Al-Quds Al-Arabi

مأساة غيلان: تراجيديا السياسة والثقافة على مرّ الأزمان

-

■ كان غيلان الدمشــقي رجلا مشهورا موســوما بميسم القدرية )أي القول بالاختيار الحر للإنسان( وذلك لغرض التحذير منه فيكفي أن يقال هذا للعامة حتى ينصرف عنه الناس وعن دعوته، وكانت دعوته زلزالا سياسيا رجّ أعمدة الحكم الأمــوي، الذي أدانه غيلان ورأى فيه خروجا عن روح الإســام وروح الشــورى، وغني عن البيان أن خلفاء بني أمية رسخوا في الناس الفكرة التي فحواها، أن حكمهــم قدر من الله ولا مرد لقضائه، فاللــه اختارهم خلفاء، وما على العامة إلا الانقياد والطاعــة تنفيذا لإرادته، وعدم الانقياد هو عصيان لله وخروج عن طاعته، فطاعة الحاكم مــن طاعة الله. يقول محمد أبو زهرة «رأى بنــو أمية أن القول بالجبر يوطد مركزهم ويوجــه الأنظار نحو تبرير مظالمهم، بنســبتها إلى قضاء الله وقدره، فكان من الطبيعي أن يعملوا جهدهم على نشر هذا الفكرة .»

واحتــج غيلان على هذه الفكرة لصالح الحرية الإنســاني­ة، إزاء الســلطة القائمة وأنها ليست قدرا من الله، بل هو القهر والغلبة وتفرق الرعية وضعفها، وكان غيلان رجلا جامعا بين العلم وحســن الســيرة، فما عــرف عنه طمع في منصــب أو تقرب من حاكم لغرض شــخصي، يقول ابــن المرتضي: «غيلان بن مســلم واحد دهره في العلم والزهد والدعاء إلى الله وتوحيده وعدله» وعدّه من المعتزلة ومن طبقتهم الرابعة. وزاد بنو أمية في تشــتيت المســلمين بتبني العصبية العربية، على حساب الروح الإسلامية المنفتحة على كل إنسان مسلم، ولو كان أعجميا، لأن لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى فأذاعوا رأيا شاذا ســقيما قالوا فيه «لا يقطع الصلاة إلا ثلاثة: حمــار وكلب ومولى» والموالي هم الأعاجم بصفة عامة، فضلا عن تشــتيت العرب في صراع تاريخي رهيب حول ما يعرف في التاريخ بالقيسية واليمانية ـ عرب الشمال وعرب الجنوب - كما روت ذلك كتب التاريخ.

جاء غيلان في هذا الجو السياسي المتسم بالقهر، وفكّر وقدّر ورأى، أن روح الإسلام تقتضي الشــورى، وأن ما يحدث هو ملكية متسربلة بسربال الخلافة، فدعا إلى حرية الإنســان، إزاء الســلطة ولم يجد الحكام مــا يجابهون به هذا الرجل غير وسمه بميسم الكفر والزندقة، حتى تتم محاكمته وإعدامه وتُصدق العامة الفرية، وتعتقد أن الحاكم خلصها من زنديق، ونصر الملة والدين.

حكاية قديمة تتكرر في تاريخنا الإسلامي والعربي، راحت ضحيتها قوافل من رواد الحرية والفكر والنزعة الإنســاني­ة زلزلوا العروش بفكرهم ودعوتهم إلى السلطة الحرة الشفافة، كما نقول بلغة اليوم، وإلى الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، وأدانوا تكديس الثروات ووراثــة الحكم والطبقية الجائرة لأنها تتنافــى ومبادئ الدين، ولأن دعوتهم تقع من القلوب والعقول موقعا حســنا، وألصق الحكام وحاشــيتهم من السياسيين وبعض الفقهاء ـ وعاظ السلاطين ـ كما يسميهم علي الوردي، بهم تهما تتعلق بالعقيدة، كالزندقة، المروق، الإلحاد، الشــعوبية، الوثنية، وراحوا شــهداء في ســجلات التاريخ لفكرهم وروحهم الخلاقة الباحثة عن الحق والعدل والمساواة والحرية. ولا تعوزنا الأسماء وما أكثرها على شــاكلة الحلاج والسهروردي وابن المقفع وصالح بن عبد القدوس وغيرهم.

حدث تقــارب بين الخليفة عمر بــن عبد العزيز، فقد ناظــر غيلان ولم يأمر بقتله، بــل رأى خطأه وجادله بالتي هي أحســن، وأعجب عمر بنزاهة غيلان، واستقامته وذكائه والتزامه بشــعائر الإسلام فقربه وطلب غيلان من عمر أن يوليه علــى المظالم حتى يردها، وكان يقصد أملاك الأســر الأموية من طنافس ومجوهرات وعقارات، كما نقول بلغة اليوم وبيعها في المزاد ورد المال إلى بيت المال، لينتفع بها المسلمون، خاصة ضعفاءهم، نفّذ عمر طلب غيلان وولاه ديوان المظالم، وكان غيلان يطوف في الطرقــات مناديا على تلك الأملاك لبيعها، ورد مالها إلى بيت المال.

وأثار هذا حفيظة هشام بن عبد الملك ـ الذي سيغدو خليفة في ما بعد - فآلى على نفســه أنه حين تصير الخلافة إليه ليقتلنه شر قتلة. وكان الحظ مع هشام فما إن تولى الحكم، حتى دبّر مناظــرة لغيلان مع الإمام الأوزاعي انتهت بقتله بتهمة الزندقــة، وانطلت الحيلة على العامة فصدقــت أن من قُتل زنديق مارق تخلّص المسلمون من شره.

وقصة تلك المناظــرة مروية في كتب التاريخ، وأول انطباع يخرج به القارئ أن نيــة القتــل مبيتة قبل المناظــرة، وهناك الإدانــة أولا، وعــدم التكافؤ بين غيلان من جهة، والأوزاعي وهشــام من جهة أخرى، فهناك القوة العســكرية والسياســي­ة والدينية والدوغمائي­ة الشــعبوية، في صف هشام، وهناك قوة الفكرة ونصاعتها في صف غيلان لكنها لن تنفع.

ثلاثة أســئلة لا ينتفــع بها المســلمون ولا الحضارة، كان يمكــن لغيلان ألا يجيب ويطوى الموضوع، أو حتى مع إجابته لن يخســر المسلمون شيئا، قياسا إلى دعوته الجهيرة إلى العدالة الاجتماعية والمســاوا­ة والأخوة، ثلاثة أسئلة مبرمجة من قبل الأوزاعي باتفاق مع هشام، أسئلة ميتافيزيقي­ة يتسع لها صدر الإســام، وينفتح على التأويلات والقراءات المختلفة المتسعة: فالسؤال الأول هل قضى على ما نهى؟ أي اللــه والثاني هل حال دون ما أمر، والثالث هل أعان على ما حرّم؟ فقــد كان غيلان يجيب «ما عندي في هذا شــيء» انتهت بالحكم عليه بالزندقة، وأزهقت روحه مع أن جوهر الموضوع كان سياسيا، لكن السياج الدوغمائي والقوة السياسية اختارت موضوع المناظرة، بعيدا عن هذا لتتأتى الإدانة والإقصاء.

العجيــب أن المعري قال أكثر من هذا في لزومياته، وذهب في حريته الفكرية مذهبا بعيدا، دون أن يناله أذى، بل عاش محترما من قبل تلامذته ولو أنه وسم بميسم الزندقة أو المروق لكنه لم يحاكم ولم يقتل: هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت

ويهود حارت والمجوس مضلله اثنان أهل الأرض ذو عقل بـلا

دين وآخر دين لا عقل لـه

قضية غيلان كأحد أول ضحايا الحرية الفكرية والعلاقة الجدلية بين الحاكم والمثقف، ولنسمه العضوي بتعبير غرامشــي، أو غير الاستعمالي، كما يسميه حلمي القاعود، أي الذي لا يضع نفســه في خدمة الحاكم، بل الشعب أو ضميره فقط وقناعاته الفكرية. تستمر المأســاة في حياتنا المعاصرة وكأن التاريخ قُدّر له أن يعيد نفسه في عالمنا العربي فقط، فمازال المثقفون التنويريون أو الأحرار أو المغردون خارج ســرب الأنظمة، يجابهون بأشــكال العنف كافة، البدني أو الرمزي وأشــكال الإقصاء والتهميش والســجن والتضييــق وحتى التصفية الجســدية. تحدث الماغوط عــن هذا في إحــدى قصائده وهو يبــوح لنا عن صموده، ويشير إلى التضييق والترهيب الذي يلقاه كل حرّ فقال وهو يخاطب ابنتيه شام وسلافة:

معظم المبدعين والثوار العظام. يحملون أطفالهم مسؤولية التنازلات المتوالية. أمام الرغيف. والحذاء وقسط المدرسة. والدروس الخصوصية. وثياب العيد. وحبكما علمني تحمل الجوع والعطش والألم. تحت الشمس والمطر والثلج والمشانق. والصمود أمام المقابر الجماعية ودبابات الطغاة

هنــاك من الحالات ما يســتعصي على الحصر بدءاً بمهدي عامل، وحســن مــروة ، وفرج فودة وغيرهــم. ما لم يتم تكريــس الحرية الفكريــة في عالمنا العربي ودفاع الأنظمة ذاتهــا عنها باعتبارها المخرج من المأزق الحضاري الذي نعيشــه، وتكريس ثقافة الاختلاف والمغايرة، وفق مبدأ التناغم والوحدة في التعدد، ســنظل ندور في الحلقة المفرغة نفســها، فالأزمة العربية ليست أزمة موارد بشــرية أو اقتصادية، بل هي أزمة حرية وفكــر خلاق قادر على مجابهة الإشكاليات الحضارية الراهنة وإيجاد الحلول العملية لها.

فالمثقف أولا وأخيــرا ليس المكثر من التأليف، ولا الأكاديمي صاحب الجوائز والتكريمات، ولا الفصيح الناطق باســم الحكومة أو الرئاسة، بل هو الإنسان الذي يضع نفســه فــي خندق المواجهة ضــد التخلف والرجعية والاســتبد­اد والطبقية، من أجل إنســان )خاصة حقوق المرأة والطفل والطبقات الهشة كما تسمى( حر متمتع بحقوقه المشروعة والمكفولة شرعا وعقلا. ٭ كاتب جزائري

 ??  ?? إبراهيم مشارة ٭
إبراهيم مشارة ٭

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom