كأنه أحلام جاهزة للعيش.

التأمل في الموجودات وحق الوجود

عاش الفنــان الفلســطين­ي صــاح الأطرش في القدس وجدانا وجســدا ــــ مواليد مدينــة القدس 1945، حاصــل على شــهادة الليســانس فــي اللغة العربيــة والعلوم الإســامية من كليــة دار العلوم جامعة القاهرة 1969، أحد المؤسسين لرابطة الفنانين التشكيليين الفلســطين­يين في الضفة والقطاع ــ كما عاشــها في لوحاته الفنية، فتــكاد لا تخلو لوحة من أعماله إلا وفيها مدينة القدس، مسجد القبة، حاراتها القديمة وأســواقها الشــعبية، بشــوارعها وأزقتها وحاراتها الموغلة في دهاليــز التاريخ، أروقة الماضي الجميل، المكتظة بكل قصص الأرض من مقاه ودكاكين، بيوت وســاحات، وأنفاس كل من عاشــوا فيها، وكل من مرّوا بها على مهل، مدينة بمثابة ســرة الكون، بل قلبه النابض بالحياة. كان الفنان واقعيا في أسلوبه الذي أنجز به أغلــب أعماله، مع إضفاء ملامح النفس الفلســطين­ي في الفن التشــكيلي، تمثلت في التأكيد على الأزياء المحلية من رجالية ونسائية بكل زخارفها وتميزهــا وجمالها، رســم الأعــراس والاحتفالا­ت، والمناســب­ات الوطنية وحياة النــاس، وكان من أكبر اهتماماته رســم الوجوه في أبهــى صورها كنوع من توثيق الحياة وتمجيد الوطن بأبنائه، من خلال هذه البورتريها­ت.

وتظهــر ملامح مدرســة القــدس فــي التصوير الأيقوني، التي كانت بمثابة ثيمة الفنان الفلســطين­ي في العديد من مراحل تطور الفن الفلسطيني الحديث، ومــن عناوين لوحــات الفنان الأطــرش يتضح هذا الارتباط الروحــي بالأرض الوطــن ومنها: لوحات قبلة المشــرقين، القدس في القلب، القدس، بر الأمان، صلاح الديــن الأيوبي، النور، صانــع الأحذية، لقاء المقهى، الأرض. التأمل في الوجود والموجودات وحق الوجود من خصائص المنتج الفني عند الأطرش، فكل مشاهد القدس التي يأتمنها روحه في لوحاته، كانت تصدح بدعــوات المقاومة وحق الوجود وحب الأرض والوطن فلسطين .

حاول الفنان أن يحاكي الرسم الأيقوني الشرقي، ويضمنه في بعض أعماله، متخذا من أشكال هندسية وأخرى تكعيبية متداخله في مشــاهد مدينة القدس، ورمــوز فلســطينية أخرى عــن الحيــاة والمقاومة والحرية والبطولــة، وكانت مرحلة مختلفة تماما عن روح الأطرش، التي اتســمت ببساطة الطرح مع قوة الأداء والتنفيذ لأعمالــه الواقعية الأخرى، لكن يظل التنــوع جميلا في مراحــل الفنان التــي امتدت منذ الســتينيا­ت إلى ما يقارب الـ 50 ســنة، إلى أن رحل في العام الماضي في مدينته القــدس، عن عمر يناهز 75 عاما.

 ??  ?? من أعمال الفنانة أحلام الفقيه
من أعمال الفنانة أحلام الفقيه
 ??  ?? من أعمال الفنان طالب الدويك
من أعمال الفنان طالب الدويك
 ??  ?? من أعمال الفنان صلاح الأطرش
من أعمال الفنان صلاح الأطرش
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom